ربما الحاجة ماسة في ظل النقاش المطروح حاليا حول استعمال تقنية المحادثة بالصوت والصورة لمخاطبة المشتبه فيه داخل معتقله إلى تحديد مسبق، بين مختلف الفاعلين وعموم المهتمين بشكل يرفع اللبس عن بعض المفاهيم الموظفة بمناسبة هذا النقاش. ولذلك فمساهمتي المتواضعة هذه هي محاولة لتسليط الضوء على بعض جوانب هذا الموضوع، وأود ابتداء تسجيل جملة من الملاحظات بهذا الخصوص. أول هذه الملاحظات إن لم أقل جوهرها هي تلك المتعلقة بطبيعة هذا الإجراء المستجد في حد ذاته والمتمثل في استحالة إحضار المتهمين المعتقلين إلى جلسات المحاكمة. ومرد هذه الاستحالة المؤقتة كما هو معلوم يعود إلى القرار الذي اتخذته المندوبية العامة لإدارة السجون بوقف نقل المعتقلين خارج أسوارها، تماشيا مع الإجراءات الاحترازية لحماية الساكنة السجنية لا سيما بعد ظهور بعض الإصابات في عدد من السجون. ومن هنا فإن التحديد المفاهيمي المسبق كفيل بتجاوز الكثير من أوجه الخلاف والتباعد في الرؤى، حول هذه المسألة موضوع الحديث ويكفل توجيه النقاش -ولا شك- نحو وجهته الصحيحة حتى تتم الإحاطة به إحاطة شاملة من مختلف جوانبه التقنية والقانونية والعملية، وغيرها. هذا ما يقودنا لطرح السؤال التالي: هل نحن فعلا أمام "محاكمات عن بعد"، أم نحن بصدد "تقاض عن بعد"، أم نحن فقط بصدد تدبير مسألة تعذر إحضار المتهمين من السجن للأسباب السالفة الذكر، ولأجل ذلك تم اللجوء إلى استعمال إحدى البدائل التي تتيحها التكنولوجيا للتواصل بين المحكمة بمكوناتها والمتهم عبر المحادثة الصوتية والمرئية. والملاحظ أن الحديث من قبل بعض الفاعلين المؤسساتيين والمهتمين بمناسبة إعمال هذا الإجراء المستجد عن "محاكمة عن بعد" أو "التقاضي عن بعد" أو "التقاضي الإلكتروني" يطرح الكثير من اللبس وفيه بعض التضخيم أيضا، ومرد ذلك إلى أن طبيعة المحاكمة التي نحن بصددها تتم في مكانها الطبيعي والمعتاد، ألا وهو قاعات المحكمة وتحضره الهيئة القضائية وهيئة الدفاع وكل من له صلة بالقضية من شهود وضحايا (مادام هؤلاء لم يشملهم المنع من الولوج إلى المحاكم)…غير أن الغائب عن هذه المحاكمة هو المتهم فحسب. وصحيح كما هو معلوم أن هذا الأخير يبقى هو صلب المحاكمة والحلقة المحورية فيها والمعني الأول بالضمانات المقررة لفائدته وكذا لفائدة تحقيق العدالة والإنصاف بصفة عامة، غير أن غيابه والحالة هذه هو غياب جسدي مادي فقط، لذلك جاءت هذه الآلية لتعوض هذا الغياب بالتخاطب الصوتي والمرئي معه، أو بمعنى أدق ضم حيزه المكاني الذي هو فيه داخل السجن إلى حيز قاعة المحكمة التي تنعقد فيها الجلسة وتحقيق تفاعله مع ما يجري فيها من تحقيق للدعوى… وبالتالي فإن هذه العملية ولئن لم تكن مثالية ما دمنا إزاء ظرفية استثنائية، فإنها بالمقابل تمثل حلا واقعيا لا يسعف في تحقيق حضورية المتهم فحسب، وإنما يحقق كذلك مبدأ التواجهية ويضمن حق الدفاع الذي يمكنه الترافع عن موكله في نفس هذه الظروف. وغني عن البيان أن التقاضي عن بعد هو غير المحاكمة عن بعد لكونه يحيل إلى التقاضي كحق مكفول لكل شخص للولوج إلى المحكمة للدفاع عن حقوقه ومصالحه التي يحميها القانون، والتقاضي عن بعد بهذا المعنى يعني توظيف التقنية لتسهيل هذه العملية وتيسير مختلف الإجراءات والقدرة على الولوج إليها مع ما يعني ذلك من توفير عناء التنقل وربح الوقت وجودة الخدمة… بينما التقاضي الإلكتروني هو مفهوم أوسع وأشمل ويتعلق بمنظومة متكاملة تستعمل الوسائل المعلوماتية والرقمنة في شتى مراحل الدعوى، بل وتتيح تفاعل مختلف الفاعلين من خلال منصات إلكترونية معدة لهذا الغرض، بمن فيهم مساعدو القضاء. ومن الملاحظات التي يمكن إثارتها كذلك حديث البعض عن توظيف تقنية "الفيديو كونفيرونس" في التواصل مع المتهم، فهل بالفعل نحن أمام توظيف هذه التقنية التفاعلية أم أن الأمر غير ذلك! إن عناصر الجواب تكمن في مجموعة من الخصائص التي لا تنطبق على نازلة الحال، طالما أننا أمام مخاطبين اثنين متباعدين في المكان فحسب وليس أكثر، وهما من جهة أطراف ومكونات المحاكمة الحاضرون فعليا في الجلسة من هيئة قضائية ودفاع.. مكانهم موحد في قاعة المحكمة، ومن جهة أخرى الطرف الثاني ألا وهو المتهم القابع في المؤسسة السجنية. وكما هو معلوم، تفترض تقنية "الفيديو كونفيرونس" حصول تفاعل بين عدة أطراف متواجدين في حيز مكاني مختلف، لذلك فإن الاستعمال الأمثل لهذه التقنية التفاعلية كما يوحي معناها الأصلي في اللغة الإنجليزية هو المؤتمرات والاجتماعات المهنية… ومن هنا يمكن أن نتساءل، هل سيرافع الدفاع من مكتبه مثلا دون الحاجة للتواجد فعليا داخل قاعة المحكمة، وهل يمكن للمحكمة أثناء نظرها في قضية معينة أن تلجأ إلى التخاطب المباشر والفوري مع المترجم أو الخبير المعين داخل مكتبهما… مما لاشك فيه أن هذه العملية التفاعلية والمركبة غير قائمة وغير موجودة حتى ينطبق عليها وصف "الفيديو كونفيرونس". غير أنه في المقابل وإن كان غير متصور في ظل التجربة القضائية المغربية -على الأقل في الوقت الراهن- تخاطب سواء المحامي أو باقي مساعدي القضاء مع الهيئة القضائية في إطار تقنية "الفيديو كونفيرونس" بمعناها المذكور وانطلاقا من مكاتبهم المهنية، فإن الأمر لا يعني الاستحالة المطلقة في التجارب المشابهة ولنفس الظروف المرتبطة بجائحة كورونا، وهو ما سارت عليه بعض المحاكم الفرنسية مؤخرا من خلال إتاحة هذه الإمكانية للدفاع، للترافع عن بعد عن طريق شاشة تفاعلية تجمع بين الهيئة القضائية في المحكمة، والمتهم انطلاقا من المؤسسة السجنية، هذا الأخير يمكن أن يستفيد من مؤازرة دفاعه ويرافع لفائدته من مكتبه المهني. * منتدب قضائي بالنيابة العامة لدى محكمة الاستئناف بالناظور