كل من يحاول فهم الاقتصاد الوطني إلا ويصاب بدوار مؤلم من جراء التناقضات التي تكتنف مساراته ونتائجه، تناقضات بين الإمكانيات الغنية التي يتوفر عليها والنتائج السلبية التي ينتهي إليها. تناقضات بين مجتمع مغربي منفتح وأغلبية سكانه من الشباب، ومؤسسات جامدة ومتكلسة، خطابات حكومية ممتلئة بادعاءات وواقع يومي صعب لعموم المواطنات والمواطنين. تناقضات بين إصلاحات سخية لفائدة مناخ المال والأعمال وبين مواقع متدنية ومخجلة في التصنيفات الدولية. استراتيجيات قطاعية طموحة لكن دون تنسيق ضروري يوحدها، بل حتى الإتفاقيات الدولية حول التبادل الحر والتي ناهزت خمسة وستين إتفاقية، لم تثمر للحد من العجز مما دفع المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في تقريره 16 سنة 2014 إلى الدعوة إلى مراجعتها وتجويدها لتخدم مصالح البلاد. هكذا فالاقتصاد المغربي بالقدر الذي سعى فيه إلى إنجاز إصلاحات قانونية ومؤسساتية بقيت أمامه تحديات كبيرة تجسدت واقعيا في تنامي الهشاشة داخل المجتمع مع مظاهر غير منطقية للغنى الفاحش. لقد اجتاح وباء كوفيد 19 الاقتصاد المغربي وهو مطبوع منذ عشرين سنة الأخيرة بتفاوت مهول بين حجم نسب لم تتعدى 3,5%، بمعنى أن الاستثمار في سياسات قطاعية وفي بنيات تحتية يعبر عن مجهودات مهمة، لكنه لم يترجم في نسب مهمة للنمو قادرة على خلق دينامية اقتصادية تستطيع خلق مناصب للشغل وتطور الإنتاج والرفع من الاستهلاك الداخلي. على خلفية هذه الوضعية الاقتصادية اجتاح بلادنا وباء كوفيد 19 في بداية شهر مارس، ودفع الدولة، وهي مبادرة لاستباق انتشار الوباء، إلى إقرار حجر صحي أثر بشكل خطير على كل الأنشطة الاقتصادية. الأمر الذي جعلها تسن سياسة اجتماعية توسع من قاعدة المستفيدين من الرعاية، وتنفق بسخاء لمحاربة التداعيات الاقتصادية للحجر الصحي في كل الإتجاهات: اتجاه المقاولة كما في اتجاه الأجراء، في اتجاه الحفاظ على الحد الأدنى من الإنتاج الضروري كما في اتجاه ضمان حد مقبول من الاستهلاك. وهذا كله له تكلفة مالية باهظة سارعت الدولة لتحملها عبر إنشاء صندوق خاص بمحاربة كوفيد 19، وتشكيل لجنة لليقظة الاقتصادية لمواجهة كل الحاجيات التي يستدعيها الحفاظ على الاندماج والتماسك الاجتماعي لبلادنا. إن الواقع الاقتصادي الذي خلقه تهديد فيروس كوفيد 19 على المغرب جاء قاسيا ومؤلما على كل المغاربة. ذلك أن الجائحة جاءت في سياق سنة فلاحية غير جيدة. والجميع يعلم أن اقتصادنا الوطني رهين التساقطات المطرية. ليس فقط بعد مساهمة القطاع الفلاحي في تشغيل اليد العاملة، بل كذلك في بعد مساهمته في الناتج الداخلي الخام بمعدل 5,65%. وبالنظر إلى أن اختيار المملكة الاعتبار الصحي كأولوية قصوى، فإن الحجر الصحي الذي تم إقراره باكرا سوف تكون له انعكاسات وخيمة على التشغيل وعلى الأجور دون معرفة متى يمكن الحد من هذه التأثيرات السلبية، مادام الأمر يتوقف على اكتشاف دواء ناجع أو لقاح يحمي كل أفراد المجتمع. وبما أن الاقتصاد المغربي يعتمد على الاستهلاك والسياحة والتجارة فإنه سوف يتأثر بالغ الأثر بانطواء الاقتصادات الأوربية على نفسها جراء سياسة الحجر الصحي التي نهجتها اتجاه الوباء. فبالإضافة إلى أن المغرب سيحرم من تحويلات مواطنيه بأوروبا، فهو سيتضرر من تقليص صادراته إليها التي تصل إلى 58%، وحتى المداخيل السياحية التي كانت تصل إلى 70%. كل هذا سينعكس على انخفاض الناتج الداخلي الخام الذي يتوقع أن يتراجع إلى 5,1% في سنة 2020، وإذا استحضرنا إنشاء صندوق خاص لمحاربة الوباء والأموال التي تطلبها والمصاريف التي يتحملها، سوف نتوقع العجز الكبير الذي سوف تعرفه المالية العمومية جراء ارتفاع النفقات الاجتماعية والإقتصادية لمجابهة تداعيات كوفيد 19 على الحياة العامة للمجتمع، والانخفاض الشديد في المداخيل الضريبية، خاصة الضريبة على المقاولات، الأمر الذي سوف يرفع من دين الإدارة المركزية إلى 73% من إجمال الناتج الداخلي الخام للسنة الجارية. كل هذه التأثيرات والإنعكاسات السلبية، وغيرها يحتاج إلى الوقت لنستطيع تقديرها، تنبئ أن وضعية ما بعد الوباء سوف لن تكون إلا أكثر صعوبة وتعقيدا. فالاقتصاد الذي صب كل جهده ومقوماته لمحاربة الوباء، سوف لن يكون من السهل عليه إيجاد التوازنات للحفاظ على السلم الاجتماعي من جهة، والحفاظ على أن يبقى قادرا على النهوض بعد الوباء من جهة ثانية. إن أية محاولة جادة للمساهمة في نقاش وطني يعتمد على الاستهلاك والسياحة والتجارة. فإنه سوف يتأثر بالغ الأثر بانطواء الإقتصادات الأوروبية على نفسها جراء سياسة الحجر حول مرحلة مابعدكوفيد19، يحتاج الوقوف أولا، ولو باختصار عند الخصائص البنيوية التي ميزت الاقتصاد المغربي منذ الاستقلال إلى اليوم، لأن معرفة هذه الخصائص تمكننا من إجلاء نقط القوة والضعف في أنشطة هذا الاقتصاد، وبالتالي تلمس مجالات الإعتماد عند التفكير في بدائل جديدة تليق بإنعاشه والنهوض به في مرحلة مابعد الوباء. إن كل وطني ديمقراطي غيور على وطنه إلا ويطمح لأن يجعل من جائحة كوفيد 19 التي أصابت بلادنا، فرصة تاريخية لتحقيق مراجعة نقدية لأحوالنا ومساراتنا خاصة على المستوى الاقتصادي الذي جعلنا ونحن نحارب الوباء نعرف العالم ووعوده، ونعرف وطننا وحاجياته، ونعرف على وجه الخصوص مقدراتنا الحقيقية وإمكانياتنا المحلية سواء على المستوى البشري وما ينطوي عليه من ذكاء جماعي للمغاربة، أو على المستوى المادي وما يحتويه من ثراء وغنى قادر إدا ما نحن استثمرناه أحسن استثمار، أن يجعلنا أمة محترمة بين الأمم. يتفق كل الدارسين المهتمين بالاقتصاد المغربي، كيفما كانت خلفياتهم الإيديولوجية وتوجهاتهم السياسية، على أن بنية اقتصادنا الوطني تتشكل من ثلاثة دعائم أساسية هي كالتالي: أولا التساقطات المطرية. ثانيا، دول الدولة القوي في تنشيط الاقتصاد.ثالثا: الاعتماد على القطاع الخاص لخلق مناصب الشغل والنمو. بالنسبة للدعامة الأولى والمتمثلة في نسبة التساقطات المطرية لكل موسم فلاحي، فإن جميع المغاربة، وبتجربتهم المباشرة، يدركون أهمية التساقطات المطرية بالنسبة لعيشهم اليومي. ولقد سبق للمقيم العام الفرنسي تيودور ستيغ(19281928) إبان عهد الحماية أن قال: الحكم في المغرب رهين بالمطر (Au Maroc, gouvernes c'est pleuvoir) صحيح أن المغرب اليوم تطور في تقنيات ووسائل التنبؤ بالمناخ، لكن السماء لازالت هي المحدد الأول الذي تبقى عليه فرضيات النمو. المحدد الذي يتحكم في باقي المحددات الأخرى والسبب في ذلك هو أن القطاع الفلاحي هو القطاع الذي يساهم بالقسط الوافر من مجمل /الانتاج الداخلي الخام، وتأثيره على الاقتصاد ككل حاسم وقوي. إذ نجده يوفر 4ملايين منصب شغل، ونسبته من الاقتصاد الوطني تقدر بحوالي 74 مليار درهم وهو ما يعادل 14 % من الناتج الداخلي الخام. ويضم 12,25% من المساحة الكلية للبلاد وبهذا تكون الفلاحة برغم مشاكلها البنيوية نشاطا مركزيا لنمو، وخاصة لنفقات العمومية لأنها تشكل أهم مداخيل المالية العمومية لدول. إن أهمية الفلاحة تفسر أساسا بالضعف الشديد الذي تعانيه القطاعات غير فلاحية. ذلك أن هذه الأخيرة تتسم بضعف المساهمة في ناتج الداخلي الخام مما يعطي العوامل المناخية أهمية قصوى في النمو السنوي للاقتصاد المغربي.