بفضل ما أسهم به باحثون من تنقيب وتوثيق وتحليل وإغناء على امتداد عقود من الزمن، من خلال أعمال بحث جاءت بزوايا ومقاربات متعددة؛ باتت الخزانة التاريخية لجهة فاسمكناس بنصوص على قدر كبير من الأهمية والقيمة المضافة. ومقابل دراسات توجهت بعنايتها لزمن حواضر الجهة السياسي وكذا بنياتها وعمارتها وتراثها الرمزي...، اختارت أخرى قضايا بوادٍ وقبائل في علاقتها بالمغرب المعاصر، فكانت السباقة إلى الكشف عن جوانب كانت مغمورة لِما سلطته من أضواء حول وقائعها ووقعها في تاريخ البلاد. ولا شك أن المهتم بتاريخ البادية المغربية يجد نفسه بين ثغرات وغموض لا يزال يلف جوانب عدة تخص مكونها القبلي، وما كان عليه هذا الأخير من حضور في تاريخ بلاد يعد في حدود معينة تاريخ بادية وقبائل، لِما كان لهذين المكونين بكل مقوماتهما من أدوار هامة وفعل وتفاعل. سياق ارتأينا فيه إطلالة حول مؤلف تاريخي رزين شكلا ومضمونا، في الأصل هو بحث أكاديمي نوقش بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بداية ثمانينيات القرن الماضي، يسجل أنه كان سباقا إلى انفتاحه على زمن بادية جهة فاسمكناس المعاصر. يتعلق الأمر بمؤلف موسوم ب"آثار التدخل الأجنبي في المغرب على علاقات المخزن بالقبائل في القرن التاسع عشر .. نموذج قبيلة بني مطير" للدكتور العربي كنينح، وقد صدر ضمن طبعة أولى بأزيد من 400 صفحة من الحجم المتوسط عن مطبعة أنفو برانت بفاس. زمن بني مطير عمل استهدف تاريخ مغرب القرن التاسع عشر، من خلال تناول زمن قبيلة بني مطير بهضبة سايس حيث فاسومكناس، وإبرازه لآثار التدخل الأجنبي على علاقاتها بالمخزن ما بين 1873 و1912. ضمن خطوة من خطوات انفتاح البحث على طبيعة مجتمع في فترة دقيقة من تاريخه المعاصر، علما أن تاريخ بلادنا مجهول في كثير من جوانبه لاسيما منه القروي. فقد اهتمت المصادر المغربية بمن تعاقب على حكم البلاد من أسر وتتبع سير ملوك ورصد أخبار، وكذا الترجمة لأعلام السياسة والدين والآداب والعلوم وغيرهم. وقلما تحدثت عن أحوال هوامش وعلاقة حاكمين بمحكومين كما بالنسبة إلى علاقة السلطة بالقبائل، التي تكتسي دراستها أهمية بالغة لفهم واقع تاريخ بلادنا. إذ يكاد يرتبط أغلب ما شهده من أحداث وتطورات منذ العصر الوسيط بطبيعة ما كان قائما من علاقة بين مكونَيْ "السلطة" و"الرعية" وبدرجة توازنها أو اختلالها، علما أن قبائل المغرب قامت بدور هام في نشأة كياناته السياسية من الدول وبناء أمجادها، بل هي أيضا من عملت على تحطيمها والقضاء عليها. إشارات تاريخية استهل بها د.العربي كنينح مقدمة مؤلف توجه بعنايته لقبيلة بني مطير، ضمن دراسة غير مسبوقة استهدفت رصد مسارها إلى أن بلغت مجال الأطلس المتوسط وهضبة سايس مطلع القرن السابع عشر الميلادي، واقترابها من مكناسوفاس ودخولها في احتكاك مع سلطة البلاد المركزية. فضلا عن عناية المؤلف بإبراز طبيعة العلاقة التي كانت قائمة بين قبيلة بني مطير والمخزن خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكشفه عن تركيبة جهاز المخزن المحلي مع وصف علاقاته من خلال ممارسته للسلطة بالقبيلة. كل هذا وذاك جاء مؤسسا على سند وثائقي هام ومتنوع، سمح بتسليط الضوء على جوانب هامة تخص ممثلي الدولة محليا، وما أنيط بهم من أدوار سياسية وعسكرية ومالية، مع تصحيح أحكام تكونت حول المخزن في علاقته بالمجتمع، حاولت طمس وجود الدولة المغربية وتشويه أدوارها. إن التكوين الاجتماعي للقبيلة المغربية، يقول المؤلِّف، لا يمكن فهمه دون التوقف على عوامل خارجة عنها، فحضور المخزن كان بأثر عميق على حياة القبائل وتنظيماتها عموما خلال القرن التاسع عشر. علما أن البلاد خلال هذه الفترة عرفت أزمة مالية واقتصادية طاحنة انعكست بقوة على المجتمع المغربي، إثر ما كان من ضغوط أجنبية على عدة مستويات، فضلا عما تنامى من غزو للأسواق المغربية من قِبل التجارة الأوروبية، ما كان بأثر كبير على علاقة المخزن برعاياه، مثلما حصل مع قبيلة بني مطير بمنطقة سايس. ضغط جبائي ومخزني لفهم علاقة المخزن بقبيلة بني مطير وآثار التدخل الأجنبي عليهما معا، اعتمد المؤلِّف على وعاء ببليوغرافي وطني وأجنبي هام من وثائق وأرشيف، فضلا عن أصول تاريخية جمعت بين مؤلفات رحالة مغاربة وأجانب وكتب تراجم وأنساب وحوليات وغيرها، إضافة إلى عدد هام من الدراسات التاريخية الحديثة لباحثين مغاربة كان لهم الفضل في وضع لبنات مدرسة تاريخية مغربية. وقد توزع المؤلَّف على أبواب أربعة بفصول عدة، تناول الأول منها تطور قبيلة بني مطير بمنطقة سايس في الزمان والمكان مع وصف إطارها الجغرافي وتكوينها الاجتماعي، أما الثاني فقد توجه بالعناية لجميع ما هو اقتصاديي وأنماط عيش وموارد وغيرها. وتم تخصيص الباب الثالث لحياة القبيلة الاجتماعية، بينما الباب الأخير فتناول علاقات القبيلة بالدولة خلال فترة نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وتحضر المادة العلمية عن مصادر أجنبية في المؤلف بشكل معبر، خاصة منها المستندات المحفوظة عن المغرب في الأرشيفات الفرنسية بقصر فانسان ووزارة الخارجية. فحول الدراسات والتحريات الميدانية التي تم اعتمادها، والتي قامت بها سلطات الحماية الفرنسية بالمغرب، أشار المؤلف إلى أن ما حظيت به قبيلة بني مطير فيها من عناية كان بسبب موقعها ومواقفها تجاه المخزن، وكذا ما كانت عليه القبيلة من انتفاضات وحصار لفاسومكناس ربيع 1911. كل ذلك، يقول المؤلف، أثار انتباه سلطات الحماية ومخاوفها، وبالتالي ما أقدمت عليه بعد تطويعها من تحريات وجمع للمعلومة من أجل تحليل بنياتها الأساسية وفهم ذهنيتها، خاصة وأن دخول القوات الفرنسية فاس خلال هذه السنة، كان بهدف فك حصار قبيلة بني مطير عنها، مع أهمية الإشارة إلى أن تمرد القبيلة على السلطان عجل بعقد معاهدة الحماية. كلها تطورات دفعت الضباط الفرنسيين للقيام بسلسلة دراسات استهدفوا بها تسهيل توغلهم الاستعماري، فقد استقر بمجال قبيلة بني مطير عام 1914 العقيد Abès، وجمع كل ما تعلق بشؤونها القانونية والثقافية وتنظيماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فضلا عما قام به من بحث حول أصولها وفروعها وتاريخ استيطانها بمنطقة سايس والأطلس المتوسط. وقد ورد في المؤلف أن قبيلة بني مطير خضعت لعدة أبحاث ميدانية لعدد من ضباط الشؤون الأهلية الفرنسيين الذين تعاقبوا عليها، إذ تمكن هؤلاء من رصد بنية القبيلة وتركيبتها وأنماط عيشها وتفكيرها، لدرجة أنهم تعلموا لهجة الأهالي، وهو ما مكنهم من سبر أغوار القبيلة والتعرف على عاداتها وتقاليدها وتراثها الثقافي. وحول قبيلة مطير ذات التماس مع كل من فاسومكناس، ورد في المؤلِّف حول أصولها أنها تنحدر من آيت يدراسن الذين شكلوا قبل القرن الحادي عشر الميلادي فرقة من مسوفة، إحدى قبائل صنهاجة التي كانت تعيش في الصحراء جنوب جبال درن. مضيفا أن المصادر التاريخية لا تذكر اسم بني مطير، وأن اسم آيت يدراسن لم يرد إلا في مرحلة متأخرة نسبيا، وأن النصوص التاريخية وأوصاف جغرافيي العصر الوسيط تتحدث عن مسوفة، أي المجموعة القبلية الكبرى التي كان ينتمي إليها آيت يدراسن، وبالتالي بني مطير التي بدأ اسمها يتردد في الحوليات التاريخية منذ بداية القرن السابع عشر الميلادي. الإطاحة بالسلطان ومن جملة ما ورد في مؤلف "آثار التدخل الأجنبي في المغرب على علاقات المخزن بالقبائل في القرن التاسع عشر"، كون ما تعرضت له قبيلة بني مطير من ضغط جبائي وتسخيري وتعسف مخزني محلي، جعلها وجها لوجه عبر فترات مع محلات مخزنية كانت تروم تطويعها، وأنه كثيرا ما كانت المواجهة بين القبيلة والمخزن تتصاعد تبعا لتزايد وطأة الجباية. وورد أن قبيلة بني مطير اتحدت عام 1290ه مع قبيلة مجاط وآيت يوسي، فهاجمت مكناسوفاس في وقت تمرد فيه دباغو وحرفيو فاس على السلطان الحسن الأول بهدف إسقاط مكوس الأبواب. كما هاجمت القبيلة عام 1320ه سوقا خارج مكناس كرد فعل على تدخل الأجانب في شؤون البلاد الداخلية، كما عرقلت بناء خط حديدي عزم السلطان مولاي عبد العزيز مده بين مكناسوفاس. بل كان من جملة ما استهدفته قبيلة بني مطير ومعها قبائل سايس من ردود فعلها هذه، إطلاق سراح الأمير محمد، الذي كان تحت الإقامة الجبرية في أحد قصور مكناس وتنصيبه سلطانًا. وفي علاقة بما حصل من تطورات سياسية مطلع القرن العشرين، ورد في المؤلف أن قبيلة بني مطير ومعها أتباع الطريقة الكتانية قاموا بدور هام في الإطاحة بمخزن مولاي عبد العزيز والدعوة للمولى عبد الحفيظ، من أجل التخلص مما فرض عليهم من ضرائب مرهقة. إلا أنه بسبب استفحال الضغوط الأجنبية على البلاد وتقلص نفوذه، نزل المخزن الجديد بكل ثقله على القبائل المجاورة للعواصم، وأتى على كل شيء فيها لينحصر نفوذه قبل عقد الحماية على مناطق مجاورة للعاصمة فاس، كلها ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية جعلت قبيلة بني مطير في مواجهات مفتوحة مع مولاي عبد الحفيظ، فكانت انتفاضة 1909 ثم انتفاضة 1910 ثم انتفاضة 1911. وقد تمكنت قبيلة بني مطير، يردف المؤلف، من جر قبائل منطقة سايس للتمرد على المخزن، من أجل إلقاء القبض على السلطان ووزيره المدني الكًلاوي والتخلص من المخزن الحفيظي كاملا. خطة أجهضت بسبب انتفاض قبيلة اشراردة وتسرع قبيلة بني مطير لمساعدتها على ضرب المحلات المخزنية، فكان حصار فاس وكانت أحداث 1911، التي توجت بتنصيب قبيلة بني مطير لمولاي زين العابدين المعروف ب"مولاي الزين" ابن الحسن الأول بمكناس والمناداة به سلطانا على البلاد. كلها تطورات كانت تحت مجهر الأطماع الفرنسية، من خلال تتبعها لِما كان يجري معتمدة على جواسيسها وممثليها بفاس. إذ بمجرد تدهور الأوضاع بفاسومكناس، يقول المؤلف، سارعت فرنسا إلى التدخل بدعوى حماية رعاياها واستنجاد السلطان بها، من أجل فك حصار العاصمة فاس وإبعاد القبائل عن أسوارها، ليتقرر مصير المغرب وتبدأ صفحة جديدة من تاريخه مع الحماية. هوامش المجال المغربي حصيلة بحث وتوثيق وتحليل تجعل أولا من كتاب "آثار التدخل الأجنبي في المغرب على علاقات المخزن بقبيلة بني مطير"، مقاربة تاريخية على درجة عالية من الأهمية، في علاقتها بالتاريخ المحلي وهوامش المجال المغربي، وإسهاما علميا توجه بعنايته لزمن البادية المغربية المعاصر، تحديدا بادية هضبة سايس. ولعله بقدر ما تأسس عليه من مادة تاريخية علمية وأصول وأرشيف وطني وأجنبي لتأثيث محتواه ومحاوره الأساسية، بقدر ما يعد قيمة مضافة على درجة من الأهمية لفائدة رصيد المنوغرافيا وخزانة المغرب التاريخية، ومن خلالها خزانة جهة فاسمكناس. وثانيا كون ما جاء في الكتاب من إشارات تاريخية مجالية في علاقتها بقبيلة بني مطير حيث هضبة سايس وفاس، يجعل من جملة أسئلة ذات صلة تبقى عالقة في ارتباطها بحوض سبو وأعالي إيناون تحديدا حيث تازة وممرها وبلاد غياتة، من هذه الأسئلة ما يتصل بفرقة "بني مطير" التي تنتمي إليها ضمن ما يعرف بغياتة الفوقية، وهو ما ورد في وثائق مغربية وتقارير أجنبية عدة. ومعروف أن النصوص التقليدية لا تذكر أي شيء عن أصل قبيلة "غياتة"، سوى أنها من برابرة المغرب الأقصى كما جاء عند ابن خلدون. ومعروف أيضا أن تسمية "غياتة" لا جذور لها في نصوصنا الإخبارية التقليدية وأن ما هو كائن مجرد تأويلات لاحقة، فقط ما ورد حول كون كل من قبيلة "غياتة" و"أوربة" كانتا من المساندين الأوائل لمولاي إدريس الأكبر. ويتبين من خلال بنية تقسيم قبيلة غياتة أنها بمجموعتين كبيرتين، الأولى تعرف بغياتة السفلية، وتظم فرقة أهل الواد وأهل الطاهر ومكًاصة وبني مكًارة وولاد حجاج وأهل السدس والخمامجة وولاد أوشن وولاد عياش، بينما غياتة الفوقية فهي تتشكل من الفرق التالية أهل بودريس وأهل الدولة وبني بوحميد وبني قيطون وبني وجان وبني سنان ومتركات ثم بني مطير. وهنا سؤال التاريخ والمجال والإنسان معاً حول علاقة "بني مطير" الفرقة التابعة لبلاد قبيلة غياتة بتازة حيث أعالي وادي ايناون"، بقبيلة "بني مطير" التي تستوطن بلاد هضبة سايس حيث المجال ما بين فاسومكناس، والتي شكلت محور دراسة الدكتور العربي كنينح "أثار التدخل الأجنبي في المغرب على علاقات المخزن بقبيلة بني مطير". إن ما هو كائن من تشكل وتركيب قبلي بحوض سبو عموما، في علاقته بأعاليه كما بالنسبة إلى أعالي وادي إيناون، وما هناك من تقارب وانفتاح وتفاعل مجالي وتنقلات منذ القدم، فضلا عن تشابه تسميات هنا وهناك كما "بني مطير سايس" و"بني مطير إيناون"، عبارة عن عدة أسئلة تاريخية تقتضي عملا بحثا والتفاتة من قِبل باحثين ضمن الإطار المحلي والقرب، للكشف عما هو مغمور ويخص قضايا تاريخية وإنسانية واجتماعية وثقافية عدة، في أفق إغناء خزانة تاريخية جهوية، ومن خلالها خزانة وطنية بنصوص أكثر تنوعا وأهمية.