اختار المغرب استراتيجية كسر سلاسل انتشار فيروس كورونا من أجل محاصرته والقضاء عليه. ومن أجل ذلك اعتمد مقاربة استباقية باعتماد الإجراءات الاحترازية، وسياسة التوسيع المتدرج لتلك الاجراءات، والتي توجها بإعلان حالة الطوارئ الصحية والتي من شأنها تضييق فرص انتقال الفيروس عبر شبكة العلاقات الاجتماعية إلى أقصى الحدود. لكن انتشار جائحة كورونا أنشأ وضعية معقدة تشابك فيها ما هو اقتصادي واجتماعي ونفسي شكل ضغطا رهيبا على الأسر، مما يتطلب توجيه الاهتمام والجهود إليها لحمايتها من تداعيات تلك الوضعية بما يجعلها فعالة في إنجاح تدابير المرحلة ضد جائحة كورونا المستجد. وهذا ما نقترح مقاربته في هذا المقال. إن عموم الخطاب المستهلك إلى حدود اليوم يتوجه إلى الأفراد ويغفل الأسرة، في حين أن الأسرة هي الشريك الاستراتيجي الأهم في إنجاح مرحلة تطبيق الطوارئ الصحية. فإذا كانت إجراءات الطوارئ الصحية يمكن اختصارها في إبقاء أقصى ما يمكن من الأفراد في منازلهم وعزلهم، من جهة، عن فرص الإصابة المحتملة بالمرض، ومن جهة أخرى لمنعهم من نشر المرض في حالة الإصابة به، مما يجعل الفضاء العام هو ساحة المعركة بالنسبة للطوارئ الصحية، فإن المنزل يعتبر مجالا استراتيجيا مكملا مما يتطلب العناية الفائقة بالأسرة باستهدافها على الأقل على المستوى الصحي وعلى المستوى الاجتماعي والنفسي. على المستوى الصحي: داخل البيت، تتحمل الأسرة وحدها مسؤولية الالتزام بالتدابير الحمائية من انتقال العدوى بالفيروس بين أفرادها. وفي هذا المستوى هناك قسط من التوعية العامة التي تمت وتتم تفيد أيضا داخل البيت، لكنها غير كافية، ذلك أن البيت مجال صغير يحتضن عددا من الأفراد يشتركون في العديد من الأنشطة التي تتطلب التعامل بينهم مباشرة او عبر المجال والأشياء التي فيه. وهنا تحتاج الأسر إلى توجيهات خاصة بها تتعلق أولا، بمواجهة احتمالات نقل الأشخاص للفيروس من الخارج، سواء عبر تلوث أيديهم أو أحديتهم أو ملابسهم أو الحاجيات التي اقتنوها. وتتعلق ثانيا، بمنع تلوث مختلف المعدات واللوازم المستعملة (مثل الأواني، وقطع الصابون،...)، وتلوث الأماكن المختلفة (المطبخ، المرحاض، المغسل،...). وتتعلق ثالثا، بكيفية الاستعمال الصحي للأماكن واللوازم المشتركة بطريقة تمنع انتقال أية عدوى ممكنة. ورابعا، تتعلق بكيف ينبغي لها التصرف في حال اشتباه أحد أفرادها بالإصابة بالعدوى. ما سبق يؤكد أنه بعد الفضاء العام، تأتي الأسرة كوحدة استراتيجية مكملة. والتي يمكن محاصرة انتشار العدوى فيها ومن خلالها بشكل فعال، من خلال برامج التوعية الموجهة لفضاء الأسرة والعلاقات الصحية فيها. وهنا يأتي دور الاعلام بشكل عام، والاعلام العمومي بشكل خاص، وكذا شبكات التواصل الاجتماعي، في قيادة توعية الأسر وتحسيسها بمهامها الحيوية في مواجهة الوضع، فهي وحدها التي يمكن أن تلعب الدور الأساسي في التوعية والتحسيس في هذا المجال. على المستوى الاجتماعي النفسي للأسرة: لا يختلف اثنان حول حقيقة ينبغي الانتباه والاهتمام بها من طرف الخبراء والاخصائيين والمهتمين، وهي أن حالة الطوارئ الصحية التي أخلت الشوارع طيلة اليوم والليلة ولمدة غير محددة، فرضت على أفراد الأسر البقاء في البيت وقضاء كل الوقت معا داخله، مما نتج عنه ضغط كبير على الأسرة. وإذا استحضرنا الأدوار التي كانت تلعبها البيئة الخارجية في تخفيف الضغط على الأسر، وخاصة على النساء، سندرك ماذا يعني بقاء الأطفال المتمدرسين في البيت، وندرك ما ذا يعني بقاء الشباب العاطل فيها، وندرك ماذا يعني بقاء مدمني الجلوس في المقاهي فيها، إلى غير ذلك، لندرك ماذا يعني اجتماع كل هؤلاء في فضاءات ضيقة قد تضم أكثر من أسرة واحدة بعاداتهم، وأمزجتهم، ونفسياتهم، واحتكاكاتهم! كما أننا باستحضار القلق الذي تفرضه حالة الطوارئ الصحية حول مستقبل الأسرة والأفراد، سندرك ماذا يعني كل ما سبق مع استحضار تأثيرات القلق حول مصادر الرزق وتدبير الحاجيات المختلفة... إن ما سبق يعطينا صورة مختصرة ومركزة حول المعاناة التي تعيشها الأسر اليوم، والتي فرض عليها ضغط رهيب وغير مسبوق، والتي من المفروض عليها أن تتحمله لمدة غير محددة قد تستغرق شهورا، لا قدر الله. وهنا لابد من التأكيد على أن مسؤولية الدولة والمجتمع معا لا تنتهي في هذه الظرفية بإخلاء الشوارع، بل عليهما جميعا العمل على تخفيف الضغط على الأسر، ومواكبتها حتى تجتاز هذه الظرفية بأقل الخسائر الممكنة. كيف ذلك في ظل ما تسمح به الطوارئ الصحية؟ هناك عدة مستويات: المستوى الاجتماعي: بتسريع تقديم مختلف الدعم للأسر الفقيرة والتي تعاني هشاشة اجتماعية (دعم مالي وعيني). وفي هذا السياق ينبغي الاسراع بتفعيل منظومة الدعم الاجتماعي، التي تشمل مختلف البرامج والصناديق الاجتماعية بدعمها وتكييفها مع الوضعية القائمة، وتشمل مختلف المؤسسات المختصة، مثل مؤسسة محمد الخامس للتضامن، ومؤسسة التعاون الوطني، ومختلف اللجان الاجتماعية على مستوى العمالات والجماعات الترابية... بدعمها أيضا وتنسيق جهودها. على المستوى النفسي والعلائقي: تحتاج الأسر إلى دعم استثنائي عظيم، فالوضعية التي فرضت عليها اليوم تتطلب مواكبة مكثفة من طرف الخبراء والأخصائيين، في مختلف المجالات. وفي هذا المجال يظهر الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي كرافعات حيوية لمواكبة الأسر ومساعدتها في تحمل الضغط الذي تفرضه الوضعية. إن الفراغ وما يترتب عنه من شعور بالملل والحرمان من نعمة الشارع كمتنفس، وما ينتج عن كل ذلك من انفعالات، إضافة إلى الاحتكاكات الممكنة بين الأفراد وعامل الزمن، هي من أكبر مصادر للمشاكل المحتملة. والأسر في هذه الظرفية تحتاج إلى أن تتكيف برامج وسائل الاعلام، وخاصة العمومية منها، وكذا مضامين شبكات التواصل الاجتماعي، مع واجب تلبية الحاجة الضاغطة للأسر إلى دعم ومواكبة. فهي في أمس الحاجة اليوم إلى برامج ترفيهية، وتحتاج إلى برامج خاصة بالأطفال، تؤطرهم تربويا ونفسيا. وبرامج إرشادية وتأطيرية تتعلق بتوزيع الأدوار والوظائف في البيت للتخفيف من الضغط على المرأة (مثلا: ضرورة انخراط الرجال في الأعمال المنزلية بالشكل الذي يعزز التماسك الأسري)، بما يجعل الجميع منخرطا في خدمة استقرار الأسرة. وبرامج الدعم الأسري لتفادي المشاكل وحلها (مثلا: التوعية بخطورة ما نسميه بالدارجة المغربية "النكَير" بثلاث نقط على حرف الكاف). وبرامج دينية لتعزيز قيم الصبر، وقيم التعاون، وقيم أخرى كثيرة ومفيدة، بالإضافة إلى تعزيز الأخلاق الفاضلة، مثل الاحترام، والتطاوع، وغير ذلك. وبرامج توجيهية لملء الفراغ، وخاصة لدى الرجال، والأبناء... وفي التقدير، فالإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ستكون أكثر مواطنة بالعمل المتوازن بين التوعية بمخاطر كورونا وطرق الوقاية منه وضرورة الالتزام بالإجراءات المعتمدة في ذلك، وبين الاهتمام بالأسرة ومواكبتها ودعمها النفسي والتربوي. إن ورش دعم الأسر نفسيا واجتماعيا وتربويا، لا يقل أهمية من ورش محاربة انتشار جائحة كورونا، وسيكون نجاح المغرب حقيقيا، إذا خرج من محنته بأقل الخسائر في الأرواح، ولكن أيضا بأقل الخسائر على مستوى التماسك الأسري.