مشروع قانون المسطرة الجنائية يروم تعزيز مجال الحقوق والحريات (وزير العدل)    الأخضر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    الصين تعزز مكانتها العالمية في مجال الطاقات المتجددة    حضور جماهيري مميز وتكريم عدد من الرياضيين ببطولة الناظور للملاكمة    الدوري السعودي لكرة القدم يقفز إلى المرتبة 21 عالميا والمغربي ثانيا في إفريقيا    حكيم زياش يدخل عالم المال والأعمال بمدينة مراكش    إيمينتانوت .. إحباط محاولة تهريب أطنان من الحشيش    إقليم جراد : تدابير استباقية للتخفيف من آثار موجة البرد    محكمة الحسيمة تدين متهماً بالتشهير بالسجن والغرامة    طقس الخميس.. برد وغيوم مع قطرات مطرية    سناء عكرود تشوّق جمهورها بطرح فيديو ترويجي لفيلمها السينمائي الجديد "الوَصايا"    الإفراط في تناول اللحوم الحمراء يزيد من مخاطر تدهور الوظائف العقلية ب16 في المائة (دراسة)    مجموع مشتركي نتفليكس يتخطى 300 مليون والمنصة ترفع أسعارها    الكويت تعلن عن اكتشاف نفطي كبير    الصحافيون الشرفيون المتقاعدون يسلطون الضوء على أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية    المندوبية السامية للتخطيط تتحدث عن الأسعار خلال سنة 2024    مراكش: توقيف 6 سيدات وشخص لتورطهم في قضية تتعلق بالفساد وإعداد وكر لممارستة    ارتفاع أسعار الذهب لأعلى مستوى في 11 أسبوعا وسط ضعف الدولار    الكاف يؤكد قدرة المغرب على تنظيم أفضل نسخة في تاريخ كأس أمم إفريقيا    دراسة: أمراض اللثة تزيد مخاطر الإصابة بالزهايمر    الجفاف وسط البرازيل يهدد برفع أسعار القهوة عبر العالم    تصريحات تبون تؤكد عزلة الجزائر عن العالم    ترامب يصفع من جديد نظام الجزائر بتعيين سفير في الجزائر يدعم الموقف المغربي في نزاع الصحراء    أبطال أوروبا.. فوز درامي لبرشلونة وأتلتيكو يقلب الطاولة على ليفركوزن في مباراة عنيفة    حماس تنعى منفذ عملية تل أبيب المغربي حامل البطاقة الخضراء الأمريكية وتدعو لتصعيد المقاومة    شح الأمطار في منطقة الغرب يثير قلق الفلاحين ويهدد النشاط الزراعي    الكشف عن النفوذ الجزائري داخل المسجد الكبير بباريس يثير الجدل في فرنسا    وزارة التربية الوطنية تبدأ في تنفيذ صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور موظفيها    الدريوش تؤكد على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للتصدي للمضاربات في سعر السردين    رئيس جهة سوس يقود حملة انتخابية لمرشح لانتخابات "الباطرونا" خلال نشاط رسمي    فرنسا تسعى إلى توقيف بشار الأسد    كيوسك الأربعاء | الحكومة تنهي جدل اختصاصات كتاب الدولة    خديجة الصديقي    بنما تشتكي ترامب إلى الأمم المتحدة    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    عادل هالا    جماهير جمعية سلا تطالب بتدخل عاجل لإنقاذ النادي    المدافع البرازيلي فيتور رايش ينتقل لمانشستر سيتي    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    الصين تطلق خمسة أقمار صناعية جديدة    نقاش مفتوح مع الوزير مهدي بنسعيد في ضيافة مؤسسة الفقيه التطواني    الكنبوري يستعرض توازنات مدونة الأسرة بين الشريعة ومتطلبات العصر    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    أمريكي من أصل مغربي ينفذ هجوم طعن بإسرائيل وحماس تشيد بالعملية    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندما أكل المغاربة الجيف والدواب والموتى
نشر في هسبريس يوم 20 - 04 - 2020

إنَّ ما تذكره بعض كتب التاريخ، من مآسي عاشها المغاربة بسبب انتشار الأوبئة والمجاعات، يصعب على القارئ أن يتخيّلها؛ كأن يأكل الناس الدواب التي نفقت، بل ويأكلوا موتاهم، أما تعطيل الصلاة فقد كان أمراً بديهياً، يقول صاحب كتاب الاستقصا متحدّثاً عن ما حدث سنة 1073ه: "أصاب المغاربة مجاعة عظيمة أكل الناس فيها الجيف والدواب والآدمي، وخلت الدور وعطّلت المساجد"، ولم تكن الدولة أنذاك تملك القدرة على مراقبة جميع الأماكن والأسواق ومتابعة تطور الأحداث بالسرعة اللازمة خاصة مع قيام الثورات والفوضى والنزاعات، فاستغل بعض المسؤولين هذا الوضع، ليزيدوا إنهاك الناس بالضرائب والمكوس، وقد وصف العلامة اليوسي ظلم الجباة وصفاً دقيقاً مؤثراً حين قال: "قد جردوا ذيول الظلم على الرعية، فأكلوا اللحم وشربوا الدم وامتشوا العظم وامتصوا المخ، ولم يتركوا للناس دينا ولا دنيا". كما وصف عبد الرحمن التامنارتي وغيره ممن عاصر تلك الأحداث، قائلا: نال المغرب من الفساد والفتن ما "طاش لها الوقور (...) ووضع النفيس وارتفع الخسيس، وفشا العار وخان الجار ولبس الزمان البؤس وجاء بالوجه العبوس (...) وطأطأ الحق نفسه وأخفى المحق نفسه (...) ووردت المهالك وسدّت المسالك وعمَّ الجوع".
هل بعد هذه الأزمات المخيفة والأهوال المجتمعة، أزمة أكبرُ منها وأعظمُ؟ لقد شهد المغرب في بعض الفترات التاريخية ما لم تشهده مناطق أخرى في العالم من الويلات والأزمات، واليوم إذ نستدعي الحديث عن بعض هذه التفاصيل التاريخية المؤلمة، ونحن في زمن جائحة كوفيد 19، التي لم تصب المغرب وحده، بل شلّت الحياة في جلّ ربوع العالم، وخلال فترة الحجر الصحي، التي انخرط فيها المغرب، كإجراء وقائي للحد من انتشار هذه الجائحة والسيطرة عليها ومحاصرتها، نروم بناء وعي المواطن المغربي واستنهاض مسؤوليته الفردية، للتقيد بالإجراءات الصحية والوقائية، وذلك من أجل الخروج من هذه الأزمة العالمية بأقل الخسائر.
في الأزمنة الصعبة، كانت بعض الفئات من المغاربة، تعزل نفسها عن الخروج، وعن مخالطة الناس، فتدّخر حاجاتها من الغذاء، وتلوذ بالصيام، وتقليل الطعام، والكفّ عن الكلام، خاصة وأنها لا تتحرك كثيراً، فلا تحتاج للغذاء الوفير، وخروجها لا يكون إلا للضرورة القصوى، إننا اليوم عندما نتأمل المعمار الهندسي لكثير من المنازل في المدن المغربية العتيقة، نجدها تشتمل على بيت للمؤونة (بيت الخزين) أو ركن خاص بالتخزين، حيث يضعون الزيت والقطاني والسّمن والعسل والقمح، كما نجد في المنازل بئراً لجلب الماء، وكل ذلك تحت المنزل في القبو أو السرداب، حتى إذا وقعت الحروب والفتن والمجاعات، واقتُحِم البيت لم يعثر على أصحابه، فقد كانت في تلك المنازل مخارج سرية، ونوافذ صغيرة بين البيوت، تطل على الجيران، مختفية وراء بعض اللوحات والزخارف، وتُستعمل للتضامن بين الأسر المغربية، بتقديم الطعام لمن احتاج إليه.. أو الاطمئنان على الأسر والعائلات وتبادل الأخبار، كما استعمل المغاربة في تلك الفترات العديد من وسائل التعقيم والتنظيف، والكثير من وسائل الاحتياط، ولذلك نجا الكثيرون، بسبب التزام العزلة والابتعاد عن التجمعات، والفرار إلى البيت في خلوة طويلة، ثم إذا انتهى الوباء ومرت الأزمة، خرج هؤلاء في أمن وسلام، وعادوا إلى ممارسة أنشطة الحياة اليومية من تجارة وفلاحة وسفر وتعليم وغيره، وقد منَّ الله عليهم بعُمرٍ جديد.
ما أشبه اليوم بالأمس، في ظل الحجر الصحي، الذي لو التزم به كل المغاربة، لما طال وقت الجائحة في المغرب، خاصة وأنَّ بلدنا اليوم، وظّف كل إمكاناته لتوفير الغذاء للجميع، وتعويض الفاقدين لمصدر دخلهم، وتقديم كل الدعم الصحي والأمني والنفسي والمادي أيضاً، وهذه الإمكانات لم تكن متاحة في الأزمنة السابقة، الشيء الذي ينبغي أن يزيد من قوة التلاحم بين المغاربة وملكهم، فجميع المبادرات كانت صادرة من جلالة الملك محمد السادس نصره الله، لحماية المغاربة، وهذا التزام تاريخي ووفاء بعهد البيعة، من أعلى سلطة في المغرب، ليكون قدوة لغيره من المسؤولين، فيبادروا للعمل التضامني وأداء الواجب الوطني، وبالمقابل، على عموم المغاربة أداء واجبهم في التزام الحجر الصحي، والتباعد الاجتماعي، والتطوع في أعمال البر والخير، والانخراط في حملة التضامن بالإسراع إلى وضع تبرعاتهم في صندوق تدبير الجائحة، وغير ذلك من المبادرات الفردية التي من شأنها أن تُعجّل بالقضاء على الوباء ومنع انتشاره.
صفحات من تاريخ الأزمات في المغرب
عرف المغرب عبر تاريخه الطويل أزمات خانقة، ومرّ بفترات صعبة حتى ضاقت الدنيا على عموم المغاربة، واعتقدوا أن الساعة قد حلّت لا محالة، فأحياناً يجتمع الصراع على السلطة مع موجات الجفاف والغلاء، وتطول سنوات القحط ونقص الغذاء، وقد يزيد من الأزمة موت السلطان، وتعرض المغرب لهجوم الأعداء والمحتلين والمتربصين به الدوائر، الذين استغلوا الفرصة، فنهبوا البلاد وزرعوا الخوف في الناس، فضاعت الأخلاق وفقدت الأرزاق وكانت فتنة عظيمة، هكذا تصف الكتب التاريخية بعض ما شهده المغرب.
وإلى عهد قريب يذكر المغاربة فترة الأربعينات، في أيام الحرب العالمية الثانية، أزمة نقص الغذاء، وما خلّفه من مجاعة عظيمة، أكل فيها المغاربة الجيف والدواب والموتى وفَرّ منهم عدد كبير إلى الجبال بحثاً عن أوراق الأشجار يقتاتون منها وينأون عن الوباء والجوع وفتن النهب والسلب، كما اجتاح الطاعون الأسود بعض المناطق، وكان يسميه المغاربة بالدارجة "بوكليب الأكحل"، لأنه يقلب حياة الإنسان رأساً على عقب، ويجعل أيامه سوداء كالفحم أو الليل المظلم، وقد كانت جثت الموتى بالطاعون تبقى ملقاة في الشوارع والأزقة لا يقترب منها أحد مخافة الإصابة بالعدوى، هي أيام سوداء يتذكرها بعض المغاربة الذين عاشوا بعض أحداثها، وقد سجّلتها كتب التاريخ، لمن شاء الاطلاع عليها وقد نجّاه الله من رؤيتها.
وللوقوف على نماذج من الأمثلة التاريخية المشابهة لبعض ما يقع اليوم في المغرب، من هلع وخوف جراء انتشار جائحة كورونا المستجد، نستدعي السنوات الأخيرة من أيام الدولة السّعدية، خلال القرن الحادي عشر الهجري، عندما ضعفت بسبب ما شهده المغرب من صراع مستميت على السلطة، ونزاع على الحُكم، زاد من وطأة الأزمة، انتشار البلاء وتوالي سنوات الجفاف..
شهد القرن الحادي عشر الهجري بالمغرب أفول نجم دول وقيام أخرى، فقد عجَّلت بعض العوامل بانهيار الدولة السَّعدية وخاصة بعد وفاة السلطان المنصور الذهبي سنة 1012ه وكان أعظم الملوك السّعديين، بعدما استمر في المُلك سِتاً وعشرين سنة، "ذهب إلى فاس لتأديب ابنه الثائر عليه محمد الشيخ المامون فأخمد الثورة وأودع ابنه السجن، ولكن الوباء حل بالناحية فمات المنصور دون أن يبت في أمر ولاية العهد"، فأدت النزاعات بين أبنائه "في طلب العرش والفوز بصولجان الملك"، إلى قطيعة رحم وانقسامات أضعفت الدولة المغربية، وأثارت بعض الأطماع الخارجية التي بدأت تتربص بالبلاد الدوائر وتنتظر الفرصة للاستحواذ على بعض الحدود والثغور وخاصة في الشمال المغربي.
وقد تحدّثت الكثير من المصادر التاريخية عن هذه الفترة الحرجة من تاريخ المغرب، منها كتاب مؤرخ مجهول عن دولة الطوائف بعد ظلم الخلائف، وكتاب: مناهل الصَّفا في أخبار الملوك الشُّرَفا، لأبي فارس عبد العزيز الفشتالي، وكتاب: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، لأحمد بن خالد الناصري السلاوى، وكتاب: نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، لمحمد الصغير اليفرني. والذي له كتاب آخر بعنوان: روضة التعريف بمفاخر مولانا إسماعيل بن الشريف. وكتاب: التقاط الدرر ومستفاد المواعظ والعبر في أخبار وأعيان المائة الحادية والثانية عشر، للقادري محمد بن الطيب. وله كتاب آخر بعنوان: نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني. وكتاب إيليغ قديما وحديثا للعلامة محمد المختار السوسي، فضلاً عن كتب الرحلات، ومن أشهرها رحلة ماء الموائد لأبي سالم العياشي والذي كان أكبر علماء عصره، وقد مات بالطاعون عام 1090 هجرية.
ولقد ركّزت بعض المصادر التاريخية على وصف الجوع والخوف الذي أصاب المغاربة في تلك السنوات العِجاف، ومنها كتاب يحمل عنوان: "زوبعة المشتاق لبعض ما وقع في المغرب عام اثنين وسبعين من الجوع والشقاق"، لمؤلفه العياشي محمد بن عبد الجبار، ومما ورد فيه قوله في أبيات شعرية مؤثّرة:
يا من عن الغَرْبِ عام الجُوع قد غربا لا تنكرن على من جوعه غَلَبا
إن حَدَّثُوكَ أحاديث إذا سُمِعَت يَظَّلُ سَامِعها يقول واعَجَبا
اشدد بعام يكاد الزَّرْعُ فيه يكون كالنّدَى فَيُبَاعُ وزنه ذَهَبا
ما أعظم الأمر إِذْ كانت تَعُودُ به التَّمْرُ تِبْرًا وعاد حَشفه رُطَبَا
عندما ضعف أمر الدولة السعدية، قامت الفتن في المغرب، وظهرت النزاعات والخلافات، وتقاسم الثوار المغرب، فأصبح مثل ملوك الطوائف، وقد "بلغت هذه الحالة السيئة منتهاها حوالي 1040ه حيث كادت تستقل كل جهة بملك، حتى إن ناحية تازة قام فيها اليهودي ابن مشعل وبنى حصنا منيعا له وجعله مقر إمارته (...) كما أن أتراك الجزائر استطاعوا في هذه الحقبة المظلمة من تاريخنا، أن يدخلوا إلى وجدة وهي على الحدود ويسعوا في الاستيلاء عليها وضمها إلى ممتلكاتهم"، وقام الثوار في كل ناحية، واستولى الأجانب من إسبان وبرتغال وإنكليز على مراسي المغرب وطمعهم في داخله. ولم تستقر الأوضاع إلا مع السلطان المولى الرشيد العلوي بعد خوضه لحروب استمرت سبع سنوات وهي المدة التي قضاها في الحكم، فحقق بذلك للمغرب وحدته واستقراره تمهيداً لانطلاق مسيرة البناء الحضاري مع ملوك الدولة العلوية الشريفة.
إذا كانت أزمات الحكم والنزاع على السلطة، أمرا متوقعاً في كثير من الدول، فإن المشهد يبدو صعباً ومقلقاً، عندما تُضاف إليه أزمات نقص الغذاء وانتشار الوباء والغلاء، وما يترتب عن ذلك كله، من ظهورٍ للفتنِ وانهيارٍ للقيم؛ حيث زاد من أزمة البلاد اجتياح وباء الطاعون للمغرب من سنة 1007ه إلى 1016ه، وبين عامي1072ه و1089ه، وساعد على انتشاره بفاس، فيضان عظيم خرّب المنازل والقناطر والأسواق، حتى وصل الماء إلى باب البرادعيين، وهدّد دوراً عديدة بالانهيار والدّمار.
كما عرف المغرب سنوات الجفاف والقحط، في الأعوام: 1022ه و1060ه و1044ه و1063ه و1072ه، و1073ه و1090ه، والتي رافقتها موجات الغلاء، حيث يذكر صاحب كتاب الاستقصا، أسباباً أخرى للغلاء في هذا القرن، ومنها: ثورات القبائل التي قطعت سُبل المسافرين وقوافل التجارة، فقلَّتْ المواد الغذائية في المدن، وتسببت الحروب في فساد الزراعة، وحصار الأجانب ومراقبتهم للموانئ التجارية المغربية، فضلاً عن طول فترة الجفاف، وانقطاع المطر، الشيء الذي أهلك الحرث والنسل وأضاع البلاد وأفسد أرزاق العباد.
وقد وصف الرحالة المتصوف أبو سالم العياشي في رحلته ماء الموائد، وهو الذي مات بوباء الطاعون، ما حل بالبلاد من فتن وجوع، قائلا: "في سنة تسع وستين دَبَّت في مغربنا عقارب الفتن، وهاجت بين الخاصة والعامة مضمرات الإحن، فانقطعت السبل أو كادت، وماجت الأرض بأهلها ومادت، (...) وأضرم الجوع في سائر الأرجاء ناره، فتولد منه من الفتك والحرابة ما أعلى تفريق الكلمة مناره، وتطاير في كل أفق شَراره، وأهان خيار كل قطر شُراره، واتخذت البدعة شعارا، والزندقة دثارا، وفر الساكن من بلده، والوالد من ولده". ولا يخفى ما في هذا الوصف من ألم ومعاناة، وقد كتبها شاهدٌ على تلك الأحداث المؤلمة، حتى إنَّ بعض الشعراء وصفوا تأخر نزول المطر، بكثرة سفك الدماء وأكل الحرام، يقول شاعر من درعة:
يَطُوفُ السَّحَابُ بدرعة كما يطوفُ الحجيج بالبيتِ الحَرَام
تُريدُ النُّزُولَ فلمْ تَسْتَطِعْ لسفكِ الدِّمَاءِ وَأَكْلِ الحَرَام
أما صاحب كتاب المطرب بمشاهير أولياء المغرب، فشبَّه كثرة الفتن في تلك الحقبة من تاريخ المغرب، بنزول المطر، حيث قال: "في وقت كانت الفتن فيه كنزول المطر من السماء، حروب طاحنة متوالية بين السعديين والعلويين وبين المسلمين والإسبانيين والإنجليزيين، وثوار متلصصون هدفهم الإفساد في الأرض ونهب الأموال، يضاف إلى ذلك ما كانوا يصابون به من نكبات الحياة كضيق في المعيشة، وارتفاع في الأسعار، وجدب وقحط وزلازل وهزات".
فقد عرفت مدينة فاس زلزالين عنيفين؛ الأول في رجب سنة 1030ه والثاني في رمضان سنة 1075ه فاغتم الناس وعمّهم الرّعب والفزع، واعتقدوا في الحالتين أنها الساعة لا محالة.
ولا شك أنَّ هذه الأزمات، قد أدت إلى تغييرات جدرية وبنيوية كبيرة على المستوى الديمغرافي والسياسي والاجتماعي، فبعض الأحياء السكنية أصبحت خالية من السكان، لأنهم ماتوا جميعاً بسبب الوباء، وأحياء أخرى فرّ سكانها جميعاً إلى القرى النائية والجبال البعيدة ليتحصّنوا بعيداً عن الثوار والمتمردين واللصوص، وأحياء أخرى تم تخريبها وسلب ما فيها من متاع وزاد، وإخراج أهلها وقتلهم وتشريدهم، وهذه الأحداث قد جعلت التركيبة الديمغرافية لمدن المغرب الكبرى تتغيّر وتتأثر، حيث انخفض عدد السكان، وكثر أصحاب أهل العاهات والمعاقين، واليتامى والمشردين، مما نتج عن ذلك ظواهر اجتماعية لم تكن مألوفة في المجتمع المغربي، ولم يعهدها من قبل، كالتسوّل وظهور مهن جديدة مرتبطة بالفقراء، كادعاء المرض، وادعاء القدرة على العلاج وشفاء المعطوبين، وانتشار الخرافات والأساطير، وغيرها من الظواهر التي صعب بعد ذلك التخلص منها، ولعل بعضها بقي مؤثراً في العقليات إلى يومنا هذا.
ومن الناحية السياسية كانت هذه الأحداث الأليمة، تهدّد وحدة المغرب، وتستنزف موارده وطاقاته، فتجعله عرضة للمطامع الأجنبية، وتُحدِثُ فراغاً في السلطة، يستغله بعض الثوار لتفتيت المغرب ومحاولة الاستيلاء على السلطة والحُكم بالقوة والعنف، وإكراه الناس على قبول الأمر الواقع، ولذلك عندما ضعف أمر الدولة السعدية، وأصبح المغرب مهدّداً في وحدته، قام الأشراف العلويين، بمبادرات لتوحيد المغاربة، ودفع الأطماع الأجنبية، وحماية ثوابت المغرب الدينية والوطنية، باسترجاع الأمن وحفظ الكليات الخمس، ولم يكن ذلك سهلا فقد اقتضى من السلطان المولي الرشيد قضاء أزيد من سبع سنوات في محاربة المتمردين ومثيري الفتن في البلاد، حتى نجح في تخليص المغرب من الأزمة، ليبدأ عهد جديد، استمر إلى يومنا هذا مع السلطان جلالة الملك محمد السادس أدام الله له العز والتمكين.
هكذا، لم تكن جائحة كورونا أول فيروس يضرب المغاربة، في مارس 2020، ولن تكون الأخيرة، بل لقد أكسبته الأزمات، مناعة قوية، فتكيف مع الظروف الصعبة، واستطاع بفضل قيم التضامن التي تربط كل المغاربة، أن يتجاوز الكثير من العقبات، ولذلك كانت الاحتياطات التي اتخذها حاليا في مواجهة كورونا، مهمة وذات فعالية في الحد من انتشار الوباء، وإن تمديد حالة الطوارئ الصحية في المغرب إلى غاية 20 ماي 2020، كان متوقّعاً نظراً لتسجيل بعض الإصابات الجديدة بالجائحة (كوفيد 19)، ويدخل هذا التمديد ضمن سلسلة الإجراءات الاحترازية المهمة التي اتخذها المغرب، وأثبتت فعاليتها الآن، لأن دول كثيرة عندما تأخرت في الاحتياطات كان انتشار الجائحة فيها كبيراً ومهولاً، وصَعُب التحكّم فيها، ولذلك فإن هذا التمديد يعتبر ضروريا في هذه الظرفية الحرجة، علماً أن المغرب قد اتخذ كل التدابير التي تضمن استقرار الحالة العامة، وتوفير الظروف الملائمة، وضمان استمرار الخدمات الأساسية للمواطنين، ويبقى وعي المجتمع المغربي مهماً لإنجاح كل المبادرات الوطنية والقرارات التي تتخذها السلطات المركزية والمحلية.
والتاريخ المغربي حافل بالمقاومة والدفاع عن صحة وأمن المغاربة وسلامتهم، في سبيل وحدة الأمة والمصير المشترك، وصيانة الثوابت الوطنية ومقدسات المغرب الدينية والوطنية، وهي بعض عوامل استقراره وقوته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأيضاً تماسكه وتلاحم كل مكوناته وراء قائده الأعلى أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.