أعاد التعاطي الإعلامي والجماهيري مع فيروس كورونا (COVID-19) إلى الواجهة موضوع "الأخبار الزائفة" الذي يُعد موضوعاً قديماً، إلا أنه لم يحظَ بعدُ بالاهتمام الكافي، رغم أن التشريع الوطني، منذ الاستقلال، جَرّمَ الأفعال التي تُشكل جريمة نشر أو نقل أو إذاعة "الأنباء الزائفة"، ووضع ضوابط التصدي لها من خلال تحديد عقوبة إتيانها، ولعل مع هذا الطارئ الصحي الدولي، قد يجعله يحظى بالاهتمام الذي يوازي خطورته. وحيث كان منبع موضوع "الأخبار الزائفة"، هو وسائل الإعلام التقليدية، الصحافة الورقية أساساً، لذا فأغلب التشريعات في العالم التي تُجرّم هذه الظاهرة، هي التشريع المتعلق بالصحافة والنشر، وهو ما يُفسِّر استعمال مُفردة "خَبَر" أو" أخبار"، ولئن كانت بعض التشريعات تستعمل مفردات أخرى مثل "نبأ" أو "وقائع" إلا أنها توحي على المعنى ذاته الذي لا ينزاح عن مجال الصحافة بمفهومها الكلاسيكي الضيق. وأمام التطور الهائل لوسائل التكنولوجيا الحديثة، حيث أضحى نقل الخبر (بمفهومه الصحفي) ليست مهمة محفوظة للصحافي، فقد اتسع مجال نشر الأخبار والوقائع والمعلومات الصحيحة والكاذبة والمزيّفة، وأضحى التشريع الخاص بالصحافة والنشر، تشريعاً محدوداً لضبط هذه الظاهرة ومعاقبة مرتكبي الأفعال التي تُشكّلها. أولاً: ما هي "الأخبار الزائفة" في التشريع المغربي؟ يُعد التشريع المتعلق بالصحافة والنشر، إسوةً بالتشريع المقارن، كما أشرنا إلى ذلك في تقديم هذه المقالة، هو الإطار القانوني الذي يؤطر مدلول "الأخبار الزائفة"، ولو أنه لا يضع تعريفاً محدداً لها، كما فعل حين عرّف "الصحافة" و"المطبوع" و"الصحيفة الإلكترونية" مثلاً، وهو منزّهٌ عن العبث في ذلك، ما دام قد حدد صُورها. وإذا كانت تُصنّف "الأخبار الزائفة" في ظهير 1958، كما تم تغييره وتتميمه، ضمن الجُنح الماسة بالسيادة الوطنية، فإن القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر، الصادر في 15 غشت 2016 بوأها المرتبة الثانية في باب العقوبات الخاصة بالأفعال الماسة بالنظام العام، وذلك بعد تحديد عقوبة الإساءة للدين الإسلامي أو النظام الملكي أو التحريض ضد الوحدة الترابية للمملكة (الفقرة الأولى من المادة 71) وتحديد عقوبة التحريض المباشر على ارتكاب جناية أو جنحة أو التحريض على التمييز أو الكراهية بين الأشخاص (الفقرة الثانية من المادة71 ) وبذلك يعكس المشرع للمخاطبين بالقانون المدى الكبير لخطورة فعل أو الأفعال التي تشكل جنحة نشر "الأخبار الزائفة". وتبعاً لذلك، تنُصّ الفقرة الأولى من المادة 72 من القانون السالف الذكر على أنه" يُعاقب بغرامة من 20.000 إلى 200.000 درهم كل من قام بسوء نية بنشر أو إذاعة أو نقل خبر زائف أو ادعاءات أو وقائع غير صحيحة أو مستندات مختلقة أو مدلس فيها منسوبة للغير إذا أخلت بالنظام العام أو أثارت الفزع بين الناس، بأية وسيلة من الوسائل ولاسيما بواسطة الخطب أو الصياح أو التهديدات المفوه بها في الأماكن أو الاجتماعات العمومية و إما بواسطة المكتوبات والمطبوعات المبيعة أو الموزعة أو المعروضة للبيع أو المعروضة في الأماكن أو الاجتماعات العمومية وإما بواسطة الملصقات المعروضة على أنظار العموم وإما بواسطة مختلف وسائل الإعلام السمعية البصرية أو الإلكترونية وأية وسيلة أخرى تستعمل لهذا الغرض دعامة إلكترونية". يُلاحَظ أن المشرّع، ما دام يُشرع في باب الحقوق والحريات، فقد حرص على إحاطة الموضوع بصرامةٍ مُعتبرة، حتى لا يتحول التصدي للأخبار الزائفة ذريعةً لكبح حرية التعبير، فقد اشترط أربع شروط ليكون الخبر زائفاً. 1- سوء النية؛ 2- أن تكون وقائعه غير صحيحة؛ 3- أن تُخلّ بالنظام العام أو تُثير الفزع بين الناس؛ 4- العلانية. كما يُلاحظ أن المشرع، في توصيفه لشرط العلانية، حدد مختلف الوسائل التي تُحقّقه، من الخطب والصياح إلى أي وسيلة تُستعمل لهذا دعامة إلكترونية، وبذلك يكون يوجّه الجهة الموكول لها تطبيق القانون إلى إعمال هذه الأحكام مهما كانت الوسيلة ما دامت تحقق شرط العلانية، لاسيما وأن وسائل الاتصال لا تنفكّ عن التطور. وجدير بالذكر إلى أن عقوبة نشر أو إذاعة أو نقل خبر زائف، من العقوبات المشدّدة في قانون الصحافة والنشر، الخالي من العقوبات السالبة للحرية، حيث في المستوى الأول تكون من 20.000 إلى من 200.000 درهم، وفي المستوى الثاني تكون أشد، إذا كان للنشر أو الإذاعة أو النقل تأثير على انضباط أو معنوية الجيوش أو كان فيه تحريض أو إشادة ببعض جرائم الحق العام، والتي حددتها الفقرة الثانية من المادة 72 على سبيل الحصر، حيث تكون العقوبة من 100.000 درهم إلى 500.000 درهم. كيف يتصدى القضاء المغربي لنشر "الأخبار الزائفة"؟ ارتبط تعاطي القضاء المغربي مع نشر الأخبار الزائفة، في السابق، مع الأخبار الزائفة التي تنشرها الصحافة، وتوجد أحكام كثيرة في هذا الباب، نسوق من ضمنها الحكم رقم 1098 الصادر عن محكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 06 ماي 2009، حيث يُقدم هذا الحُكم صورة لخطورة نشر هذه الأخبار، باعتباره أن "أخلاقيات مهنة الصحافة والإعلام تفرض التحرّي والدقة في صحّة الخبر قبل إذاعته، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالنظام العام وإما من شأنه إثارة الفزع بين الناس اعتباراً لطبيعة وسيلة النشر والتي تجعل الخبر خارجاً عن سيطرة مذيعه ومِلكاً للجمهور والمشاهد...". يُلاحظ هنا، أن المُخاطَب دائماً هو الصحافي، باعتباره هو الفاعل، لكن اليوم مع تطور وسائل النشر، لم يعد الصحافي لوحده من قد ينشر أخبار مزيفة أو وقائع غير صحيحة، بل كل من له إمكانية النفاذ إلى الأنترنيت واستعمال منصات التواصل الاجتماعي من عموم المواطنات والمواطنين من الذين يُزاولون مهناً أخرى غير مهنة الصحافة أو بدون مهنة، وهنا تُطرح إشكالية القانون الواجب التطبيق، هل يتعين على القاضي تطبيق المادة 72 من قانون الصحافة والنشر في مواجهة مواطن غير صحافي، نشر أخباراً في شكل صور أو رسوم أو كتابة أو كيف ما كان شكلها، منسوبة للغير عبر أحد تطبيقات التكنولوجيا الحديثة؟ بالعودة إلى متن المادة 72، فالبيّنُ منها أنها تُخاطب الصحافيين وغير الصحافيين، ففضلاً عن استعمال المشرع لعبارة "كل من قام..." وهي عبارة لا تخاطب الصحافيين فحسب، فإنه استعمل في آخر المادة، حين تحديده لوسائل النشر، عبارة "مختلف وسائل الإعلام السمعية البصرية أو الإلكترونية وأية وسيلة أخرى تستعمل لهذا الغرض دعامة إلكترونية" وهي عبارة تُدخل في حكمها مختلف التطبيقات الإلكترونية، مما يعني أن أي شخص قام بسوء نية بنشر أخبار زائفة تحققت فيها الشروط الأربعة، السالف ذكرها، فإن القضاء سيتصدى له بالعقوبات الواردة في المادة 72 من القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة بالنشر. هل قانون الصحافة والنشر كاف للتصدي ل"الأخبار الزائفة" أم نحن في حاجة لقانون خاص؟ حيث أن خطورة الأخبار الزائفة تكون أكثر حينما تُثير الفزع والخوف بين الناس، كما هو الشأن في حالة نشر وتداول أخبار غير صحيحة تتعلق بالأمراض المُعدية، مثل فيروس كورونا، منسوبة للغير، لاسيما إلى مؤسسات رسمية، مثل السلطة الحكومية المكلفة بالصحة والسلطة الحكومية المكلفة بالتعليم، وحيث يقوم بنشر هذه الأخبار أشخاص لا يمارسون مهنة الصحافة، وليس عبر وسائل الإعلام التي لها ضوابط قانونية مثل قانون الصحافة والنشر وقانون الاتصال السمعي البصري، فإن هذا السؤال يجب التفكير في جواب عنه. إن الثابت اليوم، هو أن نشر "الأخبار الزائفة" يكاد يكون مُنفلتاً من الضوابط التي يضعها التشريع المتعلق بالصحافة والنشر، فهي في استفحال مضطرد وتتخذ أشكالاً مختلفة من ما يمكن توصيفه ب"السُّخرية الجادة" إلى سوء النية والجهل بالقانون وبمخاطر الأفعال المرتكبة، مما يتعيّن معه التفكير في مخرج تشريعي يتصدى لهذه الظاهرة إسوة بتجارب عربية وغربية، مثل البحرين وألمانيا، رغم ما أبانت عنه هذان التجربتان من محدودية في وقف انتشار "الأخبار الزائفة". لقد كان خلال سنة 2018 هناك ترويج إعلامي لوجود فكرة لدى الحكومة تروم وضع نظام قانوني خاص بمنع نشر "الأخبار الزائفة"، وبصرف النظر عن كون ذلك كان صحيحاً أو هو في حد ذاته خبر زائف، فإنه لا ضير الآن من التفكير في صيغة تشريعية لزجر نشر "الأخبار الزائفة" خارج القانون المتعلق بالصحافة والنشر لاسيما وهناك شريحة واسعة من الناس تشجبها وتدعوا إلى التصدي بحزمٍ وصرامةٍ لناشري ومروِّجي هذه الأخبار غير الصحيحة. على سبيل الختم... ما العمل لمحاربة "الأخبار الزائفة"؟ إن الحقيقة التي لا مُراء فيها هي أن "الأخبار الزائفة"، لا يُمكن وقفها بالمرة أو الحدّ منها، فهي كسائر الجنح أو الجرائم، يُقلّل منها القانون لكن لن يُنهيها، إلا أنه لمّا تستفحل حالة معينة وتستحيل إلى ظاهرة سهلة الفعل دون أخذٍ في الحُسبان لعواقبها فإنه يتعيّن تشديد العقوبة في شأنها. وإذا كان القانون رقم 09.08 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، قد نصّ في مادته الأولى، على أن "المعلوميات في خدمة المواطن، وتتطور في إطار التعاون الدولي. ويجب ألا تمس بالهوية والحقوق والحريات الجماعية أو الفردية للإنسان. وينبغي ألا تكون أداة لإفشاء أسرار الحياة الخاصة للمواطنين" فإنه موازاةً مع ذلك ومن باب ضمان التوازن بين الانتفاع الشامل من التكنولوجيات الحديثة وبين التمتع بحرية الفكر والرأي والتعبير بكل أشكالها وحرية الإبداع والنشر والحق في نشر الأخبار والأفكار والآراء، بكل حرية، ومن غير قيد، واحترام حقوق الغير، لاسيما الحقوق ذات الصلة بالحياة الشخصية والحق في الصورة، يتعين اتخاذ جميع التدابير الكفيلة بحفظ هذه الحقوق، بما فيها التدابير الردعية. عطفاً على ذلك، وأمام هذا السيل الجارف من الأخبار الزائفة، الذي يُقابله رفضٌ من قبل فئة كبيرة من الناس، وحتى لا تتحول صناعة الأخبار الزائفة، في المستقبل، إلى "روتين يومي" قد يكون مدمّراً لعدد من المكتسبات في شتى المجالات، لاسيما الاقتصادية أو تلك المرتبطة بإشعاع وصورة المملكة في الخارج، فإنه ينبغي أولاً، على الأقل، توعية وتحسيس العموم بمخاطر نشر أو نقل الأخبار الزائفة وبيان أن النظام العام والصحة العامة والحياة الشخصية ليست مجالات للتسلية أو نسج الوقائع المتخيّلة ونشرها للعموم على أساس أنها وقائع صحيحة غير مدلّس فيها ومنسوبة للغير. *باحث في القانون العام، جامعة الحسن الثاني الدارالبيضاء، كلية الحقوق المحمدية