مازال فيروس كورونا يتطلب من الناس جميعا أن يدرسوا ويفكروا في التأثير الذي أحدثه في المجتمعات البشرية في بدايته، وسأتطرق في هذه المقالة الثالثة لتأثيره في بدايته على المجتمع المغربي كنموذج ربما يشمل كل شمال إفريقيا وبلاد الساحل، وغيره، وسأبدأ بتأثيره من جانب ثقافي أولا، فهو قد طور ثقافة الجمهور حول المعرفة المتعلقة بالفيروسات والميكروبات، ووسائل النظافة بالمواد الكثيرة التي تستعمل فيها، وأحدث تعبئة لجوانب المحافظة على الصحة بالوسائل العلمية والانتباه إلى خطورة العدوى بالأمراض المعدية، التي تتنقل بواسطة تقاليد المصافحة بالأيدي، وتبادل القبلات في الوجه، وتلويث المواد الغذائية بواسطة نقل الميكروبات والفيروسات بعدم استعمال الصبعيات، وعدم غسل الأيدي بالنسبة للتجار... ونقل الأمراض بواسطة الفلوس والأوراق النقدية، والأغذية المعروضة في المقاهي والمطاعم، ووسائل النقل بالطائرات والقطارات والسيارات، وأدخل لباس الكمامات وجعلها سلعة رائجة حققت منها كوريا الجنوبية أرباحا طائلة، على حساب استعمال الملابس البلدية كالنقاب، وأكلموس، واللثام الذي هو منتوج محلي كان سيعوض تجارة الكمامات الأسيوية لو كان هناك تدبير داخلي لهذه المادة الجديدة في السوق. كما وفر الوقت للتفكير والتأمل في العزلة داخل المنازل، وخاصة لدى الذين لا يهتمون بالتفكير أو القراءة، والكتابة خلال الحياة اليومية، وسينتج مجتمعا لا يستهين بهذه الأمور. وتأثير هذا الفيروس الجديد على المجتمع التقليدي كبير الأهمية؛ فقد عمل على تفكيك المجتمع، وفرض دور الفرد وحده بشكل جديد؛ إذ قد عطل من طقوس العبادات جميع الصلوات الجماعية، ولقاءات الزوايا والطرق الصوفية، وفرض ممارسة الدين الفردي كشأن خاص، وقلص دور البنايات الدينية الفخمة، ودور الأئمة الذين يخلطون الدين بالإمام، وخاصة لدى الشيعة والأحزاب الدينية والطوائف والعائلات الحاكمة بالنيابة عن الإله، خاصة في دول الخليج، وأوقف الحروب الدينية... وهمّش أجهزة المخابرات التي تحترف محاربة الإرهاب الديني، وعسكرة الدين لدى حزب الله اللبناني مثلا. وألغى طقوس دفن الجنائز، وتجمعات العزاء، والحفلات، والأعراس... وقرب فكرة المرض والموت إلى عقول المفسدين في الحياة اليومية لكي يراجعوا سلوكهم. كما سيساهم الجلوس والانعزال المنزلي في حوارات مطولة بين الأطفال وأهلهم، لفض النزاعات العائلية بين المتزوجين وبين الورثة، خاصة وأن المحاكم مغلقة، وسماسرة الفتنة العائلية لا يجدون شغلا. وقد أثر هذا الفيروس فعلا على ميدان الرياضة البدنية، وأوقف أنشطة الإلتراس، وجعل الرياضة شأنا خاصا لا يهم مافيا الألعاب الرياضية التي تستغل هذا الميدان... كما غير بشكل كبير ميدان السياسة، فلم يترك فرصة للمافيات الحزبية لتستغل المجتمع، وجعلها حزبا واحدا، لم تعد لها فرصة لتضليل الناس بزعم التعدد الحزبي، ولا دور لها في ممارسة المعارضة الديمقراطية، ولا شجاعة لها في مواجهة الجمهور الذي يعاني، والاقتراب منه، ولا دور لفرقها البرلمانية من جراء الخوف الذي نزل بها، وانفلات صندوق كورونا من أيديها وهو يملك أكبر ميزانية جديدة في البلاد سيتصرف فيها غيرها بدون استشارتها... ولم تبذل جهدا في مراقبة تطبيق حالة الطوارئ الصحية كموضوع سياسي، وتركت مجال السياسة جامدا وبيد البيروقراطية المخزنية التي تسير الدولة. وكشف الفيروس عن حاجة البلاد الى أحزاب شجاعة عرقلتها قرارات المنع في مرحلة ما قبل كورونا... والحاجة إلى سياسة حزبية جديدة تجري المصالحة مع المظلومين والمعتقلين السياسيين في هذه المرحلة التي تتطلب إنقاص الآلام الحزبية لما قبل كورونا، وخاصة لدى الريفيين، والأمازيغ، وضحايا نزع أراضي الجموع، والسلالات والقبائل... هذه بعض التأثيرات، وليس كلها، ونفتح الطريق لمن يريد المزيد.