تخلد المديرية العامة للأمن الوطني يوم 16 ماي، الذكرى 64 لتأسيسها (16 ماي 1956)، وهي مناسبة تقتضي استحضار مرحلة مفصلية من تاريخ المغرب الحديث والمستقل، الذي خرج وقتها للتو، من معركة "الجهاد الأصغر" وما ارتبط بها من نضال متعدد الزوايا، من أجل إنهاء عهد الحجر والحماية وتحقيق الحرية والاستقلال، إلى معركة الجهاد الأكبر الذي ارتبط بمسلسل بناء أسس و دعامات الدولة الحديثة والمستقلة، وما تقتضيه من بنيات عسكرية وأمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وتعليمية وغيرها، بالموازاة مع الانخراط المبكر في مسار استكمال الوحدة التربية، وهكذا وبعد تأسيس مؤسسة القوات المسلحة الملكية لحماية الحدود (14 ماي 1956)، تم إحداث مؤسسة الأمن الوطني بموجب الظهير الشريف رقم 115-56 بتاريخ 5 شوال 1375 هجرية موافق 16 ماي 1956 (منشور بالجريدة الرسمية عدد: 2274 بتاريخ 25 ماي 1956)، والتي أنيطت بها مهام المحافظة على النظام العام وحماية الأشخاص والممتلكات، لتكون بذلك - إلى جانب مؤسسة الجيش - من المؤسسات الأولى التي شكلت مرآة عاكسة للاستقلال والوحدة والسيادة على الأراضي. ومنذ تاريخ التأسيس، ظلت ذكرى 16 ماي من كل سنة، مناسبة للاحتفاء واستعراض ما تحقق من مكاسب ومنجزات ومشاريع، في إطار حفل سنوي بهيج ينظم برحاب المعهد الملكي للشرطة بالقنيطرة، الذي بات ليس فقط، صرحا علميا لتكوين وصناعة شرطي الغد، ولكن أيضا، إحدى الصروح والمنارات الرائدة في التكوين الأكاديمي والمهني الشرطي في إفريقيا والعالم العربي، شكل عبر سنوات، الواجهة العلمية للمديرية العامة للأمن الوطني، في تكوين نساء ورجال الشرطة والرفع من مستوى كفاياتهم المهنية الصرفة و القانونية والحقوقية والتقنية، سواء في إطار التداريب الأساسية أو في إطار التكوينات المستمرة، وهو يشكل بذلك، القوة الدافعة المحركة لمختلف السياسات والمشاريع الإصلاحية التي انخرطت فيها المديرية العامة للأمن الوطني منذ تأسيسها، خاصة مع بداية العهد الجديد، من أجل تغيير الصورة النمطية للشرطة، والتأسيس لمفهوم جديد للشرطة، مبني على مفردات الشفافية والتخليق والتواصل والانفتاح والقرب من المواطن والاستجابة لتطلعاته وحاجياته الأمنية، وقبل هذا وذاك، الانخراط الفعلي والمسؤول في ما عرفه ويعرفه المغرب من دينامية إصلاحية متعددة الزوايا، وما يواجهه من تحديات ومخاطر أمنية، مرتبطة أساسا بالتطور الكمي والنوعي للجريمة، بشكل يفرض شرطة على درجة كبيرة من اليقظة والاستعداد والاحتراف والاستباق والاستشراف. ذكرى تحل في ظرفية خاصة واستثنائية مرتبطة بجائحة كورونا المستجد "كوفيد19"، فرضت على المديرية العامة للأمن الوطني في بلاغ سابق لها، الإعلان عن إلغاء تنظيم مختلف الأنشطة الخاصة بتخليد ذكرى التأسيس، في ظل فرض حالة الطوارئ الصحية في إطار الحرب الشاملة ضد الفيروس التاجي، وهو نفس الإلغاء الذي طال النسخة الرابعة من أيام الأبواب المفتوحة التي كان من المزمع تنظيم فعالياتها بمدينة فاس غضون السنة الجارية، وهي حرب شاملة، انخرطت فيها المديرية العامة للأمن الوطني، اعتبارا لمهامها وأدوارها المتعددة المستويات في المحافظة على النظام العام وإنفاذ القانون وزجر الجريمة بكل تشكيلاتها، وفي هذا الصدد، بادرت إلى إطلاق تطبيق إلكتروني هاتفي يتيح لرجال الشرطة بمختلف نقط المراقبة، ضبط وتتبع حركة تنقل المواطنين، في إطار الحرص على التطبيق السليم لمقتضيات حالة الطوارئ الصحية التي دخلت حيز التنفيذ منذ 20 مارس الماضي، وهو تطبيق طوره فريق من المهندسين والتقنيين التابعين لمديرية الأنظمة المعلوماتية والاتصال بالمديرية العامة للأمن الوطني، لاعتبارين اثنين: أولهما تسخير التكنولوجيات الحديثة في دعم عمل مختلف الوحدات الشرطية العاملة بالشارع العام، وثانيهما: الرهان على "الرقمنة" من أجل الحرص على التطبيق الأمثل لحالة الطوارئ الصحية وزجر المخالفين لها، وفي سياق متصل، أقدمت المؤسسة الأمنية على إطلاق بوابة إلكترونية (Covid.dgsn.gov.ma) موجهة للتواصل مع المواطنين ومصالح الأمن الوطني، حول الممارسات والتصرفات ذات الصلة بخرق مقتضيات حالة الطوارئ الصحية، وكلها آليات تواصلية رقمية، تدعم ما تم ويتم تنزيله من مخططات عمل على صعيد مختلف المصالح الخارجية، في إطار الإسهام في مراقبة تطبيق مقتضيات حالة الطوارئ الصحية وحظر التجول الليلي، موازاة مع التصدي لفيروس الإشاعات والأخبار الزائفة الذي ارتفع منسوبه في ظل الجائحة، ومواجهة مختف أشكال الانحرافات والتصرفات الإجرامية التي من شأنها تهديد سلامة الأشخاص والممتلكات والمساس بالنظام العام. وعلى الرغم من أن الذكرى غابت عنها المظاهر الاحتفالية بسبب الظرفية الخاصة والاستثنائية المرتبطة بمحاربة وباء كورونا المستجد، فهذا لا يمنع من الإشارة إلى ما تحقق من منجزات ومكاسب مادية واجتماعية لنساء ورجال الأمن الوطني خلال السنة المنصرمة (2019)، ونخص بالذكر، المصادقة على نظام أساسي جديد، عزز المكتسبات المادية والمهنية، وافتتاح مركز للفحص بالأشعة والتحاليل الطبية بمدينة الرباط، وهي مكتسبات تشكل مرآة عاكسة للعناية الموصولة التي ما فتئ صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله، يوليها لأسرة الأمن الوطني، لتحقيق مقاصد خلق مناخ اجتماعي ومهني منسجم ومحفز، من شأنه الإسهام في خلق ظروف حياة كريمة ماديا ومهنيا واجتماعيا وصحيا، بشكل يسمح بأداء الواجب المهني على أحسن وجه، في إطار من النزاهة والشفافية واحترام القانون وصون الحقوق والحريات والتضحية ونكران الذات. وإذا كانت الذكرى 64 تزامنت وجائحة كورونا، فلا مناص من التأكيد، أن المديرية العامة للأمن الوطني، مطالبة اليوم، ليس فقط، بالحرص على التطبيق السليم لمقتضيات حالة الطوارئ الصحية في ظل حالات التراخي والتسيب والعبث التي برزت خلال الأيام الأخيرة، بل ووضع مخطط عمل متعدد المستويات لمواكبة الخروج التدريجي من الأزمة الصحية، والحرص على فرض ما سيتم إقراره من تدابير وقائية من قبيل استعمال الكمامات والحرص على التباعد الاجتماعي، واستثمار ما جادت به "كورونا" من دروس وعبر، بالرهان على "الرقمنة" في تجويد طرق ومناهج العمل لكسب رهان الجودة والسرعة والنجاعة والفاعلية، وفي هذا الصدد، يمكن استثمار ما تتيحه تكنولوجيا الإعلام والاتصال من حلول وبدائل وإمكانيات تواصلية، لإحداث ما يمكن تسميته بالشرطة "الافتراضية'' التي تتيح للشرطي التموقع في صلب وضعيات مهنية افتراضية مماثلة للواقع، من قبيل التحقيقات الافتراضية، شرطة المرور الافتراضية، المداهمة والتدريب الافتراضي، الرماية الافتراضية، تقنيات التدخل الافتراضي، الدفاع الذاتي الافتراضي... إلخ، وهي حلول افتراضية، يمكن التعويل عليها للرفع من القدرات المهنية والقانونية للشرطيين. وتعزيزا للبعد الافتراضي، يمكن الرهان على آلية "التواصل الإلكتروني" بين المصالح على غرار ما هو معمول به في عدد من الإدارات، بشكل يضمن السرعة والنجاعة في اتخاذ القرار والشفافية والوضوح، والحرص على القيام بحفظ الأرشيف (الورقي) تدريجيا في شكل أرشيف إلكترونية، كما نصت على ذلك المادة 11 من القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف، والتفكير في إمكانية خلق "بوابة إلكترونية" لتقديم الخدمات الأمنية "عن بعد" وكذا للتواصل مع الموظفين والمرتفقين على حد سواء، مع الرهان على الفضاء الأزرق، لربط جسور التواصل المأمول مع رواد ومستعملي مواقع التواصل الاجتماعي، تعزيزا لشرطة القرب، وما تقتضيه من تواصل وإشعاع في الواقع (الميدان) كما في العالم الافتراضي. وإذا كانت السنوات الأخيرة، قد ميزتها بعض الخرجات لبعض الشرطيين الذين اختاروا العالم الأزرق للتعبير عن تظلماتهم، فهي مناسبة أخرى للدعوة إلى خلق "منصة إلكترونية" خاصة برفع التظلمات، تكريسا للحكامة الأمنية الجيدة، ولوضع حد لكل الممارسات والتصرفات غير المسؤولة المخلة بالضوابط المهنية، والتي من شأنها المساس بصورة المؤسسة الأمنية وقيمتها وهيبتها، دون إغفال أن "جائحة كورونا" تفرض الحرص على الجوانب الوقائية والاحترازية، حرصا على السلامة الصحية للشرطيين، أثناء التدخلات بالشارع العام، خاصة فيما يتعلق بإيقاف الأشخاص ونقلهم وإيداعهم بأماكن الاعتقال، وفي ظل هذه الأزمة الصحية، بات من الضروري خلق خليات صحية على صعيد مختلف المصالح الخارجية، لتقديم المشورة الصحية لضباط الشرطة القضائية، والتثبت من الحالة الصحية لبعض الموقوفين قبل وضعهم رهن تدبير الحراسة النظرية، ونختم القول، بأن نبارك لأسرة الأمن الوطني ذكرى التأسيس، شأنها في ذلك شأن أسرة القوات المسلحة الملكية، منوهين بالأدوار المتعددة المستويات التي تقوم بها المؤسستان، حماية للأمن الداخلي والخارجي وحرصا على سلامة الأشخاص والممتلكات...