الوعي القوي مثل البذرة يزرع، ثم يسقى باستمرار، ويرعى دون كلل. ومع مرور الوقت ينمو ويكبر ويشتد عوده. آنذاك، يمكن أن يعول عليه في الشدائد. الوعي الحقيقي يصنع ولا يعطى. تصنعه الأزمات والأحزان والحروب، ولا يصنعه فرح مصطنع أو سعادة زائفة أو قلوب ميتة أو عقول مخدرة. الوعي الحقيقي ليس مثل اللغات التي يمكن أن تعلمها في ستة أيام دون معلم. هو في حاجة إلى أكثر من معلم، وإلى أكثر من زمن. إنه يكره اللحظة، لأنه عاشق للحياة. الوعي الضعيف هو وعي أيضا، لكنه وعي زائف صنع من مساحيق التجميل الرخيصة داخل رحم التفاهة، وصنع في عز الظلام لكي لا يرى نفسه في المرآة. هو وعي أخرس لا يتقن إلا لغة العنف، وأعمى لا يرى بعين العقل، وأصم لا ينصت إلى صوت الحقيقة. هو وعي عاشق أبدي للمغايرة في أبشع صورها، ولأبواق الموضة المتوحشة. لكنه كاره أيضا، كاره للزمن الذي يكشف تجاعيده، وللالتزامات غير الملزمة له. إنه وعي شوفيني ونرجسي يقتات من الأنا والغير. إنه وعي لا يعي وعيه فحسب، وإنما لا يعي أيضا الوعي الحقيقي للأغيار. إنه وعي منتقم ولا مسؤول يخبئ في جبة لا وعيه كراهية الواجب. الوعي الحقيقي لا يزهر في واجهات المتاجر مثل دمية باربي، ولن يزهر في موعظة نبي، ولا في رحم أكواريوم، ولا في عرس الذئاب مثل قوس قزح. هو ليس وعي الأقلية لأنه غير شوفيني، وليس وعي الأغلبية لأنه غير عنصري. هو وعي إنساني، وطنه اللاوطن. وطنه كل الأوطان. الوعي الزائف هو ابن الفقر والجوع والجهل والخوف. وهو أيضا ابن الغنى الفاحش والرأسمال المتوحش والتخمة والتعالم والتهور. هو ابن القبيلة. هو وعي يباع ويشترى ثم يباع ويشترى.. الوعي الحقيقي صانع للثقافات: أولا لثقافة الاعتراف: الاعتراف بالأدوار الطلائعية في دحر الأزمة لعمال النظافة أولا، ثم لأطر الصحة ثانيا، فالمنظومة الأمنية و التربوية والفعاليات المدنية والسياسية وشبكات التواصل الاجتماعي والصحافة الحرة ،،،، الاعتراف بوضع إكليل من شرف على صدور رجالات النظافة الذين تصدوا لأزمة الوطن بالمطهرات والمعقمات رغم جيوبهم المعلولة وقلوبهم المكلومة. نعترف آملين في إعادة الاعتبار لوضعيتهم المأزومة. الانحاء، إكبارا، لأطر الصحة التي تجرعت مرارة مزدوجة: مرارة العزل عن حضن الأقرباء، ومرارة الحجر في جحر الوباء. ننحني آملين في منظومة صحية سليمة ترعى جسد الوطن. الانحناء، إجلالا، لتلك السلطة التي تحررت من صورتها النمطية، وصنعت صورة جديدة لسلطة محاورة متعاطفة، خائفة على المواطن والوطن وشاعرة بالحرج والأسف. ننحني آملين في أن تستمر في تشكيل، بشكل دائم، ألبومات من الصور الجميلة والراقية. الانحناء، إكراما، للمنظومة التربوية التي انخرطت بصدق منقطع النظير في أداء الواجب المهني رغم ضعف الإمكانات. ننحني آملين في إعادة الاعتبار للتعليم العمومي، وفي تشجيع البحث العلمي، وفي تحفيز الكفاءات الوطنية وقطع الطريق على السماسرة. الانحناء، احتراما، لهيئات المجتمع المدني الحية واليقظة والمنخرطة في التعبئة النفسية والاجتماعية ضد الوباء، وللفعاليات السياسية المتفاعلة مع قضايا الوطن ونبض الشارع بعيدا عن المزايدات و لغة الخشب. الانحناء، تقديرا، لشبكات التواصل الاجتماعي الحرة وللصحافة النزيهة التي هبت هبة رجل واحد ضد قانون تكميم الأفواه المطبوخ في طنجرة الوباء. ننحني أملا في أن تعود الجهات المسؤولة إلى الرشد، وتتذكر أن الأصوات التي تريد وأد عقيرتها هي التي صدحت رموزا وألوانا في صناديقها. ثانيا لثقافة الإصغاء: الإصغاء إلى صرخة الطبيب الصيني لي وينليانغ مكتشف وباء كورونا وهو على فراش الموت: "يلزم الإصغاء إلى أكثر من صوت واحد في مجتمع صحي"، والوقوف وقفة تدبر على تعليق الفيلسوف السلوفاني سلافوي جيجيك على هذه الصرخة بقوله:" هذه الحاجة الملحة للتعددية لا تعني بالضرورة أنه يجب نسخ النموذج الغربي لديمقراطية متعددة الأحزاب. إنه يدعو ببساطة إلى فتح حيز يمكن فيه سماع انتقادات المواطنين. إن الاعتراض الرئيسي على فكرة أن الدولة يجب أن تتحكم في الشائعات لتجنب الذعر هو أن هذا التحكم نفسه ينشر عدم الثقة ويخلق بالتالي المزيد من الشائعات المؤامراتية. فقط الثقة المتبادلة بين الشعب والدولة يمكن أن تعمل". ثالثا لثقافة الإدراك: إدراك أن الهروب من الأزمة يوقع في فخ أزمة الأزمة، وإدراك كون عزلة الحجز الصحي لا تؤزم، والتباعد الاجتماعي لا يقلق، إذا تم إعمال الحكامة في تدبير الطبيعة المزدوجة والمتناقضة للجسد الانساني: الفردانية واللاخصوصية، الانفتاح على الأغيار والانغلاق على الذات. إدراك لا جدوى تدبير الأزمة بعقلية الأزمة أو بعقلية ما قبل الأزمة، وإدراك لا فائدة في الاستثمار في الأزمة أو في الحلم بدوام الأزمة، وإدراك أن حل الأزمة يكمن في التعامل مع الأزمة ككل وليس كجزء، وفي تشريحها بأدوات التفكير العلمي المنظم والموضوعي، وليس بأدوات التفكير الارتغابي أو الذاتي المزاجي أو الخرافي. رابعا لثقافة المواجهة والبحث عن حلول: كورونا فرصة للتكتل وتشكيل جبهة واحدة من أجل التغيير والتحرر والديموقراطية ومناهضة الاستهلاك، فرصة للتفكير في مجتمع بديل خارج الدولة القومية، وفي مجتمع يحقق نفسه بأشكال التضامن والتعاون العالميين على حد قول الفيلسوف السلوفاني جيجيك سلافوي. هي فرصة لإعادة النظر في أولويات الأفراد والمجتمعات والدول، وفي وضع المؤسسات والمنظومات وأدوارها، وفرصة لصياغة مشروع وطني مجتمعي متكامل.