نصّبت الليبرالية الجديدة أسواق المال والاعمال سلطة مطلقة تفوق كلّ اعتبار آخر، وجرّاء ذلك سيّدت الربح وأطلقت سطوة الأعمال. في تقديسها لنمو الأسواق المالية، جعلت هذه الليبرالية عملية صنع القرار في يد عالم المال والأعمال على نحو كامل، مكرَّسة للرّبح الخاص للمؤسّسات المالية على حساب المجتمعات المعاصرة. لقد تحولت الاوليغارشيات المالية العالمية إلى الامر الناهي في هذا العالم المعولم، بينما بقيت الحكومات المحلية مقيّدة بالديون غير قادرة فعلا على التحكّم في جموح وسطوة رجال الاعمال وكبريات الشركات العالمية. منبها إلى أن الطفرة الإنتاجية الصناعية المترتبة عن التقدم العلمي الاقتصادي، أبرز المفكّر «داني- روبير ديفور» (Dany Rober Dufour) أنّ العولمة الحالية انحرفت ناحية التأثير السلبي في الإنسان والبيئة، من حيث هي دعوة جامحة لاستثارة غرائز الإنسان واستغلال الموارد الطبيعية المحدودة أصلا. بالنسبة لاستغلال الطبيعة، فالبين، أن كوكبنا الأرضي لم يعد يتحمل الاستهلاك المفرط، نظرا لمحدودية موارده الطبيعية. وقد ظهر للناس جلّيا كيف أن إحراز مستوى التنمية الأعلى في الشمال (أميركا، كندا، أوروبا) بالنسبة لسكان الجنوب إفريقيا، آسيا، وأميركا الجنوبية) يتطلب أضعاف مضاعفة كلّ الموارد الطبيعية الحالية، ما من شأنه أن يلحق ضررا فادحا بالأنظمة البيئية كلّها. يسائل هذا الوضع الجديد مقولة النمو الدائم مشكّكا في خلفياتها الأيديولوجية، ويجعل فكرة الزيادة في الإنتاج والاستهلاك تصطدم حتما بمحدودية موارد الطبيعة الظاهر من ذلك أن هناك تعارض بين متطلبات اقتصاد السوق الحالي (القائم على النمو الدائم) ومحدودية الموارد الطبيعية، والتغاضي عن هذه الحقيقة والاستمرار على النهج الاستهلاكي نفسه، القائم حاليا، قد يعجل بالصدامات والحروب حول المصادر الطبيعية للماء والزراعة ومختلف مصادر الطاقة الطبيعية الأخرى. يلزم نقد نمط عيشنا الراهن وتجاوزه إلى نمط رحيم بالبيئة، يقوم على ترشيد الموارد واستدامتها وتجاوز النزوع الاستهلاكي. غير أنّ الانتقال من نمط الإنتاج السائد إلى نمط اقتصاد بديل يحتاج إلى استبدال البارديغم الليبرالي برمته (النموذج الراهن الموروث عن الحداثة الأنوارية) إلى بارديغم جديد للحياة والارض، بحيث يكون قادرا على تجاوز نزعة التحديث القائمة على فكرة السيطرة على الطبيعة. ويلزم من هذا التحوّل ضرورة تخطي المنظورات الكلاسيكية والمعاصرة معا للعقلانية والتحديث والتقدم، واستبدال نزعة المنفعة الآنية التي تنظر إلى الطبيعة كموضوع للسيطرة فقط. لقد ثبت الان بأن منطق الإنتاج المادي الحالي لا يمكنه أن يطول مادام يصطدم بمحدودية الموارد وانتشار الفقر والتفاوتات بين الأغنياء والفقراء. إن تبرير منافع النمو يجب أن يأخذ بالاعتبار استدامة الطبيعة وتحقيق العدالة المناخية ومراعاة حقوق الشعوب الضعيفة في مواردها المحدودة. ولأجل ذلك يتعين على العالم تغيير السلوك والفكر معا، إذ التغيير المطلوب اليوم جذري وعميق، وكما يقول «ميشيل سير» (Serres Michel) يجب التحكم في التحكم الذي أفضى إلى ما نراه الان. غير أنّه لا يمكن تعزيز مكانة الطبيعة من جديد مالم تقوّض الايديولوجية الليبرالية الجديدة المنفلة، سواء في ثوبها الاقتصادي، أو في شكلها السياسي الذي تغذّيه النزعة النفعية – المصلحية المادية. تقدّم بعض التيارات النقدية المعاصرة يعض الحجج في رفض هذه الأيديولوجية الشمولية التي توجتها العولمة الامريكية سواء بالنسبة للسياسة أو الاقتصاد، وتقيم هذه الحجج على أطروحة جديدة تزعم بأن الفكر الحديث في شكله العقلاني الموروث عن الأنوار الغربية عبارة عن أداة شرسة للتحكم في الطبيعة، ولكي يعري هذا التوجه النقدي الجديد تحكمية العقلانية الحديثة (اقتصاديا وسياسيا وعلميا). يقدم أنصار البيئة والتعدّدية القيمية عيوب النموذج الأنواري الحديث من خلال الاعتبارات الآتية: - النموذج التنويري للاقتصاد والسياسة يهمه التحكم في الطبيعة قصد استغلالها؛ لكنه بهذا الفهم، قد أصبح مقادا بتصورات فكرية وأيديولوجية تعتبر مبادئ الطبيعة خارج نطاق سائر الثقافات الإنسانية. لذلك، لا يمكن تفسير نظام الطبيعة الفريد إلا من خلال علم ذي صحة كونية، ومن ثم مشروعية الدراسة الموضوعية للطبية والتعامل معها على أنها موضوع قابل للاستغلال إلى ما لانهاية. - لا تسمح أيديولوجيا الأنوار الحديثة بتفسير العلوم وفلسفاتها على ضوء الثقافة الاجتماعية التي أنتجتها، إذ تزعم أنها موضوعية وكونية، وتريد أن تتعالى على المنفعة والمصلحة والثقافة التي أنتجتها، في حين تبقى في عمقها وليدة الظروف التاريخية والاجتماعية التي نشأت فيها. - تعد نزعة الأنوار الحديثة مسؤولة عن ترسيخ دعائم نظرة تحكمية للطبيعة والبيئة، ومن ثم، لا تحمل في نموذجيتها شروط إمكان فهم الطبيعة خارج دائرة الموضوعية، ومن ثم فهي محكومة بهاجس التحكم فيها واعتبار الإنسان سيدها ومستغلها. انطلاقا من هذه الاعتبارات، تقيم التيارات النقدية الجديدة الأدلة على محدودية نظرة العقلانية الكلاسيكية للطبيعة، لذلك كان هدف النموذج الاقتصادي والسياسي القائم على هذه النظرة الضيقة السعي إلى استغلال الثروات الطبيعية للربح، ومراكمة رأس المال، والثروة المالية، وقد أوقع ذلك فكر الأنوار الحديث في قصور منهجي خطير عماده اعتبار الطبيعة مصدر تلبية كل الرغبات وبشكل غير محدود. وقد سبق في إطار الفلسفة المعاصرة أن نبهت المفكرة «هانة ارنت» (Hanna Arendt) إلى خطورة النزوع التحكمي للتقنية التحديثية باعتبارها سيرورة منفلتة، حيث رأت في ماهية التقنية في صيغتها الحديثة وسيلة لإرغام الطبيعة على التطويع الدائم للسيطرة البشرية. ونفس الحدّة النقدية، نبهت المفكرة الأميركية المعاصرة «ساندرا هاردينغ» (Sandra Harding) إلى ضرورة تهذيب فلسفات التنوير الحديثة كي تتخذ وجهات فكرية مفيدة في إرشاد إنتاج المعرفة النافعة وبلورة السياسات الديموقراطية الحقة. الظاهر إذاً أنّه يلزم تغيير العادات والافكار قبل فوات الأوان، ذلك أنّ التركيز فقط على تحقيق الأرباح ومراكمتها، أصبح لا يتماشى مع الأمل في بقاء البشرية على قيد الحياة. لقد بات الوضع خطيرا، وغدت نجاة البشرية على محك المبادرة العالمية للتحرّك العاجل. فبغض النظر عن هذا الوباء (كورونا) أو غيره، ستكون الإنسانية أمام امتحان عسير بحيث سيلزمها أن تختار: الاستمرار في هذا المشهد البئيس والتوجّه رأسا إلى الكارثة البيئية والصحية، أو تعديل المنظور والسلوك ناحية مسار جديد تلجم فيه الحكومات الشركات وتحدّ من سطوة رجال الأعمال وكذا جوقتكم التكنوقراطية الغبيّة والأنانية.