نعرض هنا -بتصرف- مضامين الوثيقة التي قدمتها اللجنة الاستشارية الوطنية للأخلاقيات في فرنسا (CCNE) بتاريخ 13 مارس 2020، جوابا على الطلب الذي كان قد وجهه إليها الوزير المكلف بالصحة والتضامن نهاية شهر فبراير 2020. ومن أجل صياغة هذه الجواب، فقد بادرت اللجنة الاستشارية على وجه الاستعجال إلى تشكيل فريق عمل مكون من عدد من الخبراء، بالإضافة إلى المدير العلمي للصحة العمومية لفرنسا ومديرة التواصل باللجنة، كما أنها سارعت إلى استشارة أربعة شخصيات- كان من بينها البروفيسور إيمانويل هيرش (أستاذ الأخلاقيات الطبية)- خلال الفترة الممتدة ما بين 6 و7 مارس 2020. سياق جديد وتطورات متسارعة لقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أن ظهور فيروس كورونا المستجد في الصين، خلال مطلع سنة 2020، قد مثل حالة طوارئٍ ذات أبعاد عالمية بالنسبة للصحة العمومية بسبب سرعة انتقال هذا الفيروس. وإذا كان عدد الحالات المسجلة في الصين قد عرف انحسارا ملحوظا بفعل التدابير التي اعتمدتها الحكومة الصينية (من قبيل فرض الحجر الصحي الإلزامي)، فإن الوباء سرعان ما شهد انتشار واسعا في جميع القارات، وهو ما حدا بمنظمة الصحة العالمية إلى استعمال عبارة الجائحة العالمية من أجل وصف هذه الوضعية التي تتميز بجدتها وبما تشهده من تطور مطرد. على المستوى الفرنسي، تم تسجيل أول إصابة بالفيروس نهاية شهر يناير 2020، وتم تسجيل أول حالة وفاة بتاريخ 14 فبراير 2020. ومنذ ذلك الحين، فإن المعطيات المنشورة من قبل جهاز الصحة العمومية الفرنسية تُظهر زيادةً منتظمة ثم تفاقماً متسارعا في عدد حالات الإصابة التي لم تعد منحصرة في بعض البؤر فقط، بل أصبحت منتشرة في جل المقاطعات، في إشارةٍ إلى قرب الانتقال إلى وضعيةِ وباءٍ شامل. وهذا ما أصبح عليه الحال أيضا، منذ بداية شهر مارس، على المستوى الدولي والأوروبي، وعلى وجه الخصوص في إيطاليا. لقد عبأت الحكومة الفرنسية منظومتها الصحية لمواجهة هذا الوباء عبر ثلاث مراحل: 1) محاصرة الفيروس والتقليل من احتمال دخوله من خلال عمليات رصد المصابين والتكفل بهم -"الحالات المحتملة" و"الحالات المؤكدة"-؛ 2) كبح انتشار الفيروس في المجال الوطني من خلال إستراتيجية احتواء ملائمة؛ 3) أما في المرحلة الوبائية، مرحلة انتشار الفيروس، فإن الإستراتيجية الصحية أصبحت مختلفة تماما، لأنها انتقلت من منطق رصد الحالات الفردية وتوفير الرعاية لها إلى منطق العمل الجماعي الذي يقتضي تعبئة شاملة لجميع مكونات المنظومة الصحية. ضمن هذا السياق، تقترح اللجنة الاستشارية الوطنية للأخلاقيات بفرنسا مجموعة من سبل التفكير التي يمكن أن تسترشد بها كافة أطراف المجتمع من أجل رفع التحديات الأخلاقية التي يطرحها وباء كوفيد-19. وقد استندت اللجنة في عملها، بالأساس، على ما كانت قد قررته في رأيٍ استشاري سبق لها أن تقدمت به سنة 2009، وكذا على مجموعة من النصوص والوثائق التي نُشرت في الآونة الأخيرة، سواء في فرنسا أو على الصعيد الدولي. بعض المبادئ الأخلاقية التي يتعين أخذها بعين الاعتبار (انطلاقا من الرأي الاستشاري رقم 106 الصادر سنة 2009) لقد سبق للرأي الاستشاري المنشور في فبراير 2009 أن أثار مسألةً أساسية تتعلق بمعرفة ما إذا كانت حالة الطوارئ، التي تنجم عن وباء الأنفلونزا، تنطوي على إمكانية النظر إلى بعض المبادئ الأخلاقية الأساسية بوصفها أمراً ثانويا، وذلك لأن السلطات العمومية تجد نفسها أمام صعوبات جمة يطرحها اتخاذ القرارات في وضعيةٍ أهمُّ ما يميزها هو غياب معطيات يقينية، سواء تعلق الأمر بعدد الحالات المعنية أو بمدة الوباء أو بحِدّته أو بمدى فعالية الإجراءات المتخذة وانعكاسها على تطور الوباء وعلى عدد الإقامات الاستشفائية أو عدد الوفيات. والحال أن القرارات التي يتم اتخاذها، مهما كانت طبيعتها ونوعها، يجب أن تستجيب لشرطٍ أساسي هو شرط احترام الكرامة الإنسانية، أي أنه يتعين النظر إلى القيمة الفردية لكل شخص بوصفها قيمة مطلقة. ولذلك اعتبر الرأي الاستشاري المشار إليه أن أي خطةٍ لمجابهة وباءٍ مَا لا يجب أن تفضي إلى تفاقم حالات اللا-عدالة القائمة سلفا، واعتبر كذلك أن مبدأ العدالة هذا يمكن ترجمته وتفعيله إمّا بالمعنى الذي يُحيل على قاعدة المساواة أو بالمعنى الذي يُحيل على قاعدة الإنصاف. وبما أن احترام مبدأ الإنصاف يمثل شرطا ضروريا للعمل في سياق نُدرة الموارد، فقد أوصت اللجنة الاستشارية حينئذ بترجيح مُقتضى تحديد الأولويات على مُقتضى العدالة في دلالته على المساواة. لكنها اعتبرت في نفس الوقت أن انتقاء وفرز الأشخاص، الذين سيحضون بأولوية الحماية، على أساس قيمتهم الاقتصادية فقط (أي على أساس منفعتهم أو فائدتهم الاجتماعية) هو أمر غير مقبول بتاتا: إن كرامة الشخص ليست رهناً بمنفعته. ولهذا يلزم أن تسترشد القرارات الطبية، التي تُتَّخذ في حالة نُدرة الموارد، بتفكيرٍ أخلاقي يأخذ في حسبانه احترام كرامة الأشخاص إلى جانب مبدأ الإنصاف. وقد أشارت اللجنة الاستشارية أيضا، في ذلك الحين، إلى أن التساؤل الأخلاقي غالبا ما يقود إلى وضع مبدأ الاستقلالية في مقابل مبدأ التضامن، والحال أن الاستشارات الواسعة التي عُقدت سنة 2018 حول البيوإتيقا في فرنسا قد بيَّنت أن هذين المبدأين ليسا متنافرين ولا يُقصي أحدهما الآخر: فأن يكون الفرد مستقلا يعني أن يكون حرا إلى جانب الآخرين وليس ضدا عليهم، ثم إن التضامن هو أن يُتاح لأكبر عددٍ من الأفراد ممارسة استقلاليتهم. ولهذا السبب يصعب غاية الصعوبة على مجتمع معينٍ أن يوافق، في حالة تفشي الوباء، على ممارسة الاستقلالية بمعناها المغلوط الذي يفيد إمكانية أن يرفض الفرد المصاب بالعدوى تلقي العلاجات مع ما يترتب على ذلك الرفض من تعزيز لانتشار المرض؛ إن استقلالية الفرد يجب أن تتوارى في هذه الحالة إلى الخلف لتفسح المجال لمبدأ التضامن. وبخصوص حالة الوباء الشديد الذي يأتي بغتة، فقد نبّهت اللجنة الاستشارية كذلك إلى أن السلطات العمومية قد تعتمد تدابير إلزامية، من قبيل مصادرة الممتلكات أو عزل فئات معينة من المواطنين أو الحد من التنقل. وبحسب القانون، فإن الإجراءات التقييدية للحريات الفردية يجب أن تُعتَمَد وتُطبَّق وفقا للتشريعات، ويتعين أن تكون متسقة مع مَقصدٍ مشروعٍ يروم المصلحة العامة، وأن تكون بالقدر اللازم وفي حدود ما هو ضروري لتحقيق ذلك المقصد، ومن دون أن تتضمن أي إجراءٍ يحمل تجاوزا أو تمييزا، كما أن تحديدها يجب أن يتم على أساس المعطيات العلمية المتوافرة، وخاصة فيما يتعلق بفعاليتها ومقدار نجاعتها. وبهذا الصدد، فقد نبّهت اللجنة الاستشارية على الخطورة التي تترتب عن توسيع الإجراءات التقييدية خارج الحدود التي تتطلبها مواجهة الوباء، سواء كان ذلك التوسع راجعا إلى اعتماد تصور غير مناسب بشأن مبدأ الاحتراز أو بقصد خدمة أهداف الدعاية الديماغوجية. كما أن اللجنة لم تغفل التذكير بأن كافة الحقوق والحريات التي ليست معنية بالتقييد يجب أن تُحفظ وتتواصل ممارستها. إن السياقات والظروف، مهما كان نوعها، لا تملك أن تغير المبادئ الأخلاقية، وذلك بالرغم من أن وضعيةً مستجدة -مثل الوضعية الناجمة عن مواجهة الوباء- قد تستدعي ترتيب تلك المبادئ بحسب الأولوية، وبشرط أن يتم ذلك بطريقة مقنعة ومع كامل الشفافية. واستناداً إلى تلك المبادئ، وبالنظر إلى السياق السريع التغير لوباء كوفيد-19 في أوروبا، فإن اللجنة الاستشارية الوطنية للأخلاقيات بفرنسا تقترح 10 مسائل جديرة بالاهتمام و4 توصيات. المسائل العشرة المقترحة: 1. أهمية المسؤولية المُواطنة: إن مفهومي الحرية الفردية والمصلحة العامة يشكلان أحد الرهانات الأخلاقية الأساسية لأيِّ مخططٍ يروم مواجهة تطور وباءٍ ما. وتشير المعطيات العلمية، خصوصا بعد هجمات 11 شتنبر 2001 في الولاياتالمتحدةالأمريكية، إلى أن المواطنين يقيمون موازنةً بين مقدار الحرية الذي يمكن أن يتنازلوا عنه والأمن الذي يمكن أن يحصلوا عليه "في مقابل" ذلك التنازل. لكن قدرتهم تلك على الموازنة هي رهينة بمقدار الثقة التي يضعونها في السلطات العمومية. وعلى إثر المشاورات الواسعة التي انعقدت مؤخرا في فرنسا حول البيوإتيقا، فإن اللجنة الاستشارية ترى أن حس المسؤولية لدى المواطنين هو أمر قائم وواقع متحقق، وذلك بالرغم من أن بعض السلوكيات الأنانية تظهر بشكل متكرر. ولهذا ينبغي المناداة بالمسؤولية الفردية وبَيان أنّ خِيار التنازل عن نوعٍ من الحرية من شأنه أن يتيح تحصيلَ نوعٍ من الأمن. وتَعتبر اللجنة أيضا أن من الأهمية بمكانٍ تعبئة الهيئات الوسيطة (نقابات، جمعيات، أحزاب سياسية، مقاولات...) وكافة الجهات العاملة بالقرب من المواطنين من أجل توضيح الإجراءات المعتمدة. 2. ضرورة الاعتماد في عملية صنع القرار السياسي على الخبرة الصحية وإسهام المجتمع المدني: إن العمل الجماعي المنظَّم من أجل حماية الصحة العامة مسنودٌ إلى الدولة بمقتضى وظائفها السيادية. وتَعتبر اللجنة أن منهج التشاور ليس ضامنا فقط لوجاهة وجدوى القرار السياسي الذي يُسهم فيه (مع الاعتماد على الخبرة العلمية)، بل هو ضامن أيضا للثقة التي يبعث عليها لدى المجتمع المدني. ولذلك فإن ما يتعين فعله هو اعتماد القرار الذي يستند إلى أقوى الحجج بالنظر إلى المعارف المتاحة. ومن جهة أخرى، فإن هذا القرار، من حيث أنه يهم المجتمع بأكمله وربما تعلَّق بقِيَمه الأساسية، يستوجب مسبقا الإنصات إلى ما يعلنه المواطنون من آراء. ومن وجهة نظر اللجنة، فإن تشكيل هيئة مختلطة لدى الوزير المكلف بالصحة (تكون مُؤلَّفة من خبراء علميين ينتمون إلى تخصصات معرفية مختلفة بما في ذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية، إلى جانب أعضاء من المجتمع المدني والأوساط الجمعوية خصوصا، وتكون لديهم القدرة على مراعاة أراء مختلف فئات الشعب الفرنسي)، سيمثل خطوة رائدة في نظامنا الديمقراطي وسيُسهم في تعزيز الثقة وانخراط كامل المجتمع في جهود السلطات العمومية. ويبدو أن تناغم وانسجام القرارات المعتمدة يلعب أيضا دورا أساسيا في حُسن استيعاب وتقبُّل التدابير الإلزامية المحتملة أو الخيارات الصعبة المتعلقة بالسياسة الصحية في سياق هذه الأزمة. 3. ضرورة استناد التدابير الإلزامية إلى إطار قانوني وأخلاقي متين وإلى الحس البيداغوجي: لقد سبق للجنة، في رأيها الاستشاري رقم 106، أن تطرقت بشكل موسع لمسألة تقييد الحقوق، ولا تزال الحجج المعروضة في ذلك الرأي تحتفظ بصلاحيتها اليوم. وإذا وجدت السلطات العمومي نفسها مدفوعة في السياق الراهن إلى إعادة النظر في التوازن القائم بين الحريات الأساسية وحفظ النظام العام، فإن اللجنة تود التشديد على أن فرنسا تملك ترسانة قانونية غنية وكافية من أجل تقييد الحقوق بشكل مؤقت والمحافظة في نفس الوقت على دولة الحق والقانون. ومن جهة أخرى، فإن اللجنة تلفت الانتباه إلى أهمية التواصل والشرح الواضح للأسباب التي تقود في لحظة معينة إلى اقتراح بعض التدابير الإلزامية، وإظهار تناسب ومواءمة ومحدودية كل إجراء يتضمن مساسا بحريات المواطنين. 4. التركيز بصفة خاصة على الفئات الهشة: إن اللجنة تشدد بالخصوص على مسألة التفاوت الاجتماعي أمام المخاطر المرتبطة بتطور الوباء. فالأوضاع المعيشية والصحية وظروف العمل والبطالة وكذا الحالة الصحية وظرفية الهشاشة التي يعيش فيها الفقراء، كل ذلك تترتب عنه مخاطر محددة وخاصة ومتعاظمة في هذا السياق الذي يتعذر فيه تطبيق الإجراءات والتدابير الاحترازية. إن الأشخاص من دون مأوى، الذين يعيشون في بيئات هشة وفي الشوارع، يتواجدون في ظل ظروف غاية في الخطورة. وكذلك الأمر بالنسبة للأشخاص الذين لا يملكون وثائق هوية، فهم أيضا يعيشون في ظروف صعبة بالنظر إلى محدودية استفادتهم من المنظومة الصحية. فواقع الأمر يشهد إذن على وجود تفاوت اجتماعي في مخاطر الإصابة بالعدوى وفي الاستفادة من الرعاية. وتوجد أيضا مخاطر حقيقية بخصوص تعرُّض بعض الفئات الاجتماعية للوصم. ولهذا فإن اللجنة توصي بقوةٍ السلطات العمومية بالعمل على أن تدمج، بطريقة شاملة وملائمة، مسألة التفاوت الاجتماعي ضمن الخطة التي تضعها، لأن حالات الأزمة هاته قد تؤدي إلى تفاقم الصعوبات التي تواجهها هذه الفئات الهشة. 5. التواصل بشفافية ومسؤولية وربط صلة أقوى بالجسم الاجتماعي: إن التواصل، في الوقت الراهن، يقوم على قاعدة مختلطة تتضمن رسائل عديدة ومتنوعة تصدر عن السلطات العمومية أو المسؤولين السياسيين أو الجهات المختصة أو الخبراء. ويمكن أن نلاحظ اليوم أن التواصل يتميز أيضا بدقته وحرصه على الحذر رغم الظرفية المتغيرة بشكل مستمر. ومن جهة أخرى، فإن الوباء الحالي ربما يكون أول وباءٍ يختبره الناس على نطاقٍ عالمي وبشكل متزامن في عصر قنوات الإخبار المتواصل ووسائل التواصل الاجتماعي والبث المباشر. إن هذه الوسائل تضطلع حقا بدور هام في إخبار الجمهور وتقاسم المعطيات "الأكيدة" حول الفيروس، لكنها في المقابل تتيح إمكانية الكشف عن هوية الأشخاص المصابين بكوفيد-19 أو الأشخاص المحتمل إصابتهم، وتشارك في حملات تمييزية اتجاه بعض الفئات وفي نقل معلومات مغلوطة. وفي هذه المرحلة التي غدت فيها الإجراءات التقييدية ضرورية من الناحية الصحية، يكون من الأهمية بمكان عدم مضاعفة الأزمة الصحية بأزمة أخرى تنجم عن شيوع عدم الثقة في أوساط المجتمع. إن استراتيجيات التواصل الحالية، التي تصدر في الغالب عن السلطات العمومية أو الخبراء، يلزمها أن تعتمد على الجسم الاجتماعي لكي تُفهَم وتُنتَقد وتُستوعَب ذهنيا حتى يتسنى تناقلها بعد ذلك على أوسع نطاق. إن قدرة المجتمع على استيعاب مفاهيم معقدة وعلى التواصل بشأن اعتماد إجراءات تقييدية وعلى فهم الصعوبات التي يواجهها أصحاب القرار، هي كلها أمور ممكنة ومن شأنها أن تُسهم في تسويغ التدابير المتخذة وفي قبولها من طرف المواطنين. ثم إن المعلومة، عندما يتم توجيهها بحيث تستهدف أفرادا مخصوصين داخل الأطر الاجتماعية والمحلية والمهنية أو العائلية، فإنها تصبح عاملا بالغ الأهمية في تعزيز الثقة. ولهذه الأسباب، تَعتبر اللجنة أن التعبئة الاجتماعية في مواجهة الوباء يجب تنظيمها وهيكلتها على أساس الوعي المشترك والذكاء الجماعي. وتوصي اللجنة بالانتقال من التواصل العام إلى أشكال أخرى من التواصل تستهدف أطرافا وفئات محددة ومخصوصة، مع التركيز على المجموعات التي تعيش أكثر من غيرها في ظروف الهشاشة (الأشخاص في فقر مدقع، الأشخاص من دون مأوى، الأشخاص في وضعية إعاقة، المصابون بأمراض نفسية، المهاجرون، السجناء ...). ويبدو من ناحية أخرى، أن الحكمة تقتضي من العلماء والأطباء عدم التسرع بالإعلان عن معلومات سابقة لأوانها في وسائل الإعلام أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي، عندما تتاح لهم فرصة الحديث عن البحوث العلمية الجارية بخصوص اللقاحات أو العلاجات. 6. ضرورة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي: لقد اختار بعض الأشخاص في الخارج كما في فرنسا مؤخرا الكشفَ بصورة علنية عن حالتهم الصحية. وهذه الحالات تخلق في العادة زخما واضحا من التضامن والتعاطف في شبكات التواصل الاجتماعي؛ ومن شأنها أيضا أن تقلل -بواسطة نوع من "التربية عبر التجربة المعيشة"- من صعوبة بعض تجارب العزل أو الحجر الصحي. وفي جميع الأحوال، يجب أن تكون هذه القرارات مبنية على وعي تام بنتائجها (إذ من الوارد أن يصبح أصحابها عرضة لأقوال مسيئة)، وأن لا يتم اتخاذها تحث ضغط وإكراه المجتمع. ومع ذلك، فإن اللجنة توصي بإلزامية تذكير كل الفاعلين والخواص والمعالجين والمسؤولين العموميين والإعلام بوجود نصوص قانونية تتعلق بحماية سرية المعطيات الطبية وهوية الأشخاص المصابين، وبأن هذه النصوص يجب أن تظل سارية المفعول في حالة الوباء. 7. ضرورة وضع السياق العالمي في الحسبان: إن فرنسا طرف في علاقات اقتصادية واجتماعية متبادلة ومستمرة مع باقي الدول (الجارة أو غير الجارة). وقد أصبحت هذه العلاقات، في إطار العولمة، عرضة لأضرار شديدة بسبب حالة الوباء وما تفضي إليه من إجراءات حكومية تتجه نحو إغلاق حدود البلد وإيلاء الأهمية لحماية المواطنين. وفي هذا السياق، تُذكِّر اللجنة بواجبات تقديم المساعدة والعدالة: إن ما يقوم به بلد معين من أجل إنهاء الأزمة الصحية في مجاله الترابي، قد يفضي إلى نتائج وخيمة من الناحية الصحية بالنسبة إلى بلد آخر، وهذا أمرٌ يتعارض مع مقصد التضامن الدولي. ولهذا يجب اعتبار الإطار الأوروبي رافعةً للتعاون من أجل بناء سياسة موحَّدة لتدبير الأزمة الصحية، تقوم على تغطية الصعوبات الوطنية وإتاحة حلول جماعية في نفس الوقت. أما فيما يتعلق بالتضامن مع الدول ذات الموارد المحدودة، وخاصة إفريقيا جنوب الصحراء الفرنكفونية، فقد سبق للجنة أن شددت سنة 2009 على خشيتها من أننا سنصبح عاجزين، في غياب تحضير مبكر جدا، على النهوض بواجبات العدالة وتقديم المساعدة للدول الأكثر فقرا في حال تفشي الوباء. وبالنسبة للوقت الحاضر، فإن اللجنة تؤكد مرة أخرى أن التضامن مع الدول الأشد فقراً هو ضرورة تقتضيها مواجهة انتشار المرض، وتضيف إلى ذلك أن الإطار الأوروبي يمكن أن يشكل في هذا السياق أيضا رافعة قوية جدا من أجل العمل الجماعي. 8. ضرورة إدماج جهود البحث العلمي في إطار دولي: إن جهود تعبئة فرق البحث العلمي، التي بادرت إليها منظمة الصحة العالمية أو جهات أخرى، هي في حاجة إلى مزيد من التعزيز والمواكبة من خلال تمويلات إضافية. وتُذكِّر اللجنة أنه حتى عندما يتعلق الأمر بحالة طوارئ، فإنه من الواجب التقيد بالضوابط والأطر الأخلاقية المتعارف عليها أثناء إنجاز البحوث العلمية التي تنصبُّ على الأشخاص، ولاسيما بخصوص المرضى الذين يتم إشراكهم في بروتوكولات التجارب السريرية. أما البحوث في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، فهي كذلك ضرورية جدا، وبخاصة من أجل استيعاب حاجات المجتمع المدني. ولا بد أيضا من توجيه الإطار الدولي للبحث العلمي نحو تقوية وتعزيز برامج اليقظة، التي تم إرساؤها منذ سنوات خلت، بشأن بروز أمراض الجهاز التنفسي الفيروسية، وبُغية تحقيق النجاعة الاستباقية والمواءمة العلاجية. ومن الضروري كذلك، في هذا المقام، أن يستوعب هذا البعد الدولي وضعية البلدان ذات الموارد المحدودة. 9. مسؤولية قطاع الصناعة الدوائية: يجب على الصناعة الدوائية الأوروبية، والفرنسية بالخصوص، أن تسهم في جهود البحث الأكاديمي، وذلك بأن تضع رهن إشارة الفرق البحثية ما يمكن أن تتوصل إليه من نواتج مرشحة لأن تتحول إلى عقاقير علاجية أو لقاحات. وتوصي اللجنة أيضا بأن تُدمِج شركات الأدوية، ضمن ممارساتها البحثية، تلك الرؤية الجماعية التي تتطلع إليها، في سياق الوباء الذي نعيش فيه، جميع الأطراف المعنية، وأن تسمو بذلك فوق الاعتبارات الاقتصادية الخالصة. 10. أهمية التفكير الأخلاقي لضمان استفادة جميع المرضى من الرعاية الصحية: إن ظهور وباء كوفيد-19 قد حصل اليوم في سياق الأزمة التي تتخبط فيها المؤسسات الاستشفائية العمومية، والتي نجمت عن خفض الميزانيات المرصودة ونقص الأسِرَّة وضعف عدد العاملين في مجال الرعاية الصحية، وهو الأمر الذي أفضى إلى ممارسات توصف أحيانا بالمتدهورة. ولذلك فإن توفير وسائل إضافية وقارة أصبح يمثل ضرورة مطلقة، ولاسيما من أجل مواجهة الأزمة الصحية المستجدة. وبخصوص حالات المرض الخطيرة، فيجب الوعي باحتمال حصول نقص شديد في الوسائل التقنية والبشرية في حال تفاقم الأزمة الوبائية. إن بعض الموارد، من قبيل أسِرَّة الإنعاش ومعداتها الثقيلة، تعاني أصلا من الشح، وهي توشك أن تصبح غير كافية بالمرة إذا ارتفعت أعداد الحالات المرضية الخطيرة. وعندما يصبح من المتعذر تقديم الخدمات الصحية للجميع، بسبب نُدرَتِها، فإن مطلب الإنصاف -الذي يقتضي مراعاة الحاجات الخاصة بكل فرد- يغدو متعارضا مع مطلب العدالة بمعناها الاجتماعي الذي يفرض وضع تراتبية بين الأشخاص بحسب الأولوية، وهو ما يتم أحيانا في ظروف سيئة وتبعا لمعايير تثير الجدل دائما: إن الحاجة إلى "فرز" المرضى تطرح إذن إشكالية أخلاقية خطيرة تتعلق بالعدالة التوزيعية، وهذا ما قد يظهر -في حالتنا هاته- من خلال التعامل بصورة مختلفة مع المرضى المصابين بفيروس كوفيد-19 وأولئك الحاملين لأمراض أخرى. إن هذه الخيارات تحتاج إلى توضيح وشرح كافيين ويتعين فيها احترام مبادئ الكرامة الشخصية والإنصاف. وينبغي أيضا الحرص والسهر على ضمان استمرارية خدمات الرعاية الصحية للمرضى. إن اللجنة تُذكِّر بأن الغاية يجب أن تظل هي حماية مجموع الساكنة، حتى في ظرفية تزايد عدد المصابين بفيروس كورونا، الأمر الذي لا يتطلب فقط احترام إرشادات الحماية بالنسبة للعاملين في قطاع الصحة، بل يقتضي أيضا جملة من التدابير المتعلقة بتنظيم المصالح والأقسام الصحية. ونسجل بهذا الصدد أن رسائل الوقاية والاحتراز المتعلقة بالزيارات داخل مؤسسات إيواء الأشخاص المسنين تستهدف حماية من يعانون أكثر من الهشاشة، لكن هذه الرسائل لا تعفي من إيجاد حلول جديدة تسمح بتفادي قطع الصلة بين الأجيال لمدة طويلة. وأخيرا، فإنه من المهم جدا، في نظر اللجنة، العمل على تقوية التفكير الأخلاقي بخصوص دعم ومساندة الفُرُق الطبية. التوصيات المقترحة: إن اللجنة مقتنعة وواثقة بأن واحدا من أهم الرهانات الأخلاقية، في سياق هذا التفشي الوبائي، يتمثل في إشراك ودمج كامل المجتمع في مسار المسؤولية والتضامن. وفضلا عن ضرورة تعزيز شفافية الإعلام والتواصل، فإن التوصيات الأربعة التالية من شأنها تيسير استيعاب وتقبل المواطنين للتدابير التي سيتم اتخاذها في إطار مواجهة الوباء: 1. إن تشكيل هيئة مختلطة من خبراء علميين ينتمون إلى تخصصات معرفية مختلفة بما في ذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية، إلى جانب أعضاء من المجتمع المدني، وتكون لديهم القدرة على مراعاة أراء مختلف فئات الشعب الفرنسي، سيمثل خطوة رائدة في نظامنا الديمقراطي؛ 2. إن أهمية التفكير الأخلاقي في رعاية المصابين بأمراض خطيرة، وفي الخيارات المتعلقة بإعادة تنظيم الأقسام والمصالح الطبية من أجل التصدي لإكراهات تدبير الموارد النادرة، تدفع اللجنة إلى اقتراح تشكيل "خلية أخلاقية للدعم" تُمَكِّن من مصاحبة مهنيي الصحة قدر الإمكان في تحديد أولوياتهم بشأن الخدمات الصحية التي سيقدمونها؛ 3. التشجيع على التجديد وتحفيز الإبداع بشأن الحلول المنتظرة في كافة المجالات، مع ضرورة الاستناد دائما إلى إطار أخلاقي مشترك؛ 4. المبادرة سريعا إلى إنجاز تقييم مستقل واستعراض الخبرات المستفادة من التجربة الحالية، مع إشراك جميع الفاعلين في عمليات محاربة الوباء، ومن دون إغفالٍ لوضعية الفئات الهشة. وبما أن تكرار الأزمات الصحية يبرز أهمية التحضير والاستعداد في الفترات الفاصلة بين الأزمات، مع ضرورة أن يشمل ذلك التحضير الأبعاد الصحية والتنظيمية والاجتماعية والأخلاقية، فإن المعلومات التي يتم جمعها أثناء القيام باستعراض الخبرات المستفادة من التجربة السابقة، تغدو معلومات لا غنى عنها. إن تنزيل وإنفاذ هذه التوصيات سيتيح تحقيق بعد أخلاقي آخر يكتسي أهمية خاصة في وقت الأزمات ويصدر عن المواطنين أنفسهم: إنه ذلك التعاقد الاجتماعي الذي يمكن أن يتوطد ويتعزز ضمن إطار طبي وسياسي يتميز بالثقة والعدالة، ويفترض ليس فقط احترام القواعد والضوابط بل أيضا الاحترام المتبادل، كما أنه لا يفترض الاهتمام بالذات فحسب بل يفترض الاهتمام بالغير أيضا. *أستاذ الفلسفة بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس