"فشا الطاعون بالمغرب أول ما ظهر بقبيلة لوداية حتى فنا ما شاء الله بمحلتهم، ودخل القصبة وفاس الجديد في 9 دجنبر 1798، حتى تحيرت الناس وفتن الأغنياء من كثرة الموتى وجعلت الناس ترمي كواشط الموتى وحوائج لباسهم بين الطروق، ودخل فاس أواخر شعبان 1213 هجرية، 5 فبراير 1799، حتى ازداد أمره واشتد بأول شوال، أي 8 مارس من تلك السنة"؛ بهذه العبارات يصف عبد السلام بن سليمان الفشتالي الطاعون الذي ضرب المغرب في عهد السلطان مولاي سليمان وتسبب في موت عدد كبير من المغاربة. كان هذا الوباء، بحسب هذه المصادر التاريخية، عبارة عن ظهور دماميل في أماكن متفرقة من الجسم، كتحت إبطي المرضى الذين يتقيؤون لأيام، ويصابون بإسهال تصاحبه روائح كريهة أنتن من الجيفة، ثم يموت المريض أياما قليلة بعد إصابته بهذه الأعراض. لم يكن هذا النوع من الطاعون هو وحده الذي ظهر في تلك السنة؛ فقد أورد الأمين البزاز في كتابه "تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و19" أن نسبة الوفاة بهذا "الطاعون الدملي" تتراوح بين 65 و90 في المئة. ثم ظهر نوع آخر من الطاعون لم يكن يهمل المرضى كثيرا، حيث كل من أصيب به تأخذه قشعريرة ولا تظهر عليه دماميل ويموت في ظرف 24 ساعة، وكانت جثت الموتى تتعفن بسرعة. فقد كان هذا "الطاعون الرئوي" يؤدي إلى الموت بين 24 و36 ساعة من ظهور الأعراض الحادة، أما نسبة الوفاة به فتصل إلى مئة في المئة. مصدر الطاعون انتشر الطاعون في دول كثيرة قبل أن يصل إلى المغرب؛ فقد ورد في كتاب "الأوبئة" سالف الذكر أن "الطاعون كان متفشيا في الاسكندرية، ثم نقله الحجاج والتجار إلى تونس، وخلال 17 شهرا فتك بثلث السكان، ثم انتقل من تونس نحو الجزائر، إذ قتل في قسنطينة ما يزيد عن 16 ألف شخص، وكاد هذا الطاعون ينتقل للمغرب منذ سنة 1787 بعد وصول سفينة موبوءة إلى طنجة وعلى متنها حجاج مغاربة". لكن المغرب في عهد مولاي سليمان، الذي امتد حكمه من 1792 إلى 1822، وتحت ضغط الهيئة القنصلية المقيمة بطنجة، اتخذ بعض الإجراءَات التي لم تكن ناجعة، مثل فرض حجر صحي ضد الجزائر وإقامة نطاق عسكري في الحدود الشرقية، وكذلك بعض الإجراءَات الوقائية على الواجهة البحرية، كإقامة أحزمة صحية حول طنجة والعرائش وتطوان. لكن هذه التدابير لم تمنع انتشار الوباء الذي فتك بالمغاربة، إضافة إلى أسعار المواد الغذائية ارتفعت في فترة الوباء. ومما أورده المصدر السابق أن "ثمن مد من القمح ضُرب في ثلاث بين سنتي 1796 و1798. كما حل الجراد كذلك في مناطق مغربية من تلك السنة، مما عقّد حياة المغاربة". "محلات" السلطان في الوقت الذي كان فيه الوباء متفشيا في فاسومكناس، سافر السلطان المغربي مولاي سليمان على رأس جيش غفير من الجنود والخدم، في 11 أبريل من تلك السنة، وسبقه قائده عياد على رأس جيش الأودايا. "وصل السلطان سلاوالرباط وقد سبقه جيشه الذي نقل معه العدوى، حيث اشتدت وطأته بعد يوم واحد، وكان يخلف 130 ضحية في اليوم"، بحسب كتاب "الأوبئة والمجاعات في المغرب"، مما دفع السلطان إلى المغادرة نحو الجنوب رفقة جيشه مرورا بالدار البيضاءوآسفي، ثم الصويرةومراكش، ليعود إلى مكناس بعد تفشي الوباء في يونيو. وأورد المصدر السابق أنه "خلال هذه الحركة، تفشى الوباء في السهول الساحلية والأقاليم الجنوبية؛ إذ إن جيش السلطان قد نقل العدوى من فاس إلى الرباط ثم إلى باقي السهول الأطلنتكية". وأضاف أن "الجنود الذين يتهالكون صرعى الوباء كانوا يدفنون فورا بحوائجهم لكي تواصل القبائل التي لم تكن قد تفطنت لأمر الطاعون تزويد الجيش بالمؤن". وأردف قائلا: "بات السلطان بوادي بوزنيقة 4 ماي 1799 وكل يوم يموت من جيش السلطان كذا وكذا بالوباء، ولم يكن الوباء بدكالة وعبدة واحمر وغيرهم حتى دخل السلطان ببلادهم". ونقل المصدر نفسه عن القنصل الأمريكي في طنجة قوله في يونيو 1799: "إن طنجة تتمتع بصحة جيدة، لكن يخشى أن ينتقل إليها الوباء بعد عودة المئة جندي الذين كانوا قد غادروا هذه المدينة للمشاركة في حركة السلطان إلى الجنوب". عدد الضحايا تسبب هذا الوباء في قتل آلاف المغاربة؛ إذ تقول المصادر نفسها إن "الطاعون قتل 15 ألف شخص في حي واحد من أحياء فاس، ولم يتبق في هذا الحي سوى 30 شخصا فقط سنة 1801. وقد قتل في مجمل أحياء فاس ونواحيها ما قدره القناصل الغربيون وقتها ب65 ألف ضحية، وفي آسفي 5000 ضحية، وفي مراكش 50 ألفا، وفي الصويرة 5500 ضحية. أما في الرباط فقد كان عدد الضحايا كبيرا جدا، لدرجة أنه يبلغ أزيد من 200 في اليوم الواحد في يونيو من تلك السنة، ويبلغ 160 ضحية تقريبا في سلا". اعتمد الأمين البزاز في إحصائه لعدد ضحايا وباء الطاعون بالمغرب على مراسلات القناصل الأجانب بالمغرب، وقد أورد هذا الكتاب أن "الوفيات بلغت في تارودانت 800 ضحية في اليوم، وحامية مخزنية بالمدينة لم ينج منها سوى جنديين من مجموع 1200 جندي". وينقل الكتاب عن أحد القناصل أنه شاهد "خلال تجوله بإقليم حاحا عدة قرى مهجورة كانت مزدهرة بالأمس القريب، لم ينج في قرية الديابات جنوبالصويرة سوى 23 شخصا من 133، ولم يسلم في قرية أخرى سوى 4 أفراد من مجموع 800 نسمة"، مما يحيل على أن عدد الأموات بسبب الطاعون الذي امتد لعامين كان كبيرا وفظيعا.