كثيرا ما توقظ أزمات الحاضر كوارث الماضي التي اعتُقِدَ أنّها قد طُويت للأبد، وتذكّر بعمق تأثير الأوبئة التي عرفها التاريخ البشري في مجرى العالم، وحضاراته وثقافاته، وهو ما لا تشكّل الجائحة الحالية، وفق الكاتب الغالي أحرشاو، استثناء له، بعدما حوّلت العالَم إلى سجن كوني كبير ينتظر الخلاص باكتشاف علاج أو لقاح. وينظر الكاتب والسيكولوجي أحرشاو في الجزء الأوّل من مقاله الذي تنشره جريدة هسبريس الإلكترونية، إلى أثر الجائحة على العلوم بعدما كان جزء مهم من العالم ينظر إليها بوصفها سجلا للحقائق المثبتة التي لا تقبل التشكيك أو التَّفنيد، إلى أن اتضح بشكل فجائي أن ممتهنيها، وخصوصا في ميادين التطبيب والصحة عامة، تخترقهم اختلافات معينة. كما يتتبّع الكاتب الامتحان العسير الذي يشكّله فيروس "كورونا" لمنظومة العلم والعلماء، وذكاء الإنسان وكفاءته، ومنظومة القيم والنظام الاجتماعي، مفرّقا بين صنوف من التفسيرات العلمية والغيبية، والعامية والعلمية، ليؤكّد أنّه رغم كون الهجمات الوبائية التي اعتقد كثيرون أنّها قد اختفت ستتكاثر وتتقوّى بفعل تدخّل الإنسان في الطبيعة وتلوثيها، تبقى العلوم والمعارف بمختلف تخصصاتها حقولا معرفية خصبة للتداول والسجال والاختلاف، بحثا عن الحقيقة التواقة أولا وقبل كل شيء إلى خدمة الإنسان. نصّ المقال: نبتغي من خلال هذه المساهمة مساءلة مكانة العلوم ودور العلماء في التعامل مع ما يعيشه العالم من تداعيات صحية ونفسية مؤثرة ومن انعكاسات اجتماعية واقتصادية رهيبة نتيجة جائحة كوفيد-19. فغايتنا الكشف عن معالم تلك المكانة وعن مقومات ذلك الدور بخصوص أساليب التعامل مع تلك الجائحة، استطلاعا وفهما وتفسيرا وتدبيرا، من خلال استحضار جملة من الحقائق والوقائع التي تقعِّد منظومة العلوم والعلماء، واستنطاق عينة من القضايا المرتبطة بالموضوع المطروح عالميا ووطنيا. لكن قبل ذلك، يستحسن بنا الاستهلال بمقدمتين اثنتين: - حيث إن العلم والبحث العلمي ليس حكرا على دول بعينها، فالأكيد أن دورنا في المغرب لا يجب أن يقتصر في مواجهة هذا الوباء على الانتظارية والاتكالية، بل صار من الواجب الانخراط في مشوار البحث بهدف الخلق والإبداع والابتكار. وهذا أمر بدأنا نلمس بعض بشائره ونجني بعض ثماره من خلال ما أصبحت بعض الكفاءات المغربية المتمكنة من ناصية العلم والبحث العلمي تساهم به من اختراعات وابتكارات قابلة للتوظيف في مواجهة التداعيات الصحية الجسمية والنفسية لذلك الوباء. - الراجح أنه لم يعد من المقبول المفاضلة في البحث العلمي بين ما هو خاص بعلوم الطبيعة وما هو خاص بعلوم الإنسان، لأن غايتهما معا تصب في تحقيق رفاه الإنسان ورقيه من خلال خدمة التنمية الشاملة. فأمر التمييز بينهما لا يعدو أن يكون إلا في الشكل والدرجة. وخير دليل آني على أن العلاقة بين هذين البعدين هي علاقة تفاعل وتكامل وليست علاقة تفاضل وتباين، هو أن مخرجات وتطبيقات كليهما صارت مطلوبة وضرورية في التعامل مع الجائحة الحالية، إن على مستوى الطواقم والتجهيزات والتدخلات الطبية، أو على مستوى مساهمات وتدخلات الأخصائيين في علوم النفس والطب النفسي. وهذه مسألة سنعود إليها في أحد محاور هذا المقال. "الجائحة": امتحان عسير للعلوم والعلماء في الواقع كثيرا ما توقظ أزمات الحاضر كوارث الماضي التي كان يعتقد أنها طويت ودفنت إلى الأبد في الذاكرة الجماعية. فبعدما أصبح فيروس كوفيد-19 جائحة عالمية، صار كثير منا يقوم بحفريات في تاريخ ذاكرة الأوبئة علَّه يعثر فيها على ما يشفي الغليل ويبدد الشكوك التي حلت بالإنسانية جمعاء نتيجة كونية هذا الوباء الذي كما جاء في مقال سابق لي، نشرته هسبريس خلال شهر أبريل 2020: "(...) إذا كان تفشي هذا الوباء قد كشف عن نقاط ضعف كبيرة في الاستجابة العالمية لمواجهته بالعلاج واللقاح اللازمين، فالأكيد أن الأوبئة المختلفة التي عرفها التاريخ البشري مثل الطاعون والموت الأسود والجدري والكوليرا والأنفلونزا الإسبانية وغيرها، قد غيرت مجرى العالم وحصدت أرواح الملايين من ساكنته، وأثرت في حضاراته وثقافاته المتعاقبة... وهذا أمر يصدق على الوباء الحالي الذي عَوْلَمَ العالم من جديد ليحوله من قرية صغيرة إلى سجن كوني كبير بفعل العزل الصحي، وذلك في انتظار الخلاص بحدوث معجزة قريبة في مجال اكتشاف علاج منتظر أو صناعة لقاح مرتقب". بالاحتكام إلى منطق العلم وضوابطه، فالراجح أنه لم يسبق للعلماء التنبؤ باحتمال وقوع وباء مدمر بهذا الحجم والمستوى وبهذه السرعة والحدة، رغم كون العالم يعيش منذ سنوات عصر ازدهار الاكتشافات الميكروبيولوجية والثورات الرقمية التنبئية والذكاءات الاصطناعية الاستشرافية. إن ما هو حاصل ويحصل، يعتبر بحق امتحانا عسيرا لمنظومة العلم والعلماء، واختبارا صعبا لذكاء الإنسان وكفاءته، وزعزعة قوية لمنظومة القيم والنظام الاجتماعي. فليس من باب المبالغة القول إن الجائحة الحالية تشكل أشد صدمات عصر العولمة الحديث. فالفيروس الكامن وراءها يتجاهل ويتحدى مختلف الأجناس وشتى الحدود. فهو يهوى السفر والترحال بدون جواز عبر مختلف وسائل النقل البرية والبحرية والجوية وحتى الهوائية ليحل ضيفا سريع الانتشار والعدوى وسط أكثر ما يمكن من ساكنة أغلب أقطار المعمور. فمثلما سبق لي شخصيا التنصيص على ذلك، وَاهِمٌ من يعتقد بأن العالم سيعود بعد انطفاء وتلاشي هذه الجائحة إلى وضعيته السابقة، وخاطئ من يظن أن عناصر الإيمان، العقل، العلم، التعلم، العمل، القيم، التقدم، كمقومات جوهرية لهذا العالم ستبقى هي نفسها. فكل هذه المقومات وسواها ستعرف تغيرات وتحولات، قوامها ترسيم وتأثيث خارطة جديدة لعالم جديد تخترقه طولًا وعرضًا تداعيات رهاب هذه الجائحة التي ساوت بين جميع البشر. فلا فضل لأبيض على أسود، ولا لعجمي على عربي، ولا لمسيحي على مسلم، ولا لغني على فقير إلا بحكمة العقل وتوازن النفس ووفرة المناعة وعمق الإيمان. فالجميع أضحى يعيش نوبات الخوف والهلع والقلق نفسها، إلى حد أن حوالي الثمانية مليارات نسمة المكونة لمجموع الساكنة المنتشرة على كوكب الأرض أصبحت في أكثر من نصف تعدادها رهينة سجن كوني تحكمه عولمة رهاب هذه الجائحة. إذن، فبعدما كان جزء مهم من العالم ينظر إلى العلوم بوصفها سجلا للحقائق المثبتة التي لا تقبل التشكيك أو التَّفنيد، اتضح بشكل فجائي أن ممتهني هذه العلوم، وخصوصا في ميادين التطبيب والصحة عامة، تخترقهم اختلافات معينة بخصوص أسلوب التعامل مع فيروس كورونا، وقاية واحترازا، تشخيصا ودواء، علاجا ولقاحا. وهي الاختلافات التي زَرَعَتْ بذور الشك في نفوس وأذهان كثير من الشرائح والفئات الاجتماعية الهشة اقتصاديا وثقافيا وعلميا من ساكنة العالم. لكن تلك الشكوك التي تقف وراءها عوامل عدم الإلمام بمنطق العلم والخوف الناجم عن صدمة ما هو حاصل، لا يمكنها أن تصمد أمام منسوب الثقة العالية في تلك العلوم التي جرت العادة على أن استمراريتها وتطوراتها مشروطة بتعدد الرؤى والمقاربات وتنوع النزعات والنمذجات، واحتدام الجدالات والسجالات، والمراوحة بين الاتصال والانفصال وبين التصديق والتفنيد. فمثل هذه المقومات والتمظهرات التي تتميز بها سيرورة العلوم عامة، كانت وما تزال تشكل حسب تصورات إبستمولوجيا العلوم، الطاقة المغذية لتطورها وتجددها عبر العصور والأزمنة. لذا، وبعيدا عن مختلف الشكوك التي قد تتسبب فيها كثرة التأويلات والقراءات غير المعللة علميا إلى حد الآن بخصوص مسببات ودوافع ظهور وتفشي هذا الفيروس الفتاك؛ حيث يبقى السؤال مطروحا حول مصدره الحقيقي: هل هو نتيجة للطبيعة أم لتلاعب إنساني مدبر أم لخطأ مخبري تلقائي؟ وبعيدا عن الممارسات الخرافية والتنجيمات الغيبية التي يحترفها كثير من الدعاة والدجالين خلال الشدائد والأزمات، نشير إلى أن العلوم والمعارف بمختلف تخصصاتها كانت وستبقى حقولا معرفية خصبة للتداول والسجال والاختلاف والمعاناة، بحثا عن الحقيقة التواقة أولا وقبل كل شيء إلى خدمة الإنسان وإرضاء حاجاته الواقعية المقبولة، وليس نزواته النرجسية الشاذة ولا يقينياته الطائشة الوهمية، ولا مطامحه في الهيمنة والسيطرة التي قد تجلب عليه وعلى العالم بأكمله الدمار والخراب. فوثوقية العلم لا يجب أن تشرطها استشرافات الخيال العلمي ولا تنبؤات التنجيم الغيبي، بل إن يقينيته النسبية، وليست المطلقة كما يعتقد كثيرون، مشروطة أولا وأخيرا بمستوى واقعية مخرجاته ونجاعة نتائجه في خدمة الإنسان في علاقته بوجوده الذاتي المحلي وبوجوده الكوكبي الكوني. جائحة كوفيد-19 بين التفسيرين العلمي الغيبي إذا كان أحد أهداف العلم يتلخص في التفسير العلمي الذي يجعلنا ندرك ونفهم العالم الواقعي بشكل أفضل، فإن أهم الشروط الناظمة لذلك التفسير تتلخص في غايات قوامها: أولا، الموضوعية والحياد في تشخيص العلاقات القائمة بين الظواهر الطبيعية والإنسانية والاجتماعية. وثانيا، التمكن من معارف الواقع الدقيقة والقابلة للتنظيم والتفسير. ثم ثالثا، الأنشطة والوظائف المهنية التي يمارسها علماء الحقول المعرفية الطبيعية والإنسانية على حد سواء. وإذا كانت خاصيات الموضوعية والدقة والتنظيم والتفسير والاستمرارية والتقويم والممارسة المهنية تشكل العناصر الحاكمة للمعارف العلمية، فإن المعارف العامية المتشبعة بالحدوس المشتركة والعادات الشعبية والأساطير الخرافية غالبا ما يقبلها الفرد كما هي دون أي تقييم لمحتوياتها ولتقنيات إنتاجها. فهي عادة ما تتميز بنزعة التجذر والمقاومة والاستمرار حتى وإن كانت وقائع الملاحظة تكذبها أو تشكك فيها، على عكس المعارف العلمية التي وإن كانت تتميز بالشمولية والاستمرارية، فإن نزعاتها ونظرياتها وبراديغماتها تشكل على الدوام مواد ومواضيع للتأمل والتقييم إما بهدف التطوير والتجويد وإما بغرض القطيعة والتجاوز. تبعا لهذا التحديد، نشير إلى أنه خلال الكوارث والأوبئة المفاجئة غالبا ما يحصل ارتباك خطير بين الخطاب المبرر بالتفسيرات العلمية والخطاب المعلل بالتأويلات الغيبية. فمتى تعذر شرح ما لا يمكن تفسيره بالعلم والمنطق، إلا وتم التوسل في شرحه (للعامة من الناس) إلى الغيب والخرافة والإشاعة. وهذا أمر عاشته البشرية خلال كثير من الأوبئة السابقة؛ حيث تتحدث نصوص بلاد ما بين الرافدين عن استمتاع الآلهة بنشر الأوبئة على الأرض. وفي المقابل، تُلقي نصوص أبوقراط اللوم في تفشي وباء التيفوس باليونان في القرن الخامس قبل الميلاد على متسببي تلويث الهواء والماء والطعام بالميكروبات. وفي حديث متفق عليه للنبي (صلى الله عليه وسلم) حول وباء الطاعون يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منها". بمعنى أن المرء عندما يعلم بحلول الوباء ببلد ما، فالمفروض ألا يزور ذلك البلد. ولكن إذا حل ذلك الوباء في البلد الذي يتواجد فيه، فالواجب ألا يغادره. فالمرء مطالب بعدم الهروب من الإرادة الإلهية. ومن جهتها عملت الحضارة اليهودية المسيحية على تقديم تفسير أكثر أخلاقية للأوبئة، بدعوى أن الله يتخذ من الموت بفعل الوباء العقاب المستحق لكل مقبل على الخطيئة والعصيان. وفي العصور الوسطى كان السائد عدم الثقة في الطب لأنه يمثل عقبة أمام الإرادة الإلهية في تدنيس الجسد بالمرض والوباء. في السياق نفسه، ورغم انتصار عقيدة باستور (Pasteur) الميكروبيولوجية المبنية على الملاحظة والتجريب والاستدلال في نهاية القرن 19؛ بحيث سيتوقف الأطباء عن النظر إلى الخوف كسبب محتمل للمرض والوفاة، فإن التفسير الغيبي غير العقلاني سيبقى صامدا لينتعش من جديد مع انتشار مشاعر الخوف والهلع نتيجة بعض الأوبئة التي عرفتها ثمانينات القرن العشرين. وهو أمر يصدق في حالة جائحة كوفيد-19 الحالية التي أصبحت تجتاح العالم طولا وعرضا؛ بحيث إنه بفعل الشك في قدرة العلم والعلماء على اكتشاف الدواء واللقاح الناجعين، أصبحنا مجددا أمام ممارسات وسلوكيات تغذيها وصفات تتراوح بين نزعات عقدية دينية، وبين تفسيرات غيبية أسطورية، ثم بين تأويلات غارقة في الدجل والخرافة. وهذه مسألة توضحها السلطة العقدية التي يمارسها كثير من رجال الدين بمختلف مشاربهم على مريديهم وأتباعهم بدعوتهم إلى التمرد على فيروس كورونا ومجابهته بطقوس دينية تارة، وخلطات عشبية غريبة تارة أخرى. فتبعا لمشايخ وقساوسة وحاخامات الديانات الثلاث، فهذا الفيروس لا يصيب لا المسلمين ولا المسيحيين ولا اليهود. وهذه مسألة تؤكد عليها فتاوى كثير من مشايخ المسلمين، ووصفات عديد من الأساقفة المسيحيين، ودعوات كثير من الحاخامات اليهود. وهي بمثابة خلطات عجيبة وغريبة لتطويق هذا الوباء الذي استعصى علاجه حتى الآن على أشهر مختبرات العالم وأجود علماء المعمور. الحقيقة أن سرعة انتشار وتفشي فيروس كورونا كان لا بد وأن تؤدي بهؤلاء إلى مثل هذه الممارسات، بل الأكثر إلى البحث عن كبش فداء لزرع مزيد من الشك والارتياب في نفوس ساكنة الهوامش والنسيج الاجتماعي الهش تجاه العلم والعلماء. فغايتهم الوحيدة للإقناع والتفسير تتحدد في اتخاذ إجراءات الحجر الصحي ومنع المخالطة والعناق والمصافحة ثم طقوس الجنازة والدفن المألوفة، كمطية للرفع من منسوب اللاوثوقية في العلم والعلماء، رغم الدور الوازن التي صار علماء ومهنيو الصحة الجسدية والنفسية يقومون به في هذا النطاق. إذن، فبعدما ظن العالم، وخاصة في بلدانه المتقدمة، أن ملف الأمراض والأوبئة المعدية قد طوي مع أواخر القرن الماضي وبدون رجعة، فقد عرف منذ ذلك الحين أوبئة عديدة من أبرزها الإيدز وأنفلونزا الطيور وإيبولا وجنون البقر وحاليا كوفيد-19. وهذا ما يفند كل تلك الظنون ليؤشر على أن الهجمات الوبائية التي اعتقد كثيرون أنها اختفت إلى غير رجعة، ستتكاثر وتتقوى بفعل تدخل الإنسان في الطبيعة وتلويثها. فالأكيد أن الملايين من الأرواح، وبالخصوص في المناطق الفقيرة والمتخلفة من العالم، ستزهق أو ستشرد، لأن العلاجات واللقاحات المقبلة، إن كانت هناك فعلا علاجات ولقاحات، ستكون من منظور أغلب المتخصصين في الموضوع جد مكلفة، ولن ينعم بها سوى أغنياء ومحظوظو هذا العالم الذي صار يوما بعد يوم يفقد مناعته الصحية وكرامته الإنسانية وتوازناته الاجتماعية.