حشد العقلاء أمر معقد للغاية أما حشد القطيع فلا يحتاج سوى إلى راع وكلب شكسبير قال جوزيف دو ميتسر Joseph de Maistre الذي عاش أهوال الثورة الفرنسية لا حماستها: ( إنه لمن الضروري خنق فكر القرن الثامن عشر برمته). وكان يعني أفكار ثورة 1789م التي أسقطت فرنسا في خراب كلفها غاليا طيلة قرن؛ رائد التنوير هذا الذي لم نلتفت إليه كثيرا في الفكر العربي أوصى بضرورة محق أي فكر ثوري لأنه نواة الكارثة: العدمية. حل علينا كوفيد 19 والربيع العربي في احتضار.. هجم على حين غرة والبعض حائر في تفسير فشل ثورات 2011؛ وآخرون متحمسون لموجة ثانية كانت ستكون حاسمة في رأيهم لولا كورونا.. ولكن: هل حقا مقدر لمثل هذا الربيع أن يزهر على غرار ما حدث نهاية الثمانينات بأوروبا الشرقية؟.. الحقيقة المغيبة هي أنه كان منذ البداية محكوما بأن يصير خريفا لأنه لم يتشكل كلحظة ليبرالية- سلمية داعمة للحريات؛ وإنما ارتدى منذ البداية جبة إسلاموية فصلتها ذهنيات أصولية وحاكتها حركات شعبوية تفننت في تأجيج غضب الشعوب الذي وجهته نحو عنف توهمت بأنه سيعصف بأركان الأنظمة السائدة، لكنه وعلى العكس بيض الوجوه القديمة وأعادها للمشهد بقوة أكبر.. راح ضحية الصراع في ليبيا مائة ألف مواطن دون التوصل لحل؛ وأكثر من ذلك في سوريا التي شهدت نزوح 6 ملايين؛ دون أن ننسى مأساة اليمن.. وحتى الثورات التي لم تتطور إلى صراع مسلح توفي فيها المئات عبر أحداث متفرقة؛ تمزقت خرائط وتلك التي لم تتلظى بنار الحروب الأهلية تهاوى اقتصادها إلى الحضيض، ولم تعد قادرة حتى على رد الأمور إلى الوضع السيء الذي كانت عليه قبل 2010.. بعد عقد من ثورة 25 يناير لم يتحرج ثوار البارحة في الترحم على الرئيس مبارك الذي خلعوه وقالوا له ما له وعليه ما عليه، وسنواته العجاف أفضل مما آل إليه الوضع اليوم، أما في تونس فلا تتردد العامة من إبداء حنينها إلى الأيام الخوالي عندما كان الدينار التونسي يعادل يورو أوربي وكان بلدهم الثاني عربيا من حيث جودة التعليم.. طالبت شعوب بالانتخابات ثم انتهت إلى مقاطعة التصويت بكثافة دون أن تدرك بأن الاقتراع هو مجرد آلية تظل معطلة في ظل تجزؤ مبدأ الحريات.. وبدورها تدرك الدول التي ساعدت في إسقاط القذافي بأن مقتله لن يخلص الليبيين من النظام القديم؛ لأن الزعيم ليس سوى صنيعة لهذا النظام المعقد وليس صانعا له.. حكومات هذا الشرق العليل لم تخلق لوحدها هذا بين ليلة وضحاها، وإنما هي نتاج العلاقات الاجتماعية البائدة لشعوب لا تزال مستعدة للدفاع بالغالي والنفيس من أجل تحنيطها في زمن عاصف بالمتغيرات السريعة. الربيع الأوروبي كان إعلانا للحريات بمفهومها الإطلاقي؛ إذ لا يوجد حل وسط بين الحرية واللاحرية.. كان انتصارا لليبرالية التي تعني التصالح مع الذات ومع العالم؛ أما حركات الربيع الإسلاموي فلم تشترك سوى في نزعتها المضادة للحريات.. طرد الثوار الفيمنست علياء مهدي من ميدان التحرير تحت عدسات العالم التي نقلت للعالم حقيقة صادمة جعلته يتساءل باستغراب: كيف يدعي هؤلاء النضال من أجل الحريات وهم يمارسون الاضطهاد والاحتقار والتنكيل بالآخر بدعوى مخالفته لأعراف متوارثة؟.. أما التونسية أمينة فنانة ال Body art الشهيرة التي خطت على بدنها: جسدي حريتي.. فواجهت وحيدة الشتائم والتهديدات والنبذ ممن ثاروا بالأمس القريب وصاحوا: تحيا تونس حرة!!.. وفي ذكرى 20 فبراير اغتال رواد التواصل الاجتماعي افتراضيا مجموعة ناشطات عزل نددن بالاغتصاب؛ وهذه المرة لم تمنع عنهن الملابس المحتشمة السب والقدح والتهديد والاستهزاء.. ما معنى الدعوة إلى الحرية إذا لم تحررنا من الجهل والتقاليد البائدة والحق الممارس باسم المعتقدات التي ليس ضروريا أن يتقاسمها الجميع؟.. ما قيمة الثورات إن لم تحررنا من الإيديولوجيات؟.. إن لم توقظ فينا شعلة التسامح؟.. هل الأصوليون الذين ركبوا على مطالب التغيير وأخرجوا المظاهرات من قلب المساجد ضمانة للحريات والديموقراطية؟.. وهل هناك من ديموقراطية بلا حريات فردية؟ .. كن حرا مؤمنا بالحرية والليبرالية قبل أن تعمد إلى تحرير غيرك.. يتحدث الكثيرون عن موجة ثانية من الربيع العربي وجراح الأول لم تندمل بعد، لكن السؤال المغيب هو: لماذا لم يبد العالم هذه المرة نفس التعاطف والحماس الذين أبداهما مع ثورات 2011؟.. لأن الجميع وقف على حقيقة أن هذه الرقعة الجغرافية في ظل هيمنة الأفكار الأصولية التي تجدرت خلال العقود الثلاثة الماضية، أضحت غير قادرة على ولوج منظومة القيم الكونية؛ ولا يزال أمامها طريق طويل جدا لتتعايش مع مبدأ الحريات الذي هو صعيد الصلابة لديموقراطية حقيقية.. انتهى الربيع العربي بفعل هيمنة الإسلاميين والجماعات التابعة لفكر الإخوان إلى خراب؛ وحتى لو كان قيض له النجاح، فلم يكن لينتج سوى سلطة شمولية جديدة تتفنن في إحياء آليات الإخضاع القديمة. مثل هذه الثورات الشمولية ترتبط بالمحافظة أكثر منها بالتغيير.. ألم ترفرف الأعلام الحمراء فوق دبابات الجيوش الثائرة التي أحرقت العامة قبل غيرها؟.. ألم تنقلب ثورات الأصوليين ضد الأمة ولم تتردد في سحقها؟.. كل الثورات وعبر التاريخ تنتهي إلى بيروقراطيات تستبد بالشعب الذي جاءت لتحرره لأنها في الأصل مضادة للديموقراطيات والحريات التي لا يمكن بلوغها من خلال طريق قصير ومختصر، وإنما عبر صيرورة يلعب فيها التعليم الدور الحاسم. نحن اليوم في حاجة إلى قرار حكيم وشجاع يضع نهاية لفصول هذه الملهاة التي تعيشها كل البلاد العربية بطبعات شعبوية مختلفة؛ ما أسقطنا من خرائط العالم.. قرارات تصالحنا مع التقاليد الكونية ومع حاضرنا، لأن ذلك هو أول طريق للتصالح مع ذواتنا ومع ماضينا.. وأهم قرار عاجل هو إقرار التعليم القائم على المعايير كما سنته الولاياتالمتحدة في الثمانينات وتلقفته منها دول صارت في مقدمة العالم الليبرالي الحر؛ مثل كوريا الجنوبية وألمانيا وسنغافورة وتايوان وإسبانيا والسويد والنرويج وأستراليا... وعنوانه العريض: إعداد معايير أكاديمية صارمة وضوابط أخلاقية كونية ومعارف علمية متجددة ينبغي للطلاب اكتسابها، والأهم أن يكونوا قادرين على أدائها مجتمعيا.. فالتعليم ليس ملء دلو فارغ ولكنه إيقاظ شعلة في النفوس.. وبعدها.. كل شيء سيبدأ في التغير..