لقد ميّز الله تعالى شهر رمضان عن باقي الشهور، وفضل أيّامه المعدوداتِ عن سائر الأيام، فهو الشهر الذي أُنزل فيه القرآن الكريم، وبُعث فيه النبي الرحيم، ووُصلت فيه الأرض بالسماء بالوحي الأمين، ليهتدي به الأنام إلى ربهم، ويسيروا على الطريق المستقيم إلى أن يبلغوا المنزلة المَرضية. ولئن كانت سائر أعمال البر مقرِّبة إلى الله تعالى، كالذكر وتلاوة القرآن، والإحسان إلى الخلق... فإن دُعاء الله والتضرُّعَ إليه من الأعمال المرغوبة، والشعائر المطلوبة، الجالبة لرضوان الله سبحانه، الموجِبة لمحبته. فالدعاء عبادة تصل العبد بربه مباشرة من غير وسائط، قال تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ"[البقرة/186]. ويتأكد فضل الدعاء وضرورته في بعض الأوقات التي تكون مظِنّة الإجابة، كشهر رمضان بأيامه ولياليه، فهو الموسم الذي يغتنمه العقلاء وينتهزه النجباء للالتجاء إلى الله تعالى، وطلب العفو منه، والتضرع إليه، وطلب قضاء الحوائج منه سبحانه، وهو الكريم الذي لا تنتهي نعمه، والغني الذي لا تنقضي خزائنه. قال تعالى: "أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ"[البقرة/186]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ"[البخاري/1145]. فإن كان الثلث الأخير من الليل في سائر الأيام ساعة تجاب فيها الدعوات، فكيف بالثلث الأخير من ليالي رمضان؟ إنها لحظات غالية يغتنمها من وفقهم الله إلى ذلك، وهداهم إلى سبيله. أولا: دلالات الدعاء. الدلالة الأولى: الإقرار بالعبودية المطلقة لله تعالى. إن الدّعاء والتضرع إلى الله، والالتجاء إليه في لحظات اليسر والعسر من العبادات الجليلة التي رغّب فيها الشرع ودعا إليها الإسلام، وقد أثنى الله تعالى على عباده من الأنبياء والصالحين الذين يكثرون من دعائه ويرجون رحمته، قال عز وجل: "إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ"[الأنبياء/90]. فيما حذر أولئك المستكبرين الذين يستنكفون عن عبادته ودعائه، فقال سبحانه: "إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ"[غافر/60]، والمقصود بالعبادة في هذه الآية الدعاء بوجه خاص، فقد تأتي مفردة "العبادة" في القرآن الكريم للدلالة على الدعاء كما في هذه الآية نفسها، قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله: "أي دعائي. فأمر تعالى بالدعاء وحض عليه وسماه عبادة"[1]. وفي الحديث أن النعمان بن بشير رضي الله عنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "إن الدعاء هو العبادة"، ثم قرأ: " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي"[المسند/18352]. الدلالة الثانية: الافتقار إلى الله تعالى. لقد خلق الله تعالى عباده، وجعلهم مفتقِرين إليه، ليس لهم وجود إلى به، وما بهم من نعمة إلا من عنده، فهو الحي القيوم سبحانه، وجعل دعاءهم إياه عبادة يؤجرون عليها ويثابون. وفي الحديث القدسي الذي يرويه رسوله عن ربه إذ يقول: " يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ"[مسلم/2577]. وقد حكى لنا القرآن الكريم كثرة التجاء الأنبياء إلى الله تعالى، ومداومتهم على الدعاء، وهم صفوة الخلق، وخيرة البشر؛ فمِن دعاء موسى عليه السلام: "رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي"[طه/25-26-27]، وعن دعاء أيوب عليه السلام قال تعالى: "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" [الأنبياء/83]، وعن دعاء النبي زكرياء يقول تعالى:"وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ"[الأنبياء/89]. فلكل نبي من الأنبياء السابقين دعوة مستجابة، كما لخاتم النبيين سيدِنا محمد دعوة مستجابة كذلك، إلا أنه صلى الله عليه وسلم من فرط حبه للمؤمنين، وتعلقه بهم، وانشغاله بمصيرهم في الآخرة، ادّخر دعوته لتكون شفاعة لأمته يوم العرض الأكبر، كيف لا وهو الذي يردد في سجوده "أمتي، أمتي"، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ"[البخاري/6304] فعليك يا رسول أصدق الصلوات وأزكى السلام مادام الملك للرحمن. ثانيا: فضل الدعاء في رمضان. إن شهر رمضان شهرُ الطاعات وأعمال الخير، وموسم الإقبال على الله؛ تفتح فيه أبواب الرضوان كلُّها، وتغلَّق فيه أبواب السخط، وتُضاعف فيه الأجور، وتقبل فيه الأعمال، وتجاب فيه دعوات المُضطرين، وتُلبّى فيه حاجات المتضرعين إلى الله. روى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ" [ابن ماجه/1752]. فالصائم حين صومه على أزكى حال، باطنا وظاهرا، وقد أمسك عن شهواته، وحبس نزواته، وتفرغ إلى إرضاء ربه، فكيف لا يكون حاله طيبا إذن تقبل دعوته؟ وربنا طيب لا يقبل إلا طيبا، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خُلوفُ فمِ الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك"[المسند/8057]. إن شهر رمضان شهر عظيم، يتودد فيه الله تعالى إلى عباده بنعمه التي لا تحصى، ويُقبِل عليهم بمنحه التي لا تعد، ويَفتح لهم كل أبواب الرضوان والفلاح، فهو قريب منهم، مجيب لدعواتهم، نهارا وهم صائمون، وليلا وهم قائمون، قال الله تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُومِنُوا بِيَ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" [البقرة/186]. ومن حكمة الله سبحانه أن تكون هذه الآية العظيمة القدر، الجليلة المعنى، المُطَمْئِنَة للمؤمن بين آيات الصيام من سورة البقرة، للدلالة على كون شهر رمضان مناسبة للإقبال على الله بالدعاء والإلحاح فيه، وهو سميع مجيب لدعوات السائلين مالم يكن فيها إثم. قال سيد قطب رحمه الله: " نجد ذلك العِوض وهذا الجزاء في القرب من الله، وفي استجابته للدعاء. إنها آية عجيبة.. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين.. ويعيش منها المؤمن في جنابٍ رضيٍّ، وقربى ندية، وملاذ أمين، وقرار مكين. وفي ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة الوحيّة.. يوجِّه الله عباده إلى الاستجابة له، والإيمان به، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح." [2]. رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّ ربَّكم حَييٌّ كريمٌ، يستَحي مِن عبدِهِ إذا رفعَ يدَيهِ إليهِ بدعوَةٍ أن يرُدَّهُما صِفرًا ليسَ فيهما شيءٌ"، إن فضل الله تعالى على خلقه عظيم، ومن كرمه وفضله عليهم ألا يرد دعاءهم دون إجابة، لذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من يسأل الله تعالى إلى الإلحاح في الدعاء واليقين بالإجابة، وفي شهر رمضان يكون الدعاء آكد، والإلحاح مطلوب، والإجابة متيقَّنة. ثالثا: عودة إلى الهدي النبوي. إننا إذا عدنا إلى السيرة النبوية الشريفة، سنجد ما لا حصر له من المواقف والمشاهد التي يتضرع فيها النبي الكريم إلى الله، ويدعوه بإلحاح، وهو نبي الله المختار، ورسوله المجتبى، وخليله المصطفى؛ وإنما أراد رسول الله بذلك أن يدلنا على السبيل، ويهدينا إلى الطريق، وهو الأسوة الحسنة للمؤمنين. لا يخفى عنك أيها القارئ الكريم أن غزوة بدر الكبرى جرت وقائعها في أيام رمضان، وقد أبلى فيها المسلمون بلاء حسنا، رغم قلة العدد والعتاد، بالمقارنة مع العدو من أعداد المقاتلين وعُدة القتال؛ إلا أن ما يفيدنا في موضوع هذه المقالة، هو تضرع رسول الله إلى الله، ودعاؤه إياه، وإلحاحه في الدعاء قبيل انطلاق المبارزة، وقد عجل الله تعالى له الإجابة، وتحقق النصر المبين، "فقد حكى عمر بن الخطاب إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء يوم بدر، قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاث مائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العُصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)، فمازال يهتف بربه مادّاً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزم من ورائه وقال: (يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك وعدك) فأنزل الله عز وجل: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)[الأنفال/9] فأمده الله بالملائكة"[3]. الهوامش: [1] أبوعبد الله القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، نشر مؤسسة الرسالة، ج3، ص178. [2] سيد قطب، في ظلال القرآن، نشر دار الشروق، ج1، ص173. [3] أكرم ضياء العمري، السيرة النبوية الصحيحة، نشر مركز بحوث السنة والسيرة-قطر، ص362