علاقات متشنّجة بين الحسن الثاني ومعمر القذافي، كانت تتراوح بين التأزّم والسلام البارد، بفعل الكره الذي كان يُكنّه العقيد الليبي للملكيات التي وصفها ب "الرجعية"، مقابل نظامه "الثوري" الذي حكمه بيد من حديد، بعدما نجح في الانقلاب على الملك السنوسي وتفكيك الجيش الذي أوصله إلى القصر، لينجح في التهام المُعارضين وتفكيك الدولة، جاعلا من الفوضى هي القاعدة. "القائد التاريخي" للأراضي الليبية كان منعزلا عن العالم، لازمته الخيمة في أسفاره، وكان يهرب إلى الصحراء مع خيمته.. شاب بسيط من جنوب ليبيا جاء إلى طرابلس، درس في الكلية العسكرية في بنغازي، ثم قاد الانقلاب على الملك السنوسي سنة 1969، ليُدعّم بعدها فرق المعارضة في العواصم العربية والإفريقية للانقلاب على الأنظمة القائمة، إيمانا منه أن الزعامة العربية والإفريقية حق من حقوقه. الجمهوريات أسوأ من الملكيات كان القذافي ميّالا إلى الحلف الجزائري وكارها النظام المغربي وقتئذ، وهو ما يُستشف من خلال الكتاب المعنون ب "في خيمة القذافي.. رفاق القذافي يكشفون خبايا عهده"، من تأليف غسان شربل، تضمّن شهادات مسؤولين كانوا إلى جانبه يوم كان يستعد للقبض على السلطة، ثم شاركوه فيها أو عملوا في ظله، يعرفون جيدا أسرار الخيمة وما كان يدور داخلها من قبل سيّدها. الكتاب مصاغ على شكل أسئلة وأجوبة للشهود، فكان الشاهد الأول هو عبد السلام جلود، أحد المشاركين في انقلاب 1969، كان بحق "الرجل الثاني" في النظام، قال عن العلاقات المتوترة بين المغرب وليبيا: "ضَعُف موقف الجمهوريات حين أصبحت أسوأ من الملكيات"، وزاد: "ذات مرة، فوجئنا بالملك الحسن الثاني يرسل موفدا يقول إن هناك عواصم تستهدف المغرب العربي، والحل في الوحدة بين المغرب وليبيا". وتابع جلود مسترسلا: "قلنا له: كيف وأنت نظام ملكي ونحن نظام ثوري؟ وهل سيسمح لك الأمريكيون؟، فرد أن الضرورة تحتم ذلك. وافق معمر وعقد اتفاقية وحده، لكنني رفضت. إذ كان يفترض أن أرافقه للتوقيع، لكنني لم ألحق به في المطار، فاضطر إلى السفر بمفرده. لحقت به في ما بعد والتقيت الملك الذي حاول إقناعي". "تضايُق" الملك محمد السادس كما تطرق الشاهد الثاني عبد الرحمان شلقم، وزير خارجية ليبيا الأسبق ومندوبها الأسبق لدى الأممالمتحدة، إلى واقعة تسليم المغرب للضابط الليبي، عمر المحيشي، الذي اتُهم بمحاولة الانقلاب على العقيد عام 1975، موردا: "سلمته أجهزة الحسن الثاني إلى الليبيين مقابل 200 مليون دولار، وأحضر بطائرة إلى ليبيا وذبح كالخروف". واستطرد شلقم: "اتهم بمحاولة الانقلاب وفرّ إلى مصر، لكن عندما ذهب السادات إلى القدس، شتم المحيشي السادات، وطرد من مصر فذهب إلى المغرب، فقد كان القذافي يدعم جبهة البوليساريو، وكان الحسن الثاني يخطط مع حسين حبري، رئيس تشاد، لتشكيل قوات في التشاد، بدعم من المغرب والعراق لمهاجمة نظام القذافي من الجنوب، ثم حدثت صفقة ودفع القذافي 200 مليون دولار، إضافة إلى حمولة ناقلتي نفط، وتطور الأمر إلى إعلان إطار تعاون بين البلدين". وأشار المسؤول عينه إلى واقعة مع الملك محمد السادس، وقال: "كان القذافي يتعاطى مع رئيس تانزانيا كوكويتا. شكا إلي الرئيس، وعمره 63 سنة، أن القذافي يخاطبه قائلا له "يا ابني""، مضيفا: "كان يستخدم الأسلوب نفسه في مخاطبة العاهل المغربي الملك محمد السادس الذي كان أيضا يتضايق، والشيء نفسه بالنسبة إلى الملك عبد الله الثاني والرئيس بشار الأسد"، مردفا: "تصور أن القذافي يقول يا ابني يا أوباما.. هذه الصيغة من القذافي كانت مقصودة لممارسة نوع من الفوقية، وتأكيد أنه الطرف الأكثر أهمية أو خبرة". سخرية الحسن الثاني من اتهامات العقيد ما أصعب أن تكون وزيرا للخارجية ويطلب منك القذافي نقل رسالة إلى الملك الحسن الثاني، يستهلها بعبارة أنت "رجعي وعميل" واتهامات أخرى، هكذا قال الشاهد الثالث علي عبد السلام التريكي، وزير الخارجية في عهد القذافي الذي انسلخ عن نظامه إبان احتجاجات 2011، وأضاف: "تصوّر أن يصل مبعوث إلى دولة ليبلغ ملكها أو رئيسها أنه "عميل""، لكنه شدد على أنه "لم يكن ينقل مثل هذا الكلام". ويسرد التريكي تفاصيل الحادثة: "ذهبت إلى الملك الحسن الثاني لأسلمه دعوة إلى القمة الإفريقية التي كان مقررا عقدها في طرابلس. استقبلني الملك بحضور وزير خارجيته واثنين من مستشاريه، وقال لي قبل تسلم رسالتك أحب أن أسمعك شريطا، بدأ الشريط وإذا هو عبارة عن تعليق في الإذاعة الليبية، تضمن ألفاظا بذيئة ضد الملك وأخلاقه ومواقفه". وأردف: "صدم الحاضرون من الجانب المغربي، لكن الملك كان يهدئهم. عَقدت جلسة طويلة مع العاهل المغربي امتدت من الثامنة مساء حتى الثانية صباحا. وفي نهاية الجلسة قال الملك: ما رأيك يا علي أن نقوم نحن الرجعيين بتعيين شخص، وتقومون أنتم كتقدميين بتعيين شخص يكون الحوار بينهما"، خاتما: "الحقيقة أن الملك كان يسخر من الاتهامات التي درج القذافي على إطلاقها ضد الدول المعتدلة أو التي تقيم علاقات قوية مع أمريكا". عندما دمعت عيْنا بوتفليقة يتحدث الشاهد جلود عن سرّ العلاقة بين القذافي والجزائر، موردا شذرة من العلاقات الشخصية بين القذافي وبومدين، عبر قوله: "عندما أمّمت الجزائر النفط جاء وزير الخارجية يومها عبد العزيز بوتفليقة موفدا من الرئيس الهواري بومدين طالبا تأييدنا، فاجتمع بي ولم يقابل القذافي". وأضاف العسكري الليبي: "قلت له (بوتفليقة): اكتب البيان الذي تريده ونحن نوقع عليه، فكتب بيانا ضعيفا لم يعجبنِ، فمزقته وكتبت أنا بيانا قلت فيه إن النفط الليبي هو النفط الجزائري، ولا يمكن أن يكون النفط الليبي بديلا للنفط الجزائري، وأن احتياطات ليبيا من العملة الصعبة تحت تصرف الجزائر، فدمعت عينا بوتفليقة وعانقني". لكنه أعرب عن إحباطه من النظام الجزائري عقب اندلاع الانتفاضة الليبية سنة 2011، قائلا: "لقد تألمت من موقف الجزائر، فهو غير مفهوم حقيقة، إذ يمكن أن يكون السبب أن نظام الجزائر لا يحتمل ثورتين على حدوده"، في إشارة إلى الاتهامات التي وجهها الثوار آنذاك للجزائر بدعم نظام معمر القذافي بإرسال مرتزقة لمساعدته. طموحات "القائد التاريخي" الشاهد الرابع يتمثل في عبد المنعم الهوني، العضو البارز في "مجلس قيادة الثورة"، قبل أن ينشق في منتصف السبعينيات ويتعرض لمطاردة طويلة من أجهزة القذافي، الذي لفت إلى حلم الزعامة الزائف لدى العقيد الليبي، ما دفعه إلى دعم الاحتجاجات والمظاهرات في المنطقة العربية والإفريقية، إلى جانب التورط في الانقلابات العسكرية، وهو ما أثار امتعاض الملك الحسن الثاني. وأورد الهوني ما معناه: "خطط القذافي لاغتيال الملك عبد الله بن عبد العزيز، وكرر المحاولة، وخطط أيضا لاغتيال الملك حسين"، ثم زاد مستدركا: "استخدم مجموعة "أبو نضال" وكارلوس "والجيش الأحمر الياباني" و"الألوية الحمر" و"بادر ماينهوف"، ودعم أيضا معارضات واحتجاجات، وتورط في مغامرات عسكرية في تشاد وغيرها". سباق القذافي وصدّام "كان شديد الانزعاج من علاقات السعودية بالمغرب والأردن ولبنان، خصوصا السنّة فيه، والتوازن الذي تقيمه هناك مع سوريا، فضلا عن دورها في مجلس التعاون الخليجي"، وفق شلقم، الذي أكد أن العقيد كان يخاف جدا من الأمريكيين، موردا المثال أنه كان يخاطب الرئيس الأمريكي أوباما بما يلي: "أنت ابني، وتعالوا لنتفاهم على النفط". وبشأن سياسة المحاور العربية في تلك الظرفية، قال وزير الخارجية الليبي الأسبق: "الحقيقة أنه بعد غياب عبد الناصر، اعتقد كثيرون أن الكرسي فارغ. إخواننا في الخليج لم تكن لديهم فكرة الزعامة القومية، إذ يهتمون بمنطقتهم وبالشؤون العربية والإسلامية، لكن ليس لديهم مشروع زعامة على مستوى الأمة". وتابع حديثه: "بينما الإخوة في المغرب العربي لم يخوضوا أيضا حرب الزعامة العربية الشخصية. السادات خرج من سباق الزعامة حين اختار طريق كامب ديفيد، وحافظ الأسد كان يمارس في الزعامة قدرا من الواقعية. إذن بقي في السباق صدام حسين ومعمر القذافي؛ الأول بعثي والثاني ناصري، ولدى كل منهما المال لشراء حلفاء ومؤيدين ومداحين، فجاء موضوع إيران واختلفا". علاقات ممتازة مع بومدين عاد الشاهد علي عبد السلام التريكي، وزير الخارجية الأسبق في جمهورية القذافي المنهارة، للحديث عن طبيعة العلاقات الدبلوماسية التي كانت تجمع العقيد الليبي بالبلدان العربية والإفريقية، ذلك أن القذافي كانت له علاقات جيدة وممتازة مع الرئيس الجزائري هواري بومدين، وفق شهادته، بينما كانت له علاقات متينة مع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. وبخصوص العمل الدبلوماسي في عهد القذافي، فيصفه المسؤول الأسبق في النظام المُنهار أنه "صعب جدا جدا"، لأن القذافي كان "صعبا"، و"عليك أن تحاول إصلاح الأضرار التي تسببها تصريحاته أو ممارساته"، وزاد: "كان يتخذ مواقف عاطفية أو ارتجالية تنعكس على علاقات البلد، إذ لم يكن يراعي الأصول الدبلوماسي".