لا يمكن خوض أي نقاش بشأن التجربة الأرشيفية المغربية دون التوقف بشكل اضطراري عند محطة 30 نونبر 2007 التي شهدت ميلاد أول قانون منظم للأرشيف المغربي، وهو حدث بارز، شكل بشكل لا رجعة فيه حدا فاصلا لحالة التهميش التي لزمت الشأن الأرشيفي منذ الاستقلال، وقيمة هذا القانون لا يمكن اختزالها أو حصرها في حدود ما أحدثه من نقلة نوعية في المجال التشريعي عززت الدينامية الإصلاحية التي بدت معالمها الكبرى مع بداية العهد الجديد، بل في الاعتراف الرسمي بالأرشيف باعتباره مرآة عاكسة لما يجمعنا من مشترك تاريخي وتراثي وثقافي وهوياتي، ودعامة حاملة لدلالات حقوقية وحداثية، بشكل يجعل منه رأسمالا لا ماديا يمكن التعويل عليه لكسب رهانات التنمية المأمولة. وفي هذا الصدد، فإذا كانت "الأرشيف العامة" تلامس في شموليتها التاريخ والثقافة والتراث والهوية والذاكرة، فهي تلامس أيضا قضايا راهنة، من قبيل الحقوق والحريات والحكامة الرشيدة والحداثة، وتربط بشكل ذكي بين الماضي والحاضر والمستقبل، لكن الجواز الآمن لكل هذه القضايا يمر قطعا عبر بوابة "الحق في الاطلاع" أو "الحق في المعلومة"، من منطلق أن قيمة الأرشيف في شموليتها ترتبط ارتباطا وثيقا بإتاحتها للجمهور، وإلا سارت مجرد وثائق صامتة فاقدة للحياة، لا تصلح إلا للركن أو التخزين أو الإتلاف. من الناحية المبدئية، فالأرشيف العامة متاحة أمام الدارسين والباحثين وعموم الجمهور، إلا أن هذا المبدأ يبقى مقيدا بضوابط وشروط مرتبطة أساسا بآجال الإتاحة للجمهور، وهي آجال ترتبط ارتباطا وثيقا بخصوصيات بعض الوثائق الأرشيفية، خاصة تلك التي من شأن إتاحتها والاطلاع عليها المساس بأسرار الدفاع الوطني أو أمن الدولة الداخلي والخارجي أو الحياة الخاصة. وعليه، سنقارب موضوع "الاطلاع" على النحو التالي: الإتاحة بدون أجل: يمكن لكل شخص راغب في الاطلاع، دون مراعاة أي أجل، على بعض الوثائق التي توضع عادة رهن إشارة الجمهور، أو على الوثائق التي يرخص قانون خاص الاطلاع عليها (المادة 15). وفي هذا الإطار، نحيل على القانون المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات، وتحديدا المادة 10 التي أوجبت على المؤسسات والهيئات المعنية، كل واحدة في حدود ما لها من اختصاصات، أن تقوم في حدود الإمكان بنشر الحد الأقصى من المعلومات التي بحوزتها، والتي لا تندرج ضمن الاستثناءات الواردة في القانون المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات، وذلك بواسطة جميع وسائل النشر المتاحة، خاصة الإلكترونية، ومنها البوابات الوطنية للبيانات العمومية، كما هو الشأن بالنسبة للنصوص التشريعية والتنظيمية ومشاريع القوانين، ومقترحات القوانين التي يتقدم بها أعضاء البرلمان وميزانيات الجماعات الترابية، وبرامج مباريات التوظيف والامتحانات المهنية والإعلانات الخاصة بنتائجها...إلخ. مع التذكير أن الوثائق المسلمة إلى "أرشيف المغرب" ومصالح الأرشيف العامة الأخرى تظل موضوعة-على الرغم من أحكام المادتين 16 و17-رهن تصرف الأشخاص والإدارات والهيئات والمؤسسات التي قامت بتسليمها (المادة 14). الإتاحة بعد مرور ثلاثين سنة: في جميع الحالات، وإذا لم يتواجد أي نص قانوني صريح يتيح الاطلاع الفوري على الأرشيف العامة، فإن انصرام أجل ثلاثين سنة من إنتاجها يتيح وضعها رهن تصرف الجمهور بكل حرية، باستثناء الوثائق الأرشيفية الحاملة لمعطيات من شأنها المساس بالأمن الداخلي أو الخارجي أو بالحياة الخاصة. وفي هذا الصدد، نصت المادة 16 على ما يلي: "مع مراعاة أحكام المادة 15، يمكن للجمهور أن يطلع بكل حرية على الأرشيف العامة، عند انصرام أجل ثلاثين سنة، من تاريخ إنتاجها، باستثناء الحالات المنصوص عليها في المادة 17". الإتاحة بعد مرور ستين سنة: يرفع أجل الثلاثين سنة الذي يمكن عند انتهائه الاطلاع بكل حرية على الأرشيف العامة، إلى أجل ستين سنة إذا تعلق الأمر بما يلي: أ-ابتداء من تاريخ العقد، فيما يتعلق بالوثائق التي من شأن الاطلاع عليها المساس بأسرار الدفاع الوطني، استمرارية سياسة المغرب الخارجية، أو أمن الدولة أو السلامة العامة أو سلامة الأشخاص، أو المساطر القضائية والمساطر التمهيدية المتعلقة بها، أو سريرة الحياة الخاصة. ب-ابتداء من تاريخ الإحصاء، أو البحث المتعلق بالوثائق التي تم جمعها في إطار الأبحاث الإحصائية للمرافق العامة، والمشتملة على معلومات فردية لها عموما صلة بمستويات مختلفة بالحياة الخاصة (المادة 17). الإتاحة بعد مرور مائة سنة: يمكن أيضا أن ترفع الآجال المسموح بعدها بإتاحة الأرشيف العامة للجمهور إلى مائة سنة في الحالتين التاليتين: أ-ابتداء من تاريخ ولادة المعني بالأمر، فيما يتعلق بالوثائق المشتملة على معلومات فردية (ذات طابع طبي وبملفات المستخدمين). ب-فيما يتعلق بالأصول والفهارس التي ينتجها الموثقون والعدول، وسجلات الحالة المدنية وسجلات مصلحة التسجيل (المادة 17). وهي استثناءات تحيلنا على قانون "الحق في الحصول على المعلومات"، وتحديدا مقتضيات المادة 7 التي نصت على ما يلي: "بهدف حماية المصالح العليا للوطن، وطبقا لأحكام الفصل 27 من الدستور، ومراعاة لأحكام المادتين 16 و17 من القانون 69.99 المتعلق بالأرشيف، استثنى المشرع، من الحق في الحصول على المعلومات، كل المعلومات المتعلقة بالدفاع الوطني وبأمن الدولة الداخلي والخارجي، وتلك المتعلقة بالحياة الخاصة للأفراد، أو التي تكتسي طابع معطيات شخصية، وكذا المعلومات التي من شأن الكشف عنها المس بالحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في الدستور وحماية مصادر المعلومات". الإتاحة لأغراض البحث العلمي (استثناء): لكن، واستثناء من أحكام المادتين 16 و17، يمكن أن تسمح "أرشيف المغرب" لأغراض البحث العلمي، وبعد موافقة الإدارة الأصلية، بالاطلاع على "الأرشيف العامة" على ألا يمس ذلك بأسرار الدفاع الوطني أو أمن الدولة أو الحياة الخاصة (المادة 18). وبقدر ما نثمن وضع بعض الوثائق رهن إشارة الجمهور لأغراض البحث العلمي دون التقيد بالأحكام التي تحول دون ذلك، بقدر ما نرى أن التطبيق الأمثل لهذا المقتضى قد تعترضه بعض الصعوبات العملية لتوقفه على انتظار "موافقة الإدارة الأصلية" وعدم المساس بأسرار الدفاع الوطني أو أمن الدولة أو الحياة الخاصة، وهي أسرار قد يصعب على "أرشيف المغرب" تحديدها أو تقديرها ما لم يتم أخد رأي الجهة أو الجهات المنتجة للوثائق الأرشيفية المعنية، وهذا قد يشكل عرقلة أمام البحث العلمي بشكل تفقد فيه المادة أهدافها ومقاصدها في تشجيع الباحثين وإطلاق العنان للبحث العلمي. في هذا الصدد، واستقراء لمنطوق المادة 18، يمكن إبداء الملاحظات التالية: - يلاحظ أن المشرع الأرشيفي أورد عبارة "يمكن أن تسمح أرشيف المغرب لأغراض علمية..."، ولم يورد عبارة "يجب على أرشيف المغرب أن تسمح..." (حالة الوجود)، وعليه، فالعبارة الواردة (يمكن أن تسمح أرشيف المغرب...)، قد تجعل من "مؤسسة أرشيف المغرب" ممتلكة لوحدها "سلطة القرار" فيما يتعلق بإتاحة الوثائق للجمهور من عدمها (حالة الاختيار). - يمكن لأرشيف المغرب أن تعطل مقتضى "الإتاحة" لأغراض علمية، بإبداء "الرفض" أو بعدم الاستجابة لطلب الباحث الراغب في الاطلاع دون مواصلة ما تقتضي العملية من إجراءات (استصدار موافقة الإدارة المنتجة للوثيقة). - إذا كانت "الإتاحة" لأغراض البحث العلمي مرهونة بشرطي "موافقة الإدارة المعنية" و"عدم المساس بأسرار الدفاع الوطني أو أمن الدولة أو الحياة الخاصة"، فهذا المعطى يسمح بالتساؤل عن مدى أهلية "أرشيف المغرب" لتحديد الوثائق التي يمكن إدراجها في "خانة أسرار الدفاع الوطني أو أمن الدولة"، ومدى أهليتها أيضا لتقدير طبيعة الوثائق التي تدخل في زمرة "الحياة الخاصة"، أم إن العملية تبقى خارجة عن تدخلات المؤسسة، وتقتضي التواصل المستدام مع الجهات (إدارات، أشخاص) المنتجة للوثائق. - في حالة ما إذا ارتأت "أرشيف المغرب" مراسلة الجهة المنتجة للوثيقة أو للوثائق المرغوب الاطلاع عليها لأغراض البحث العلمي، نرى أن العملية قد لا تخلو من بعض العراقيل والتعقيدات، أخذا بعين الاعتبار التراتبية الإدارية، وما قد يبديه بعض المسؤولين الإداريين من تردد أو ارتباك تخوفا من تحمل مسؤولية الموافقة على إتاحة أرشيف عامة أمام الجمهور أو عدم إتاحتها، خاصة بالنسبة لبعض الوثائق الأرشيفية التي يصعب الحسم في مدى ارتباطها بأسرار الدولة أو الحياة الخاصة من عدمه. - بخصوص "الحياة الخاصة"، نأخذ على سبيل المثال لا الحصر "أرشيف هيئة الإنصاف والمصالحة" الذي وجد مكانا ضمن أحضان "أرشيف المغرب"؛ ففي حالة ما إذا تقدم باحث بموافقة صادرة عن الشخص المعني، تأذن له بحرية الاطلاع على الأرشيف. في هكذا حالات، هل تلتزم "أرشيف المغرب" بالقانون وتلتزم بما حدده من آجال قانونية أم إنها يمكن أن تسمح بالإتاحة ما دام المعني مباشرة بالأرشيف قد أذن كتابة بوضع أرشيفه رهن إشارة العموم لأغراض البحث العلمي، علما أن "الموافقة" تكسر حاجز "الحياة الخاصة" التي تعد سببا مانعا يحول دون إتاحة الوثائق لأغراض البحث العلمي؟ وفي السياق نفسه، يمكن أن نشير إلى حالة "وفاة" موضوع رصيد أرشيفي يتضمن وثائق ذات الصلة بالحياة الخاصة، فهل الوفاة، في هذه الحالة، تضع حدا لأجل الإتاحة أم إن القيد يبقى مفروضا على الوثائق إلى حين استيفائها الأجل القانوني الذي يسمح بإتاحتها للجمهور؟ - إذا كانت "الإتاحة" تسري على "الأرشيف العامة"، فالسؤال يطرح بشأن "الأرشيف الخاصة" التي تم وضعها من قبل الخواص رهن إشارة "أرشيف المغرب" في إطار "عقود هبة"، فهل هذه الأرصدة الخاصة يتم إخضاعها لمقتضيات قانون الأرشيف فيما يتعلق بآجال الإتاحة بما أنها تلامس موضوع "الحياة الخاصة" أم إن مسألة الإتاحة أو تقييدها تبقى رهينة بعقد "الهبة" الذي يعكس الإرادة الحرة للطرف الواهب بالأساس من منطلق أن العقد يعد "شريعة المتعاقدين"؟ وفي هذا الصدد، وارتباطا بعقود الهبة التي بموجبها تتسلم "أرشيف المغرب" أرصدة الخواص"، فهل تخضع "المؤسسة" لإرادة الخواص الذين لا يجدون حرجا في إتاحة الوثائق موضوع الهبة إلى عموم الجمهور أم إنها وبناء على خبرتها يمكن أن تتدخل في شروط "العقد" حماية للحياة الخاصة إذا ما تبين لها أن الكشف عن بعض الوثائق من شأنه أن تكون له تداعيات على بعض الأشخاص الذين مازالوا على قيد الحياة؟ وعليه، وتأسيسا على ما سبق، فهذه الإتاحات (ثلاثون سنة، ستون سنة، مائة سنة)، قد يرى فيها البعض تقييدا للحق في الاطلاع على الأرشيف العامة التي يتم فرض الحصار عليها إلى حين فقدانها لقوتها الإثباتية، بشكل يجعلها مجرد وثائق مرتبطة بالماضي والتراث والذاكرة أكثر من ارتباطها بالواقع الذي أنتجها، وقد يرى فيها البعض الآخر نسفا للأدوار الحقيقية التي يمكن أن تضطلع بها هذه "الأرشيف العامة" في تكريس ثقافة المساءلة والمكاشفة والمسؤولية والمحاسبة، وقد يرى فيها آخرون محاولة من المشرع الأرشيفي ترجيح كفة حق الدولة في الحفاظ على أسرارها وحماية أمنها الداخلي والخارجي وحق الأشخاص في حماية حياتهم الخاصة، على حساب تكريس "الحق في الاطلاع على الوثائق" (الحق في المعلومات). لكن في جميع الحالات، نرى أن المشرع (قانون الحق في المعلومات، قانون الأرشيف)، حاول إجراء نوع من "الموازنة" بين حق المحافظة على أسرار الدفاع والأمن وحق حماية الحياة الخاصة من جهة، وحق المواطنين في الاطلاع على المعلومات من جهة ثانية، وهي "موازنة" من شأنها أن تفقد "الأرصدة الأرشيفية" قيمتها كمرآة يمكن التعويل عليها في عكس "الحداثة" على أرض الواقع، وما يرتبط بها من مساءلة ومكاشفة وشفافية ومسؤولية ومحاسبة وعدم الإفلات من العقاب وتكريس سلطة القانون...إلخ، بشكل يجعل منها "أرصدة" رهينة للماضي والتاريخ والهوية والتراث والذاكرة أكثر من ارتباطها بصناعة الحاضر والمستقبل. [email protected]