وصف فتح الله ولعلو، وزير الاقتصاد الأسبق (1998-2007)، تحقيق انطلاقة للاقتصاد المغربي ما بعد أزمة فيروس كورونا المستجد ب"الجهاد الأكبر"، كما اعتبر مواجهة الجائحة بمثابة جهاد يُذكره بالنضال من أجل الاستقلال واسترجاع الصحراء. وقال ولعلو، في ورقة تحليلية نشرها "مركز السياسات للجنوب الجديد"، إن نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين سترتبط باندلاع جائحة كورونا التي تسببت في زعزعة العديد من اليقينيات وفضحت خلال أسابيع محدودة مدى هشاشة الإنسان في محطة متقدمة من العولمة، من خلال حدة الصدمة الاقتصادية التي أفرزتها عالمياً. وأضاف الخبير في العلاقات الاقتصادية الدولية: "على الرغم من أننا مازلنا غير متحكمين في الخروج من هذه الأزمة الصحية فإن كل الملاحظين يتفقون على أن مسار العولمة سيتأثر حتماً بعواقبها نتيجة الانخراط العالمي في الحجر الصحي الذي فرض نفسه كظاهرة معولمة". ووفق تصور ولعلو، الذي يشغل مهمة كبير الباحثين في "مركز السياسات للجنوب الجديد"، فإن هذه الأزمة ستؤدي مستقبلاً إلى مراجعات عميقة للتدبير الاقتصادي والسياسات العمومية، بل للمنظومات السياسية والمجتمعية وللعلاقات الدولية بين الأقطار. ويعتقد الكاتب أن أزمة فيروس كورونا المستجد ستفرض الحاجة إلى الصحة ومعها ضرورة إنقاذ البشر مستقبلاً ضمن الاختيارات الإستراتيجية للسياسات العمومية، بل ستصبح الصحة ضمن الخيارات المشتركة للإنسانية على غرار الاستقرار والسلم. ويرى ولعلو أن مأساة الفيروس التاجي تعكس أحد تجليات عولمة القرن الواحد والعشرين بانحرافاتها، وبسبب حدة التبعية المتبادلة القائمة بين الأنسجة الإنتاجية بالعالم، وزاد: "هكذا فاندلاع الوباء من الصين يمثل أحد أوجه العولمة الجديدة باعتبار هذا البلد أصبح قاطرة الاقتصاد العالمي، فهو يغطي وحده 30 في المائة من ديناميكية نموه و15 في المائة من مبادلاته". وجاء في الورقة التحليلية أيضاً أن تموقع جائحة "كوفيد-19" ضمن العولمة المتقدمة في القرن الواحد والعشرين يرجعنا إلى تاريخ البشرية الذي يبرز أن انتشار الجائحات والأمراض الفتاكة لم يكن يأخذ بعين الاعتبار الحدود الوطنية. لكن جائحة فيروس كورونا المستجد تعكس أكثر من سابقاتها ظاهرة العولمة، لأنها أدت، حسب ولعلو، في بضعة أيام إلى إحداث قطيعة في دينامية الاقتصاد العالمي، فارتبطت بالعولمة من خلال عواقبها السلبية على كل أبعادها، من إنتاج وتجارة وتنقل للبشر. دروس الجائحة تُبين الجائحة، في نظر فتح الله ولعلو، مدى هشاشة المجتمع المُعوْلَم، كما فرضت على الجميع إجبارية العمل الجماعي من أجل التغلب على الإكراهات والعواقب التي أفرزتها، وأدت إلى بروز حاجة الإنسانية إلى مزيد من التضامن وتوحيد الصفوف بين الدول وداخلها. وأكدت ولعلو أن الهشاشة التي اتضحت بفعل الوباء "تسائلنا جميعاً نحن المغاربة والمغاربيين وجنوب المتوسطيين والأفارقة"، مردفا: "سنكون مطالبين بإعلاء وعينا بقيمة الجوار كخيار مشترك، ما يفرض فتح الحدود المغلقة وخلق أسس المصالحة والتقارب في موقعنا التفاوضي في تدبير عولمة ما بعد 2020، والتفكير في المشروع المغاربي الغائب منذ عقود". وتكشف الجائحة أيضاً، حسب المتحدث، مدى محدودية المغالاة في التوجهات والمقاربات الليبرالية الفردانية، وتؤكد أن ضوابط السوق لا يمكن أن تدبر العالم وحدها، وأن الدولة الحامية لها دور إستراتيجي للحد من الانحرافات والانزلاقات التي تتعدد في مجالات تدهور الطبيعة والبعد الاجتماعي ومواجهة الأوبئة والجائحات. ويعتبر ولعلو أن المستلزمات الثلاثة (البيئة والتكافؤ والصحة) تقتضي إقرار مساعدة ضخمة على المستوى العالمي من أجل تحقيق انطلاقة نوعية جديدة للاقتصاد العالمي على غرار ما حدث عندما وُضع برنامج مارشال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية الذي ساعد على بناء أوروبا. من الجهاد إلى الجهاد الأكبر يشير الاقتصادي ولعلو في ورقته التحليلية إلى أن كل المتتبعين اعتبروا أن "المغرب نجح في تدبير الأزمة الصحية رغم ألا أحد يمكن أن يؤكد متى وكيف سيخرج العالم من هذا المنغلق الصحي". ويعتقد الوزير الأسبق أن المغاربة شعروا بالثقة في أن الدولة عازمة على القيام بدورها لحماية الذات، وبأن وراء ذلك ريادة ملكية مؤكدة سمحت بتعبئة العمل على مختلف الجبهات، وأضاف: "هكذا عاش المغرب مرحلة جهاد تذكرنا بنضاله من أجل الاستقلال قبل 1956 وعند استرجاع الصحراء سنة 1975". وإذا كان الأوروبيون استعملوا مفهوم الحرب في مواجهة الجائحة، فيرى ولعلو أن من حق المغاربة استعمال مفهوم الجهاد بالمعنى الإيجابي بالنسبة لمرحلة حماية الذات صحياً، وسيكون عليهم كسب ما بعد كوفيد19، أي تحقيق انطلاقة للاقتصاد الوطني، وهو موضوع الجهاد الأكبر. الدور الإستراتيجي للدولة تؤكد الورقة التحليلية أن الصعوبات الحالية قد تخلق فرصاً للوصول إلى الحلول المفيدة، وسيكون على الدولة أن توظف دورها الإستراتيجي لمواجهة مخلفات الانكماش المنتظر، خاصة أنه يصاحب هذه السنة موسم جفاف طبيعي قلص من الإنتاج الفلاحي. وأكد ولعلو أن المغرب مُطالَب بوضع برنامج لإعادة الحياة للاقتصاد على المدى القصير والمتوسط والبعيد يأخذ بعين الاعتبار كذلك ما ستصل إليه أعمال اللجنة الوطنية المكلفة بمراجعة النموذج التنموي، والتي سيكون عليها استخلاص الدروس من الأزمة الحالية. فعلى المدى القصير، سيكون الهدف تحقيق إعادة جديدة للنشاط الاقتصادي، مع إعطاء الأولوية للقطاعات المنكوبة، مثل السياحة والنقل الجوي، ووحدات الإنتاج والخدمات الصغيرة والقطاع غير المهيكل؛ أما على المديين المتوسط والبعيد، فسيكون على المغرب، وفق تصور ولعلو، استيعاب التحولات المنتظرة وأن يسعى للاستفادة منها، لأن عالم ما بعد 2020 سيعرف بشكل تدريجي تحولات مؤكدة استمراراً للتحولات التي ظهرت ملامحها منذ سنة 2010: - ستعرف وظائف الدولة اقتصادياً تغييرات تفرض الاهتمام بقضايا حماية الذات والصحة والبيئة، وقضايا التوزيع والعدالة الاجتماعية والتكافؤ، إضافة إلى التكنولوجيا الجديدة والبحث العلمي. - المتابعة عن قرب للتغيرات التي سيعرفها العالم في توازن القوى بني الأقطاب الكبرى (أميركا والصين وأوروبا)، ضمن حركية تتقاطع فيها المواجهات والتطاحنات من جهة مع إمكانيات التفاوض والتعاون بالنظر لارتباط مصالح كل الأطراف. - الاستعداد من أجل توظيف إمكانية تراجع ديناميات شبكات القيم العالمية لصالح شبكات القيم الإقليمية، أي إعطاء الأهمية للقرب على حساب البعد، ما يقتضي فتح نقاش مع القارة الأوروبية من أجل تطوير علاقة الشركة لتستند على الإنتاج المشترك وليس على مجرد تحرير المبادلات. - سيكون على المغرب تقعيد نموذجها التنموي على مزيد من التضامن والفعالية، والعمل على المزاوجة بينهما ضمن إطار إقليمي أفرو-أورو-متوسطي، للانتقال من الجهاد لحماية الذات إلى الجهاد الأكبر جهاد ما بعد 2020.