شكلت شبكات التواصل الاجتماعي، منذ مطلع الألفية الثالثة، أحد أهم الوسائط الاجتماعية للتواصل ذات الاستقطاب الجماهيري المفتوح، وباتت صناعة القرارات السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية تعتمد بشكل كبير على ما يروج عبر هذه الشبكات، لتتحول بالتالي من مجرد وسيط تواصلي افتراضي إلى شبكات معقدة بامتياز، عملت على محو الفواصل والحواجز بين الدول والشعوب بشكل غير مسبوق، مما جعلها بحق أحد آليات تكريس العولمة، التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، خاصة بعد أن انتقلت هذه الشبكات إلى وسيط للإخبار وتداول المعلومة، مما جعل الإعلام ينتقل من البعد المؤسسي إلى البعد الشعبي والجماهيري، وتحول من ثم كل مبحر افتراضي في الشبكة العنكبوتية إلى صحفي وإعلامي يشارك بشكل أو بآخر في الصناعة الإعلامية نقدا وتحليلا، إنتاجا للمعلومة واستهلاكا لها في الآن نفسه، بعد أن تحولت هذه الشبكات بدورها إلى وسائط لنشر المعلومة وتداولها. وفي ذات السياق، وفي خضم هذه الثورة المعلوماتية، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي فضاء خصبا لصناعة وتيسير نشر وإذاعة الأخبار الزائفة التي تتسع دائرتها، نظرا لما يتمتع به الناشر عبرها من هامش ومتسع من الحرية، وفائض في التعبير، ومساحة من الجرأة، وسرعة الوصول، فأضحت منصات وتطبيقات التواصل الاجتماعي أداة لتعزيز انتشار الأخبار الزائفة وانتشار الصور ومقاطع الفيديو المفبركة المجتزأة من سياقها، وشكلت هذه المنصات والتطبيقات تحديا كبيرا أمام المجتمع والسلطات، كونها غير خاضعة للرقابة والتدقيق على غرار وسائل الإعلام التقليدية، مما جعلها تربة خصبة لنشر الأخبار الزائفة والمضللة، خصوصا في الظرفيات التي تتسم ببروز حدث يشغل الرأي العام الدولي والوطني. وقد شكل ظهور وانتشار وباء كورونا (COVID-19) فرصة لممتهني صناعة ونشر الأخبار الزائفة والمحتويات التبخيسية المستهترة التي تنسف كل المجهودات الوقائية والاحترازية المتخذة لدرء مخاطر الوباء وتداعياته السلبية من جهة، والتي قد تمس وتعصف بالنظام العام من جهة أخرى عبر ما يروج على أهم مواقع التواصل الاجتماعي وأكثرها شعبية (فايسبوك – يوتيب – انستكرام )، أو عبر تطبيقات التوصل الفوري (واتساب) الناقلة للمعلومة صورة وصوتا، طمعا في حصد وتحقيق أكبر عدد من المشاهدات وأكبر قدر من التداول وفق منطق يتلاءم وطبيعة "السوق الرقمية" التي تتشكل داخلها مجموعة من الممارسات الثقافية الجديدة، حيث تتحدد الشهرة من خلال تحقيق أكبر عدد من المشاهدات ولو على حساب تضليل الناس وبث الهلع والفزع في أوساطهم، وتحويل الخبر التضليلي/ المحتوى المستهتر إلى استثمار يستتبعه ربح مادي. هذا، وانسجاما مع طبيعة موضوع نشر الأخبار الزائفة عبر الوسائط الإلكترونية، وتفاعلا مع راهنية الموضوع، وتنويرا لرواد مواقع التواصل الاجتماعي في هذه الظرفية الحساسة سواء كانوا منتجين أو صناع محتوى أو ناشرين أو متلقين، سنحاول من خلال بعض المحاور بسط أهم المفاهيم وأبرز المواقف التشريعية التي تروم التصدي لهذا الصنف من الإجرام الآخذ في التنامي والانتشار. الأخبار الكاذبة/الزائفة: السياق والمفهوم ارتبطت ظاهرة الاخبار الزائفة « Fakenews »بظهور وسائل الإعلام، غير أن انتشار وسائل الاتصال الحديثة بمختلف أصنافها، والتطور التقني الكبير الذي شهدته العقود الأخيرة في مجال الاتصالات، وسرعة نقل وتدفق المعلومات، كل هذه العوامل شكلت بيئة آمنة تنتشر وتروج من خلالها الشائعات والأخبار الزائفة والمضللة بهدف تحقيق مكاسب. ويعزى الفضل في ظهور وبروز مصطلح الأخبار الكاذبة عبر المنصات الرقمية إلى مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية أواخر سنة 2016، بفعل الضجة التي أثيرت بشأن اتهام أطراف معينة بتسخير مواقع التواصل الاجتماعي لنشر وقائع مزيفة كان لها بالغ التأثير على نتائج الانتخابات في الولاياتالمتحدةالأمريكية. ويرى عالم النفس الأمريكي الدكتور “Keith ABLOW” أن نشر وتصديق الأخبار المفبركة ظاهرة لها جذورها الثقافية القديمة، لكن منصات التواصل الاجتماعي جعلتنا هدفا أسهل وسلبتنا الوقت الكافي للتحقق من الأخبار بسبب سرعة وكثافة الشبكات الاجتماعية. أما الباحث الفرنسي جان-نويل كابفيرير فيرى أن الشائعات تنتشر في كل مكان بغض النظر عن طبيعة البيئة التي تحكم حياتنا الاجتماعية، ويشير في كتابه (الشائعات: الوسيلة الإعلامية الأقدم) إلى تقارب التعريفات التي قدمها الباحثون لمصطلح الشائعة، والتي تتفق في اعتبار الشائعة معلومة تضيف عناصر جديدة إلى شخص ما أو حدث حالي، كما أن الغرض من الشائعة هو أن يتم تصديقها، ففي العادة لا تسرد الشائعة بغية التسلية، بل ترمي إلى الإقناع. كما تعرف شبكة الصحافة الأخلاقية مصطلح الخبر الزائف بأنه “خبر مختلق عمداً يتم نشره بقصد خداع طرف آخر وحثه على تصديق الأكاذيب أو التشكيك في الحقائق التي يمكن إثباتها”. تعريف النشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي لكون مصطلح النشر الالكتروني هو من المصطلحات المستحدثة، فقد ورد تعريفه اللغوي في القاموس الالكتروني على أنه: " توزيع المعلومات عن طريق شبكة الحاسوب أو تحميل المعلومات عن طريق إحدى الوسائط التي يتم تشغيلها بواسطة الحاسوب". ويعرف الباحث فيصل أبو عيشة في كتابه (الإعلام الإلكتروني) النشر الالكتروني على انه عملية خلق وثيقة جديدة ينتجها المرسل، ويمكن عرضها بصورة ورقية أو إلكترونية، وميزتها أنها تشمل النص المكتوب والصور والرسوم التي يمكن توليدها باستخدام الحاسوب". ويعرفه آخرون على أنه: "إنتاج المعلومات ونقلها من خلال الحواسيب ووسائل الاتصال بعيدة المدى من المؤلف إلى المستفيد النهائي مباشرة أو من خلال شبكة اتصالات". ومن الملاحظ أن التعريفات السابقة ركزت على مضمون وحقيقة النشر الالكتروني من الناحية التقنية، فبعضها ضيق في مفهومه والبعض الآخر وسع فيه، ومع ذلك يشوبها الافتقار للجانب القانوني في بيان ماهيته وخصائصه القانونية. وجدير بالذكر أن المشرع المغربي لم يكلف نفسه عناء تقديم تعريف للنشر الالكتروني من خلال القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر، تاركا الأمر للاجتهاد الفقهي والقضائي، على عكس بعض التشريعات التي ارتأى واضعوها تعريف النشر بشقيه التقليدي والالكتروني، على غرار المشرع السوري الذي عرفه بكونه: "وضع المحتوى الإعلامي في متناول الجمهور أو فئة منه بأي وسيلة أو تقنية كانت". كما عرف النشر الالكتروني في اللائحة التنفيذية لنشاط النشر الالكتروني السعودي في المادة الأولى أنه: "النشر الالكتروني: استخدام وسائل التقنية الحديثة في بث، أو ارسال، أو استقبال أو نقل المواد المكتوبة، أو المرئية، والمسموعة، سواء كانت ثابتة أو متحركة بقصد التداول العام ". ويلاحظ على هذا التعريف أنه حدد وسائل النشر الالكتروني وصوره وأهدافه، فبين أن وسائله هي الوسائل التقنية الحديثة –وبضمنها مواقع التواصل الاجتماعي-وصور النشر الالكتروني تتمثل بالبث والارسال والاستقبال ونقل المعلومات وهدفه هو التداول، أي اتاحة ما ينشر لاطلاع الجمهور. الموقف التشريعي من نشر وترويج الأخبار الكاذبة عبر وسائل التقنية الحديثة تصدى المشرع المغربي من خلال القسم الثالث -المخصص للعقوبات-من قانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر لجنحة نشر الأخبار الزائفة عبر وسائل التقنية الحديثة. إذ تنص تنُصّ الفقرة الأولى من المادة 72 من قانون الصحافة والنشر على أنه" يُعاقب بغرامة من 20.000 إلى 200.000 درهم كل من قام بسوء نية بنشر أو إذاعة أو نقل خبر زائف أو ادعاءات أو وقائع غير صحيحة أو مستندات مختلقة أو مدلس فيها منسوبة للغير إذا أخلت بالنظام العام أو أثارت الفزع بين الناس، بأية وسيلة من الوسائل ولاسيما بواسطة الخطب أو الصياح أو التهديدات المفوه بها في الأماكن أو الاجتماعات العمومية و إما بواسطة المكتوبات والمطبوعات المبيعة أو الموزعة أو المعروضة للبيع أو المعروضة في الأماكن أو الاجتماعات العمومية وإما بواسطة الملصقات المعروضة على أنظار العموم وإما بواسطة مختلف وسائل الإعلام السمعية البصرية أو الإلكترونية وأية وسيلة أخرى تستعمل لهذا الغرض دعامة إلكترونية". فالظاهر من خلال الفقرة الأولى من المادة 72 أن المشرع المغربي لم يعرف مدلول النشر كما سبق الحديث عن ذلك أعلاه، كما لم يعرف مفهوم الأخبار الزائفة، وإنما قام بحصر العناصر التكوينية لهاته الجريمة على الشاكلة التالية: العنصر الأول: فعل مادي يقوم به الجاني وهو النشر أو الإذاعة أو نقل خبر زائف أو ادعاءات أو وقائع غير صحيحة (الركن المادي). العنصر الثاني: كون الجاني تصرف بسوء نية ( الركن المعنوي). العنصر الثالث: الإخلال بالنظام العام أو إثارة الفزع بين الناس. العنصر الرابع: العلانية. ويستشف من خلال استقراء الركن الرابع المرتبط بالعلانية، أن المشرع المغربي قد توسع في تحديد مختلف الوسائل التي تشكل العنصر الرابع من الخطب والصياح إلى أي وسيلة تُستعمل لهذا دعامة إلكترونية وما يدخل في حكمها، غير أنه بالمقابل قد ضيق من دائرة الأفعال المكونة لهذا الصنف من الجرائم من خلال عدم تنصيصه مباشرة لمنتجي وصانعي المواد الزائفة والمضللة واكتفى بمعاقبة فعل النشر أو الإذاعة أو النقل، وهو خطأ على المشرع تداركه. هذا وقد عاقب المشرع على إتيان الأفعال الوارد ذكرها أعلاه بعقوبة مالية ذات سقف جد مرتفع تتراوح من 20.000 إلى 200.000 درهم في الحالات العادية، ورفع من الغرامة حالة ما إذا كان لنشر أو إذاعة أو نقل خبر زائف تأثير على انضباط أو معنويات الجيش، وحدد تبعا لذلك قدرها من 100.000 إلى 200.000 درهم. غير أنه، وبالرغم من هذا المقتضى التشريعي الذي يروم مكافحة نشر الأخبار الزائفة والكاذبة، فإنه بالمقابل تثور مجموعة من الإشكالات أمام المشرفين على إنفاذ القانون، حيث يصطدم هؤلاء بمجموعة من الصعوبات انطلاقا مما تتمتع به مواقع التواصل الاجتماعي من ذاتية، كون الأشخاص القائمين على النشر بواسطتها قد يستعملون أسماء مستعارة أو قد ينشرون بأسماء غيرهم، أو قد يعمدوا إلى تفعيل برامج وطرق تقنية تجعل من الصعوبة بمكان التعرف على هوياتهم الحقيقية، مما يستدعي ضرورة تدخل المشرع من جديد من أجل إيجاد سبل ومنافذ تشريعية تحد من هاته الصعوبات وتساهم في إيقاف استفحال هذا النمط من الجرائم المستحدثة. *باحث في جرائم تقنية المعلومات الحديثة