تحولات جوهرية في قطاع التكنولوجيا المالية خلال سنة 2024    رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو سيخضع لعملية جراحية لاستئصال البروستاتا    دراسة حديثة تظهر وجود تريليونات الأطنان من الهيدروجين تحت سطح الأرض    طقس الأحد.. ثلوج وأمطار مرتقبة في بعض مناطق المملكة    خطير.. 120 قتيلا في تحطم طائرة ركاب في كوريا الجنوبية    تحطّم طائرة على متنها 181 شخصا أثناء هبوطها بكوريا الجنوبية    ارتفاع حصيلة ضحايا حادث تحطم طائرة في كوريا إلى 120 قتيلا    مجموعة IGMA SCHOOL بالجديدة تحتفي بالمتخرجين وذكرى 30 سنة على تأسيسها    وصول 30 مهاجرا ينحدرون من الريف الى ألميريا    لقاء يجمع عامل إقليم الحسيمة مع ممثلي قطاع الطاكسيات    اصطدام بين دراجتين ناريتين على الطريق بين امزورن وتماسينت يخلف إصابات    الترتيب ونتائج البطولة الاحترافية الدورة ال16    داخل جمعية!!.. محاولة فتاتين وضع حد لحياتهما بمادة سامة تستنفر السلطات بطنجة    الماص يقلب الطاولة على الوداد في البطولة الاحترافية    منتخب الكراطي يحصد 20 ميدالية في البطولة العربية    بعد لقاء الملك محمد السادس والرئيس الموريتاني.. الرباط ونواكشوط يتجهان لإحياء اللجنة العليا المشتركة بينهما    بوتين يعتذر عن حادثة تحطم الطائرة الأذرية دون تحميل روسيا المسؤولية    ارتفاع مفرغات الصيد البحري بميناء الحسيمة    زياش يشترط على غلطة سراي مستحقاته كاملة لفسخ العقد    الرئاسة المغربية لمجلس حقوق الإنسان تؤدي مهمتها على أكمل وجه    بحضور أزولاي.. لقاء ثقافي بالصويرة يبرز أهمية المكان في تشكيل الهوية    خنيفرة تحتضن المهرجان الدولي للقصة القصيرة    وفاة ملاكم بعد أسبوع من فوزه باللقب الذهبي لرابطة الملاكمة العالمية    الكعبي ينهي سنة 2024 ضمن أفضل 5 هدافين في الدوريات العالمية الكبرى    المغرب داخل الاتحاد الإفريقي... عمل متواصل لصالح السلم والأمن والتنمية في القارة    حملة مراقبة تضيق الخناق على لحوم الدواجن الفاسدة في الدار البيضاء    قوات إسرائيلية تقتحم مستشفى بشمال غزة وفقدان الاتصال مع الطاقم الطبي    تأجيل تطبيق معيار "يورو 6" على عدد من أصناف المركبات لسنتين إضافيتين    الداخلة : اجتماع لتتبع تنزيل مشاريع خارطة الطريق السياحية 2023-2026    غزة تحصي 48 قتيلا في 24 ساعة    "العربية لغة جمال وتواصل".. ندوة فكرية بالثانوية التأهيلية المطار    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    ارتفاع ليالي المبيت بالرباط وسط استمرار التعافي في القطاع السياحي    اليابان.. زلزال بقوة 5.1 درجة يضرب شمال شرق البلاد    خبراء "نخرجو ليها ديريكت" يناقشون موضوع مراجعة مدونة الأسرة    حصيلة الرياضة المغربية سنة 2024: ترسيخ لمكانة المملكة على الساحتين القارية والدولية    حجم تدخلات بنك المغرب بلغت 147,5 مليار درهم في المتوسط اليومي خلال أسبوع    مطالب بإنقاذ مغاربة موزمبيق بعد تدهور الأوضاع الأمنية بالبلاد    ترامب يطلب من المحكمة العليا تعليق قانون يهدد بحظر "تيك توك" في الولايات المتحدة    فرح الفاسي تتوج بجائزة الإبداع العربي والدكتوراه الفخرية لسنة 2025    مجلس الأمن يوافق على القوة الأفريقية الجديدة لحفظ السلام في الصومال    عائلة أوليفيا هاسي تنعى نجمة فيلم "روميو وجولييت"    دراسة: أمراض القلب تزيد من خطر اضطراب الخلايا العصبية    مبادرة مدنية للترافع على التراث الثقافي في لقاءات مع الفرق والمجموعة النيابية بمجلس النواب    استثناء.. الخزينة العامة للمملكة توفر ديمومة الخدمات السبت والأحد    وفاة زوج الفنانة المصرية نشوى مصطفى وهي تناشد جمهورها "أبوس إيديكم عايزة ناس كتير تيجي للصلاة عليه"    يامال يتعهد بالعودة أقوى بعد الإصابة    المدونة: قريبا من تفاصيل الجوهر!    2024.. عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية بين المغرب وقطر    استهلاك اللحوم الحمراء وعلاقته بمرض السكري النوع الثاني: حقائق جديدة تكشفها دراسة حديثة    الثورة السورية والحكم العطائية..    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حادثة البيضاء في 1907 .. عندما انهال قصف فرنسا على الشاوية
نشر في هسبريس يوم 11 - 05 - 2020

تطرّق عبد العالي المتليني، حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ المعاصر، للسياق التاريخي لحادثة الدار البيضاء الواقعة في 30 يوليوز 1907، التي أمطرت فيها البوارج الفرنسية المدينة طوال عشرة أيام متوالية، مُخلّفة مئات الضحايا إن لم يكن الآلاف، حيث أفضت انتفاضة الشاوية إلى احتلالها من قبل الفرنسيين سنة 1907، وبعدها أطلقوا العنان لفرسانهم لاحتلال ما شاؤوا من الأراضي المغربية.
هكذا، قال المتليني، في مقالة بعث بها إلى هسبريس، إن "علال الخديمي ربط حادثة الدار البيضاء في كتابه (التدخل الأجنبي والمقاومة بالمغرب 1894-1910: حادثة الدار البيضاء واحتلال الشاوية)، بالأهمية الاقتصادية التي أصبحت للشاوية ومعها الدار البيضاء نهاية القرن 19؛ إذ إن الرأسمال الفرنسي أصبح يفد على المنطقة بشكل مطرد، ما جعل الأحلام الاقتصادية الفرنسية تكبر وتنمو أكثر حول المنطقة".
السياق التاريخي للحادثة
وأضاف الباحث في تاريخ المغرب أن ذلك "مهد الطريق لفرنسا لبداية تحكمها في السوق المالية المغربية، وكان أحد تجلياتها قرض 1904، زد على هذا الظروف الداخلية التي عاشتها الشاوية أواخر القرن 19، المتمثلة في ذلك الصراع الخطير الذي نشب بين عدة قبائل بسبب تعسف قائد قبيلة المزاب، بحيث اضطر الحسن الأول إلى إرسال ابنه مولاي بلغيث لإخماد نارها، تزامنا مع توجهه لتافيلالت في إطار حركة تأديبية لقبائلها سنة 1893".
وأوضح الكاتب أنه "على المستوى الوطني، يعزى جزء مما حدث إلى وفاة السلطان الحسن الأول (1894م)، حيث تميز الوضع بعده باستبداد حاجبه القوي أحمد بن موسى (أبا أحماد) بأمور الدولة، فبلغ به التجاسر حد أخذ البيعة لابنه الأصغر مولاي عبد العزيز في سطات، بضغط وتوجيه منه، في المقابل استثنى منها نائب السلطان، وابنه الأكبر على الشاوية مولاي بلغيث، هذا الأخير الذي تذمر من هذا الذي حدث، وقرر التخلي عن مهامه في هذه المنطقة المشتعلة".
وتابع: "تمادى أبا احماد أكثر عندما لم يشرك السلطان الذي اختاره بنفسه في تدبير شؤون الأمة، بدعوى حداثة سنه (يشاع أنه كان ابن 14 سنة)، لكن الذي زاد من تعقيد الوضع الداخلي، وهيأ كل الأسباب للعبث بمستقبل المغرب، الوفاة المفاجئة لأبا أحماد سنة 1900م، وانتقال أمر تدبير أمور الدولة على حين غرة لهذا السلطان الشاب، الذي كان ما يزال يفتقد لأي خبرة في الإدارة والتسيير، بسبب سياسة الإبعاد التي انتهجها حاجب أبيه طوال تلك الفترة، ففتح هذا المستجد باب المغرب على مصراعيه للفتن المحلية، ولعبث ممثلي الدول الأجنبية بمصالحه، وبحريته واستقلاله".
من جهة أخرى، "ساهم في التعجيل بهذه التحولات أواخر القرن 19 استباحة حمى الدولة المغربية، وانتهاك كل حرماتها، مع اتساع دائرة الحماية الفردية، والمخالطات الناتجة عن الاتفاقيات التجارية المغربية-الأوروبية، التي تولدت عن الاتفاق المغربي-الانجليزي لسنة 1856م، وبيكلار 1861م، ثم اتفاق مدريد 1880م، وصولا إلى الخزيرات سنة 1906م"، وفق المقالة.
وأردف صاحب الوثيقة: "لوحظ إسراف القناصل في منحها لفئات مختلفة من المغاربة، خاصة من ذوي المكانة التجارية المرموقة، مسلمين ويهود، وعلى السواء من سكان البدو والحضر، فأوقع هذا الوضع عظيم الضرر بالاقتصاد المغربي، وأسهم بشكل خطير في محاصرة موارد خزينة الدولة المغربية، لدرجة أصابها الإفلاس، ودفع المخزن في غير ما مرة للتوجه لهذه الدول طلبا للسلف والقرض، بشكل متواتر أدهش محيط المخزن نفسه، وكانت منطقة الشاوية وقبائلها من ضمن المناطق المتضررة من هذه التحول".
وزاد أن "المخالطة والحماية انتشرت بشكل كثيف لدى قبيلة مديونة وزناتة وأولاد جرير، حتى إنها دفعت العديد من أسرها إلى ترك قراهم والهجرة إلى الدار البيضاء، هذه الأخيرة التي تمكن فيها التجار الأوروبيون أوائل القرن 20 من السيطرة على جانب كبير من إنتاج المنطقة؛ إذ كان 6 تجار فرنسيين يمتلكون بالمخالطة 16 ألف رأس من الأغنام، مع 81 فلاحا من أولاد حريز سنة 1867م، وامتلك تجار إنجليز سنة 1870م بالمخالطة حوالي 30 ألف رأس من الأغنام هناك، بالإضافة إلى أراض فلاحية، وعقارات حول الدار البيضاء".
الملامح الأولى للانتفاضة
وبشأن ظهور الملامح الأولى لانتفاضة الشاوية، أوضح المتحدث أن "تزايد التدخل الأوروبي في شؤون المغرب، وفي شؤون قبائله على وجه الخصوص، أدى إلى ردود فعل قاسية من قبل بعض قبائل الشاوية، والمغاربة عموما، فانطلق العنف ضد الأجانب في وقت مبكر في هذه القبيلة بتحريض من بعض السكان، أو من المحميين وبعض المخالطين أنفسهم، الذين قادوا أحيانا ملاحمها أو شاركوا فيها".
وأوردت المقالة أنه "في سنة 1894، أقدم ثلاثة من الرجال على قتل تاجر ألماني يدعى F.Newmann، فأثار الحادث حنق وغضب القنصل طاطنباخ، ولم يهنأ له بال إلا عندما هم المخزن بإعدام أحد القتلة الثلاثة إرضاء له، فاستغلت جموع قبائل الشاوية الواقعة لإثارة الفتن والقلاقل بالمدينة، وبلغ بهم المقام حد مطالبة عامل الشاوية، عبد الرحمان بركاش، بإطلاق سراح المسجونين على ذمة الالتزام مع الأجانب".
تبعا لذلك، اضطر في البداية للاستجابة لرغبتهم، قبل أن يتنصل من هذا الالتزام فيما بعد، يؤكد الباحث، بل وتجرأ على القبض على بعض أفراد قبيلة زناتة نكاية فيهم، فهاجت قبائل الشاوية مرة أخرى العامل، فما كان من المخزن إلا أن استبدله على إثر هذه الحوادث بالقائد أحمد بالعربي المديوني امتصاصا لغضب الثوار، ولم يكتف بهذا، وإنما أرسل عمه مولاي الأمين لتهدئة النفوس وضبط الأمن بتراب هذه المنطقة.
وأعقب هذه الأحداث في السنوات القادمة ما هو أشد بأسا وخطورة، فما بين 1901 و1903، أصبح سكان الحوز والشاوية ملزمين بتمويل حركة القواد الذين اجتباهم المخزن لمواجهة المتمرد بوحمارة شرق مدينة فاس (1902م)، بالإضافة إلى أداء واجب الترتيب العزيزي، ثم الصبر على تعسفات القواد في مجالها الترابي، فلم يعد والحالة هذه أمام سكان الشاوية سوى الانتفاض للتحرر من كل هذه القيود.
لذلك، قام سكان قبيلة أولاد فرج في وجه القائد "بوعلي"، وخربوا قصبته، وتنصل على إثرها العديد من قبائل الشاوية من كل الالتزامات والكلف المخزنية، مع القواد أو المخزن نفسه، وسار على طريقتهم ومنوالهم أولاد سيدي بنداود وأولاد سعيد، وغيرهم كثير ابتداء من 1903م، فرفضوا أداء ضريبة الترتيب وباقي الواجبات الأخرى.
وبسبب عجز المخزن عن إخماد حركتهم وإرجاعهم إلى جادة الصواب، وبدون سابق إنذار، تحول سكان الشاوية من الخروج عن طاعة المخزن وممثليه إلى تصفية الحسابات مع الأجانب بالمدينة، خاصة بعدما تسامعوا بخبر الاتفاق الودي الانجليزي الفرنسي لسنة 1904م، يضيف صاحب المقالة، وما زاد الطين بلة، موافقة المخزن على الشروط المذلة لمؤتمر الخزيرات سنة 1906م، الذي هدد البلاد ورمى بها في أحضان الإمبريالية الفرنسية.
لذلك، كانت حركة هؤلاء جد دقيقة وواضحة المعالم والأهداف، فقد صوبوا سهام نبالهم إلى الأجانب بالشاوية، ومعاونيهم وسماسرتهم، كما حدث مع الحاج محمد الجزولي، سمسار اليهودي الانجليزي مسرس مرضوخ الذي هاجم منزله أولاد حريز والمداكرة، فأثار هذا اهتمام الأجانب بالبيضاء، وهرعوا مسرعين لإعلام المخزن ودولهم بهذه التطورات، فكتب قنصل فرنسا بطنجة سنة 1906م عن تحريض الشيخ البوعزاوي للسكان ضد الأجانب بالدار البيضاء، فيما لم يغرب عن نظر هؤلاء القناصل ارتفاع الصيحات نفسها من قبل الشيخ ماء العينين للغرض نفسه في الصحراء المغربية، بعدما زار مراكش والتقى بنائب السلطان "م. عبد الحفيظ".
تفاصيل الأيام الدامية للدار البيضاء
وبشأن تفاصيل الأيام الدامية للدار البيضاء (30 يوليوز 1907)، أكد المتليني أن "تفاصيل هذه الواقعة بدأت يوم 28 يوليوز1907م، عندما تقدم ممثلو قبيلة مديونة إلى عامل الدار البيضاء "أبو بكر بوزيد" بلائحة مطالب، تركزت حسب أولوياتهم عل تحقيق ثلاث متمنيات؛ هي طرد المراقبين الفرنسيين من ديوانة الميناء، تخريب سكة الحديد التي أنشأها الفرنسيون بين الميناء والمحجر، والإيقاف الفوري للأشغال الجارية في الميناء.
لكن ممثل السلطان احتج بالديون المستحقة على المخزن، ما قد يمنعه من التقيد بهذه المطالب، يستطرد الأكاديمي ذاته، عندها استيأس رجال الوفد من تحصيل مرادهم، وما كان من الحشود المحتشدة، والعوام، ومدبري الثورة من السكان القرويين والحضريين إلا أن ولوا وجوههم شطر أشغال البناء التي كانت تشرف عليها "La compagnie Marocaine" بميناء الدار البيضاء، وحاولوا بكل جد وحزم إيقاف وعرقلة استمرارها.
وأضاف صاحب كتاب "A travers le corps de débarquement de Casablanca(1907-1908)"، قائلا: "في سياق هذا الهرج والمرج، قام القنصل البرتغالي بإعلام القنصل الإنجليزي بالدار البيضاء، في غياب عميد السلك الدبلوماسي الفرنسي M.Malpertuis الذي كان في إجازة بفرنسا، بضرورة عقد اجتماع لتقديم شكوى مستعجلة للسيد بوبكر عامل السلطان، حقنا للدماء المتوقعة، بسبب الاتصال اليومي الذي كان للمغاربة مع الأوروبيين بمقلع الأحجار"، بتعبير الباحث الجامعي.
وتابع: "لكن الثوار اندفعوا بقوة ومنعوا مرور القاطرة التي كانت تحمل الحجارة الموجهة لبناء الرصيف، عبر وضع حجر ضخم على السكة، هنا نزل أحد العمال الأوروبيين لمعاتبة الحشود الغاضبة، فما كان منهم إلا رموه بالحجارة، وأمام هول الموقف، استسلم السائق ومن كان على متن القاطرة، وفي خضم تماوج الناس، أسفر الحادث عن قتل 3 عمال فرنسيين، وثلاثة إسبان، وثلاثة ايطاليين، فكان مجموع القتلى 9 أوروبيين من عمال هذه الشركة، وأشعلوا النار تحت الصفيحة المعدنية للقاطرة".
بعدها توجه الثوار ناحية الملاح حيث سكنى اليهود بالمدينة ونهبوه، بدعوى توفير الزاد الذي سيسعفهم في مواجهة كل الصعاب التي قد تعترضهم في المستقبل، وبعد انتهاء هذه المذبحة، وقف الثوار عند باب مراكش يهتفون برحيل الفرنسيين، ثم إنه من أجل إضفاء النجاح على عمليتهم، وبغية شحذ الهمم للقادم من الأيام، ولضمان انخراط الساكنة في مقاومة الفرنسيين بالشاوية، أشاع الثوار خبر سحقهم للفرنسيين في هذه الموقعة، فتحقق لهم ما كانوا يريدون.
في هذه اللحظة، كان هناك طبيب فرنسي يراقب ما يقع من شرفة منزله، دون أن يكون قادرا على التدخل لإسعاف الضحايا، يدعى "Merle"، ظل يعاين التطورات التراجيدية لهذا الحادث المأسوي إلى حين تفرقت الجموع، فنزل بمعية 14 من الفرنسيين غير المسلحين، و10 من جنود المخزن، وتوجه إلى الشاطئ، وتمكن بشق الأنفس من أخذ الجثث إلى القنصلية الفرنسية، لينتقل بعدها مباشرة برفقة القائم بالأعمال القنصلية بالصويرة إلى طنجة لإعلام وزير فرنسا بما حدث.
وأردف الأكاديمي المغربي قائلا: "في وقت تحصن فيه ما تبقى من الفرنسيين ببناية قرب البحر، وافق المخزن بدعم من القنصل البريطاني على توفير الحماية لهؤلاء المتحصنين، وفي 31 يوليوز بلغ الخبر مسمع هذا الوزير عن طريق Merle، وأرسل على جناح السرعة برقية تلغرافية إلى باريس في الموضوع، فجاء الرد بإعطاء الأمر للطراد كاليلي والقائد أولفيه بالإبحار في اتجاه ميناء الدار البيضاء".
الإنزال الفرنسي واحتلال الشاوية
واستغل الفرنسيون حادث مقتل عمال الشركة المغربية، فسيروا لهذا أسطولا مدرعا وقوات إنزال لاحتلال الدار البيضاء أولا، ثم الشاوية ثانيا؛ ففي فاتح غشت وصل الطراد كاليلي إلى الميناء، وشرع في الاتصال بالقنصلية الفرنسية، وبعد مشاورات مع الجهاز القنصلي بالبيضاء، قرر جنود هذه السفينة الهبوط لمعاقبة الجناة، غير أن ممثلي الأجناس أشاروا عليهم بعدم الهبوط بقوة قليلة، خوفا من تكرار مذبحة أفظع من التي سبقتها، وتلقى باشا المدينة الأمر منهم بإخلاء الطريق التي تفصل بين الميناء والقنصلية.
وزاد الباحث: "ما بين 2 و4 غشت 1907م، قام باشا الدار البيضاء بتطهير المدينة من رجال القبائل المجاورة، بالتعاون مع قوات مولاي الأمين، بحيث تنفس الأوروبيون الصعداء، وأصبح بإمكانهم الخروج من المدينة، ولكن بحذر وحيطة كبيرتين، وفي وقت كان الكل يعتقد أن الأمور عادت إلى نصابها بالبيضاء، فاجأ الفرنسيون المخزن في ليلة 4 غشت، وبالضبط حوالي الساعة 11 ليلا، بتلقي القنصلية الفرنسية بشكل غير متوقع من القائد أولفيه الرسالة التالية: (عند الفجر سيرسو سرب أمام الدار البيضاء، وستنزل أيضا قوات كبيرة كذلك، فمن الضروري إعلام مولاي الأمين بأنه في أول طلقة سيتم قصف المدينة)".
ولتنفيذ المهمة على أكمل وجه، طلب كاليلي مساعدة الطراد Du chayla، الذي كان لحظتها قبالة كاب سبارطيل، وأُتبع بعتاد كبير آخر في اليومين المواليين، حينها أبلغ مولاي الأمين الفرنسيين بأنهم سيكونون في مأمن من أي حركة معادية، آملا في احتواء الوضع ومنع أي تطورات لا تحمد عقباها، لكن المخطط الفرنسي كان يبتغي شيئا آخر، فما إن بلغ الوقت الخامسة من الصباح نفسه حتى أنزلت ثلاث زوارق 70 رجلا تحت إمرة Bllande بالميناء، وأرغموا حراس أبوابه على فتحها أمامهم تحت وابل من الرصاص، فخلف دويه المتناثر في السماء رعبا كبيرا عند سكان المدينة.
وكان هؤلاء الجنود متوجهين نحو القنصلية التي كانت تبعد ب 250 مترا من الميناء، ومجرد تجاوزهم لباب الميناء، بدأ الطراد بقنبلة المدينة (فجر 5 غشت 1907م)، وشمل القصف كل الاتجاهات بطريقة عشوائية، بما فيها القصبة ومحيط القنصلية الفرنسية، فاشتعلت النيران في كل الأرجاء، واستمر القصف لمدة ثلاث ساعات، وشاركه الطراد "دوشايلا" باستهداف فرسان القبائل الذين كانوا يسيطرون على المدينة.
ولقد "راع الأمر عم السلطان، فاستعجل مراسلة الفرنسيين عبر القنصل الانجليزي لإيقاف القصف، لكن القنصل الفرنسي رفض هذا المطلب، واشترط إنزال "دوشايلا" تعزيزاته التي استقدمها"، يردف المتليني.
وفي منتصف النهار (دائما يوم 5 غشت)، أنزل "دوشايلا" هذه التعزيزات فوق صخور شاطئ "سيدي بليوط"، تحت حماية مدافع السفن العسكرية بالميناء، و37 من القوارب الحربية الأخرى الراسية على مياهه، ووصلوا إلى القنصلية الفرنسية والبرتغالية، ونقلوا من بها تحت حماية الجنود الفرنسيين إلى الطراد "كاليلي" لتأمين حياتهم من بنادق المغاربة الثوار.
وفي اليوم الموالي (06 غشت)، مع الثالثة صباحا، أنزل الزورق الحربي الاسباني "ألفارو دي بازان" حوالي 300 من جنود البحرية، بغرض الوصول إلى قنصلية بلادهم، واستقبل الميناء كذلك الطراد "فوربن" الذي وصل من جزر "Açores" البرتغالية، تحت هتافات الأوروبيين الذي كانوا على متن سفينة بخارية إنجليزية، استجابة لبرقية وزير الحربية، بعد أحداث 30 يوليوز، وكان مستقرا على بعد 160 ميلا من طنجة، تبعا للمصدر عينه.
"وأخيرا، ظهر في اليوم السابع من هذا الشهر ما كانوا يبيّتون؛ إذ أنزل الفرنسيون قوات ضخمة بلغ تعدادها 30 ألف جندي لاحتلال الشاوية، بينما كانت أعمال القنبلة ما تزال مستمرة للحيلولة دون اقتراب مقاتلي المنطقة، وحسب الأستاذ الخديمي، فالحادثة لم تكن بريئة، إنما جاءت في سياق تشوق الفرنسيين لاحتلال السواحل الأطلسية للمغرب، فكان أن تاق رجال الشاوية بحدسهم وبما كانوا يعاينوه لطرد من وجد منهم بالشاوية للحيلولة دون الوصول إلى هذه اللحظة، أما الفرنسيون فوجدوه مبررا لتحقيق مخطط دبر بليل"، تضيف الوثيقة.
واستدرك الباحث قائلا: "نزلت قوات الجنرال Drude بالشاوية بعدما فعل الطراد كاليلي وباقي السفن الحربية الأخرى أفاعيلها بأهالي الشاوية، وكان مجموع جنوده المقاتلين 30 ألفا، بحيث أرغمت معداته القبائل على التراجع عن حركتها، لما ميز جنود فيلقه من عنف مفرط، وبسبب شدة بأسهم على أهل الشاوية، فلم يجد ممثلو الثوار بدا من المطالبة بالتفاوض للاستسلام والخضوع، ورأت قبائل دكالة المشاركة إلى جانب ثوار الشاوية رأيهم، في وقت كان هذا الجنرال قد تمكن من السيطرة على مخيم Taddert وسيدي إبراهيم".
ومضى قائلا: "أما البعض الآخر فلم يهن ولم يستكين، وظل ثابتا على مقاومة الفرنسيين مستصغرا كل الخسائر، مهما أثخن جنود الجنرال في القتل بأرضهم وفوق تراب آبائهم وأجدادهم، فتشكيل أنوية جديدة للمقاومة بالبلاد في عز الاستكبار الفرنسي، وخاصة في قصبة مديونة".
هكذا، أسند حكام باريس الأمر بعده إلى الجنرال "Damade" في يناير 1908م، وكان أشد تطرفا من سابقه، فقد اتفق مع الحكومة الفرنسية على ضرورة معاقبة سكان الشاوية وأشياعهم، بل واحتلال أرضهم وبلادهم، فلم يهنأ له بال إلا عندما سرى سلطانه على قصبة برشيد، وسطات، والعديد من المستوطنات في أحواز الرباط، ووضع لهذا الغرض حاميات رصينة بالمحمدية وبوزنيقة...، وجاءت هذه التوسعات في الأراضي المغربية، عقب استغلال الفرنسيين للأخطاء التي ارتكبها الألمان بعد هذا الحادث، وعجز المخزن عن تحصين البلاد والعباد من جور هؤلاء وظلمهم.
روايات مفسرة للحادث
وأردف كاتب المقالة أن الروايات التاريخية المفسرة لأسباب ما حدث تعددت، "فبعضهم ربط المشكل بتدنيس العمال بهذه الشركة لمقبرة إسلامية قرب موقع الأشغال، والبعض الآخر بحث في الخيوط الرابطة بينها وبين الوضع الذي شهدته السياسة الخارجية للقوى الإمبريالية في أوائل ق20م، وفي مقدمتها الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، فخلص إلى أن الأسباب تكمن في الرغبة الملحة للفرنسيين في احتلال للشاوية، مستغلين تعاظم تجارتهم بشكل لا تخطئه العين في مرسى المدينة، وتوظيفها كقنطرة لأجرأة مخطط يقضي بضم المغرب بأكمله، انطلاقا من الشاوية، ثم استكمال حلم إمبراطوريتها الاستعمارية فيما سمي تاريخيا بإفريقيا الفرنسية".
"أما الرواية الاستعمارية، دائما حسب الأستاذ الخديمي، فأوردت تفسيرا لما وقع، لخصته في سماع مغاربة الشاوية لصفارة قاطرة Decauville، فأذكى سماع هذا الصفير الحماس في النفوس، ودفع بهؤلاء (الفرنسيين) لارتكاب مجزرة يوم 05 غشت 1907م، ذهب ضحيتها المئات من أبناء الشاوية والقبائل المجاورة. وإسقاطا لمذهب الرواية الكولونيالية، علق عليها بالقول فيما معناه، إن أعمال البناء والتجهيز كانت قد بدأت منذ مارس 1907م، فلِمَ سينتظر سكان الشاوية إلى غاية 30 يوليوز لينتفضوا ضد الفرنسيين؟"، وهنا، جاز القول إن قائد جيوش الاحتلال بالدار البيضاء، ربما كان أكثر موضوعية من هؤلاء، عندما برر هذا الحادث برفض قبائل الشاوية وعموم بلاد المغرب التنازل عن استقلالهم وحريتهم، من خلال تفسير وضع السكة بالتهديد الذي يمس صيانة الاستقلال"، كما جاء في الوثيقة ذاتها.
ومن وجهة نظر أخرى، يرى "valéras"، صاحب كتاب "Une drame au Maroc"، أن السبب يعود إلى استهداف رجال من قبائل الشاوية لمجموعة من الفرنسيين كانوا في رحلة لدراسة إقامة خط للسكة يربط الشاوية بميناء الدار البيضاء، حيث خلف الحادث عددا من القتلى، فأثار ذلك غضبا كبيرا في الأوساط الاستعماري بالجزائر وحاكمها العام، وحثوا سلطات بلدهم الأم على الثأر لدماء هؤلاء القتلى، بينما يرى "Henri Grasset" أن الأحداث هي مؤامرة أسهم في إشعال فتيلها الحاج حمو، رئيس أولاد حريز، نجل عامل الدار البيضاء السابق، الذي كان غاضبا من عدم خلافته لأبيه، بحيث استبدل ببوبكر بن بوزيد، وكان يريد من ورائها خلق قلاقل للسلطان على حساب الأجانب بالشاوية.
وأبرز المتحدث أنه "لا يمكن فصل حادث الشاوية في نهاية يوليوز وبداية غشت 1907م عما كان يحيط بالمغرب من أخطار، وما يتهدد سلامته واستقلاله أواخر القرن 19م وفي أوائل القرن 20م من أهوال جسام، ولا يمكن بأي حال من الأحوال ثنيه عن تلك الضغوط الرهيبة التي مارستها القوى الإمبريالية عليه، والتي ازدادت حدتها بتعاقب نكبات عظام، في مقدمتها احتلال الجزائر سنة 1830م، وهزيمة معركة إيسلي سنة 1844م، ثم المعاهدة اللغم التي انبثقت عنها في "لآلة مغنية سنة 1845م".
يضاف إلى ذلك "هزيمة حرب تطوان في 1860م، وما تبعها من بداية التحرشات الفرنسية بالتراب المغربي في الجنوب، فأسهمت في احتلال توات سنة 1900م والقصور المجاورة، ناهيك عما ألم بالجسد المغربي من كل صنوف الفواجع والمواجع، عند تنصيب ليوطي حاكما لوهران والضواحي في 1903م، بحيث تطلع لاحتلال وجدة في الشمال الشرقي ووضعها نصب عينيه، بسبب المناوشات التي قضت مضجعه من حركات المجاهدين على الحدود الشرقية للمغرب، فتحقق له هذا الحلم قبيل احتلال الشاوية في غشت 1907م بوقت قليل".
عواقب الحادثة محليا ووطنيا
من جهة أخرى، تضخمت المشاكل الداخلية وطالت مختلف المناطق والجهات، ووجد بالمغرب مجالان، واحد يعرف ببلاد المخزن، وآخر ببلاد السيبا، وظهرت التمردات والثورات، كثورة الجيلالي الزرهوني المعروف بالروكي بوحمارة 1902م، والريسوني، وثورة بني مطير، والدباغين بفاس...، بل إن العائلة المالكة لم تسلم بدورها من هذه التحولات، فانشطرت بين مؤيد للمولى عبد العزيز وداعم لسلطان الجهاد عبد الحفيظ، حسب المقالة التاريخية.
وبالرجوع إلى ما تولد عن مخاض حادثة الدار البيضاء، خلص صاحب المقالة إلى أن "10 أيام من قصف المدينة خلفت ضحايا عد منهم المئات إن لم يكن الآلاف، فتم تدمير جزء غير يسير من قصبة الدار البيضاء، والمخزن شبه عاجز عن رد العدوان على بلاد الشاوية، عندها أقدم سكان الشاوية، حسب الباحث عبد السلام كنينح في أطروحته الموسومة بImage(s) française(s) du Maroc avant le protectorat، على خلع بيعتهم للسلطان عبد العزيز، ومبايعة أخيه المولى عبد الحفيظ (1908-1912م)".
هكذا، بويع كسلطان للجهاد بمراكش، فأرسل فعلا آلاف المقاتلين لدعم رجال الشاوية ضد هؤلاء الغزاة، وظل يدعم في هذا الاتجاه، بإرسال رسائل بخط يده، يحث فيها العلماء، وزعماء القبائل، وشيوخ الزوايا، وغيرهم من كبار الشخصيات بالمخزن، لدعمه في مقاومة الأجانب المعتدين، وبالولاء والسمع له دون سواه، فاستجاب له من الأعلام المشهورة آنذاك "الشيخ ما العينين"، والعالم الفاسي المعروف "محمد بن عبد الكريم الكتاني".
وأشار متحدثنا إلى أن "محنة الشاوية أفضت إلى احتلالها من قبل الفرنسيين سنة 1907م، وبعدها أطلقوا العنان لفرسانهم لاحتلال ما شاؤوا من الأراضي المغربية، لكن سنة 1911م ستحمل للمغاربة مفاجأة كبيرة، تمثلت في استعانة السلطان مولاي عبد الحفيظ بالفرنسيين في الشاوية ضد حركة بني مطير، التي حاصرت فاس العاصمة، ونصبت بمكناس "مولاي الزين".
وأورد أن "فرنسا أغاثته على وجه السرعة بقوات الجنرال موانيي، راميا هو وبلاده فك الحصار عن السلطان وعاصمته، التي اشتد وضعها على الساكنة بفعل الحصار المطبق لجنود عقا البوبمدماني، والقبائل التي ساندته في هذا التمرد (عرب سايس، الشراردة وبعض قبائل الأطلس)، في وقت كان هناك من يفاوض منهم السلطان للقبول بالحماية إنقاذا للبلاد من حال السيبا التي ذاع انتشارها، وافقدت المخزن خيوط التحكم في البلاد والعباد، وتحقق للفرنسين مرادهم بفاس يوم 30 مارس 1912م".
لكن في المقابل، يخلص الباحث إلى أن "هذه المحنة أنتجت منحا للمنطقة في المدى المنظور، إذا ما أغفلنا الحديث عن الاحتلال، فلقد كان انتصار الفرنسيين في واقعة الشاوية سببا في تثبيت أقدامهم بهذه الجهة المهمة، وأعطى تفوقهم بها القابلية لاستمرار مشاريع البناء، بل وتطويرها وتنويعها، فكان أن ابتدأها هؤلاء بالميناء، فمكنت عمليات الإصلاح والتطوير فيه من انتقاله إلى احتلال المرتبة الأولى ضمن الموانئ المفتوحة للتجارة بالمغرب منذ 1902م، وإلى غاية ما بعد الاستقلال، وأصبحت المدينة موقعا منظورا لتطورات أكبر بكثير مما كان يأمله حتى الفرنسيون أنفسهم".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.