في ظل الدينامية المتعددة المستويات، التي شهدها المغرب خلال العقدين الأخيرين، كان من الضروري أن تطال الرياح المرسلة للإصلاح "قطاع الأرشيف الوطني"، الذي ظل منذ فجر الاستقلال خارج نسق الاهتمام الرسمي، مما أسس لبؤس أرشيفي، برزت معالمه بقوة في سياق ما صادف مهمة "هيئة الإنصاف والمصالحة" من صعوبات موضوعية، في رحلة البحث والتحري، لإثبات ما تخلل ما أضحى يعرف بسنوات الرصاص، من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بشكل جعلها تخصص حيزا من توصياتها، للدعوة إلى العناية والاهتمام بالأرشيف الوطني، وكان ذلك، خطوة في اتجاه توقيع شهادة ميلاد للقانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف، والصادر بتنفيذه الظهير رقم 167.07.1 في 30 نونبر 2007، والذي بموجبه، تأسست "مؤسسة أرشيف المغرب"، التي تعد بمثابة الذراع القانوني والمؤسساتي للأرشيف المغربي، وهي نقلة نوعية رغم تأخرها، من شأنها تعزيز الترسانة التشريعية التي طالت عددا من القوانين، وإعادة الاعتبار للأرشيف العمومي بعد سنوات من الإقصاء والنسيان، بالنظر إلى قيمته المتعددة الزوايا، كمنبع للمعرفة ومصدر للمعلومات، وكقناة لا محيد عنها للباحثين والدارسين، وقبل هذا وذاك، كآلية من آليات بناء الذاكرة الجماعية وحفظ الهوية والتراث، وكخلفية حبلى بالمعطيات، تتيح كتابة التاريخ، بشكل يسمح بنقل صورتنا المتعددة الأبعاد للأجيال المتعاقبة. ذراع قانونية ومؤسساتية، لا يمكن النبش في حفرياتها، دون التوقف الاضطراري عند "مؤسسة أرشيف المغرب'' المسندة إليها مهمة تدبير قطاع الأرشيف العمومي على المستويين القانوني والمؤسساتي، وفي هذا الصدد، وبالرجوع إلى مقتضيات قانون الأرشيف، يلاحظ أن المشرع الأرشيفي حرص على العناية بالأرشيف العامة، بما يضمن حفظها والمحافظة عليها وتقنين شروط وضعها رهن تصرف الجمهور، وهي عناية يمكن تحديد معالمها الكبرى على النحو التالي: -إلزام كل موظف أو مستخدم مكلف بجمع الأرشيف أو بالمحافظة عليها، بكتمان السر المهني، فيما يتعلق بكل وثيقة لا يمكن قانونا وضعها رهن تصرف الجمهور، وفي هذا الصدد، فقد نصت المادة 13 على ما يلي: "يلزم كل موظف أو مستخدم مكلف بجمع الأرشيف أو بالمحافظة عليها بكتمان السر المهني، فيما يتعلق بكل وثيقة لا يمكن قانونيا وضعها رهن إشارة العموم" وأي موظف أو مستخدم، خالف أحكام هذه المادة، فتسري عليه - حسب مقتضى المادة 36- العقوبة المنصوص عليها في المادة 446 من القانون الجنائي. -تخصيص أحكام زجرية (القسم الثالث) تم من خلالها استعراض "المخالفات" التي تطال الأرشيف و"العقوبات المطبقة عليها" (الباب الأول) والتي تم حصرها في أفعال "الإتلاف" و"السرقة" و"التسبب في إلحاق الضرر" و"إفشاء السر المهني"، وهي مخالفات تم التشديد في العقوبات المطبقة عليها والتي قد تصل إلى حد "عشر سنوات"، وفي هذا الصدد، نصت المادة 35 على أن "كل شخص قام بإتلاف أو سرقة أرشيف عمومي في عهدته بحكم مهامه، ولو دون أن يقصد إلى الغش، يتعرض لعقوبة حبس تتراوح مدتها بين ثلاث سنوات وست سنوات"، أما المادة 37 فقد نصت على ما يلي: "كل من سرق وثيقة من الأرشيف العام أو الخاص، محفوظة في مصلحة عامة للأرشيف أو أتلفها أو تسبب في الإضرار بها، يتعرض لعقوبة حبس تتراوح مدتها بين سنتين وعشر سنوات". -إيلاء أهمية قصوى لمعاينة أحكام القانون الأرشيفي والنصوص الصادرة لتطبيقه، لما لها من دور في إثبات المخالفات التي تمس بالوثائق الأرشيفية، والتأسيس للمسطرة القانونية المترتبة عنها وما تقتضيه من إجراءات قانونية، وهي "معاينة" أسندت إلى "ضباط الشرطة القضائية" بالنظر إلى اختصاصاتهم وصلاحياتهم الواسعة في البحث والتحري عن الجرائم وزجر مرتكبيها، وإلى "الأعوان" المؤهلين بصفة قانونية لهذا الغرض، من قبل "أرشيف المغرب"(المادة 38)، وإسناد "المعاينة" لهؤلاء الأعوان، يجد مرجعيته في المادة 19 من القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، والتي نصت على ما يلي: "تضم الشرطة القضائية إلى جانب الوكيل العام للملك ووكيل الملك ونوابهما وقاضي التحقيق، بوصفهم ضباطا سامين للشرطة القضائية: أولا: ضباط الشرطة القضائية، ثانيا: ضباط الشرطة القضائية المكلفين بالأحداث، ثالثا: أعوان الشرطة القضائية، رابعا: الموظفون والأعوان الذين ينيط بهم القانون، بعض مهام الشرطة القضائية ". -حرص المشرع على سلامة "حياة" الوثيقة الأرشيفية، يعكس رؤية تجمع بين ثنائية "الزجر" و"المصالحة"، بعدما أتاح فرصا لإبرام المصالحات، فيما يتعلق بالمخالفات ذات الصلة بقانون الأرشيف والنصوص الصادرة لتطبيقه، إذ منح صلاحيات واسعة لمؤسسة "أرشيف المغرب" في إبرام المصالحات، سواء قبل صدور أحكام قضائية أو بعدها، "إذا تبين أن في ذلك فائدة للمحافظة على أرشيف عامة، أو إذا كانت هذه الأخيرة ذات فائدة تاريخية أو علمية أو حضارية"، بشكل يجعل من المصالحات المبرمة كتابة، تلغي - بدون تحفظ - "الدعاوى المقامة من قبل النيابة العامة، وكذلك تلك المرفوعة من لدن الإدارة" (المادة 39). -تكريسا للحق في المعلومة، فقد تضمن القانون الأرشيفي عدة مقتضيات، تتيح وضع الأرشيف العامة رهن تصرف الجمهور، وفق شروط وآجال محددة، ارتبطت بخصوصيات وطبيعة بعض الوثائق الأرشيفية، وفق رؤية تجمع بين "حق إطلاع الجمهور على المعلومة" و"مراعاة ما تقتضيه بعض الوثائق الأرشيفية من سرية وكثمان، وتوضيحا للرؤية، يمكن لكل شخص راغب في الاطلاع، دون مراعاة أي أجل، على بعض الوثائق التي توضع عادة رهن إشارة الجمهور، أو على الوثائق التي يرخص قانون خاص بالاطلاع عليها (المادة 15)، ويمكن للجمهور - مع مراعاة لأحكام المادة 15- أن يطلع بكل حرية على الأرشيف العامة عند انصرام أجل ثلاثين سنة من تاريخ إنتاجها، باستثناء الحالات التي نصت عليها المادة 17(المادة 16). -تجسيدا للبعد العلمي للأرشيف العامة، واستثناء من أحكام المادتين 16 و17، يمكن أن تسمح "أرشيف المغرب "لأغراض البحث العلمي، وبعد موافقة الإدارة الأصلية، بالاطلاع على "الأرشيف العامة" على ألا يمس ذلك، بأسرار الدفاع الوطني أو أمن الدولة أو الحياة الخاصة(المادة 18)، و"بالقدر ما نثمن، وضع بعض الوثائق رهن إشارة الجمهور لأغراض البحث العلمي، دون التقيد بالأحكام التي تحول دون ذلك، بالقدر ما نرى، أن التطبيق الأمثل لهذا المقتضى، قد تعترضه بعض الصعوبات العملية، لتوقفه على انتظار "موافقة الإدارة الأصلية" وعدم المساس بأسرار الدفاع الوطني أو أمن الدولة أو الحياة الخاصة، وهي أسرار قد يصعب على "أرشيف المغرب "تحديدها أو تقديرها، ما لم يتم أخد رأي الجهة أو الجهات المنتجة للوثائق الأرشيفية المعنية، وهذا، قد يشكل عرقلة أمام البحث العلمي، بشكل تفقد فيه المادة، أهدافها ومقاصدها في تشجيع الباحثين وإطلاق العنان للبحث العلمي". هذه المقتضيات القانونية وغيرها، أسندت مهمة السهر على تنفيذها، لمؤسسة "أرشيف المغرب" التي تم إحداثها بمقتضى القانون رقم 69.99 ، وتم تعيين مديرها بظهير 30 مارس 2011 (أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس بالرباط "جامع بيضا")، والذي شرع في ممارسة مهامه رسميا في 27 ماي 2011، وهي مؤسسة تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، تخضع لوصاية الدولة التي تهدف إلى ضمان تقيد الأجهزة المختصة بهذه المؤسسة بأحكام هذا القانون، خصوصا منها ما يتعلق بالمهام المسندة إليها، والسهر فيما يخصها، على تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالمؤسسات العمومية، وتخضع المؤسسة موازاة مع ذلك، لمراقبة الدولة المالية الجارية على المؤسسات العمومية والهيئات الأخرى بموجب النصوص التشريعية الجاري بها العمل" (المادة 26)، وقد تطرقت المادة 27 إلى المهام الموكولة لمؤسسة أرشيف المغرب، والتي يمكن اختزال معالمها الكبرى في "صيانة تراث الأرشيف الوطني والقيام بتكوين أرشيف عامة وحفظها وتنظيمها وتيسير الاطلاع عليها لأغراض إدارية أو علمية أو اجتماعية أو ثقافية"، وتحقيقا لهذه الغاية، تمارس "أرشيف المغرب" اختصاصين محوريين، أولهما: "النهوض ببرنامج تدبير الأرشيف العادية والأرشيف الوسيطة، التي بحوزة الأشخاص الطبيعيين والمعنويين المشار إليهم في المادة 3 من هذا القانون، وتنسيقها وإعطاء التعليمات في هذا المجال"، وثانيهما "صيانة التراث الأرشيف الوطني والعمل على النهوض به"، وكل اختصاص ترتبط به اختصاصات أخرى متعددة المستويات.(المادة 27). وفي هذا الإطار، وبالقدر ما نثمن إعادة الاعتبار للأرشيف العمومي على المستويين القانوني (إصدار القانون رقم 69.99) والمؤسساتي (مؤسسة أرشيف المغرب)، قياسا لما ساد المشهد الأرشيفي من مشاهد الشتات والتسيب والتهميش والإقصاء منذ فجر الاستقلال، بالقدر ما نجازف في القول، أن المؤسسة الحاضنة للأرشيف والساهرة على تطبيق أحكام القانون الأرشيفي والنصوص الصادرة لتطبيقه، لا بد من تمكينها من الوسائل المادية واللوجستية والبشرية، بما يضمن قيامها بما سطره لها المشرع الأرشيفي من مهام واختصاصات متعددة الأبعاد، بما في ذلك، تمكينها من "مقر" بمواصفات معمارية عصرية، يستجيب لخصوصيات المادة الأرشيفية التي لابد أن تحاط بشروط حفظ لائقة وعلمية، لضمان ديمومتها واستمراريتها في الزمن، ويشكل مرآة عاكسة ومشرقة لمؤسسة عمومية، تلعب دور "الحارس الأمين" على "أرشيف عمومي" يعد قيمة "معرفية" و"علمية" و"تاريخية" و"تراثية" و"استراتيجية"، من منطلق أن الاهتمام الرسمي بالأرشيف، يمر قطعا عبر بوابة "مؤسسة عمومية" تمارس مهامها واختصاصاتها في مقر "لائق" على غرار عدد من الإدارات والمؤسسات العمومية. والخوف كل الخوف، أن تتعامل السياسات العمومية مع "مؤسسة أرشيف المغرب" بمنطق "أرشيفي" أو برؤية "براغماتية"، تختزل الشأن الأرشيفي في مفردات "الحفظ" و"التخزين" و"التخلص"، وهنا لا مناص من التأكيد، أن "الاستراتيجية الأرشيفية" تقتضي من الحكومة، التعجيل بتدبير وعاء عقاري ورصد غلاف مالي لبناء مقر جديد يحتضن "الأرشيف العمومي" تتوفر فيها المواصفات الدولية لحفظ الأرشيف، يليق بقيمة ومستوى "مؤسسة عمومية" (مؤسسة أرشيف المغرب)، تستحق العناية والاهتمام، لأنها تساهم في بناء الذاكرة الجماعية وتحفظ التراث وتحمي "بيضة" إرثنا الوطني المشترك، وهي أدوار "استراتيجية"، تكفي لجعل "الأرشيف" في صلب السياسات العمومية، وأي تهميش للمؤسسة ولمواردها البشرية، هو تهميش للتاريخ وتعطيل للذاكرة واستخفاف بالتراث الوطني. والاهتمام بالشق المادي العقاري(المقر)، لا بد أن توازيه عناية لا محيد عنها، بالموارد البشرية التي تشكل أحضانا دافئة للوثائق الأرشيفية، عبر تمكينها من شروط التحفيز، من أجور مشجعة وتعويضات أو علاوات محفزة (دورية، سنوية) ،عن التنقلات التي تقتضيها طبيعة العمل، والسكن والتكوين المستمر ومخاطر المهنة الأرشيفية وغيرها، ومرة أخرى نكون مضطرين لتجديد الحذر، من "أرشفة" الموارد البشرية، بالحكم عليها بالتهميش والإقصاء، كما تم تهميش وإقصاء "الأرشيف العمومي" من الشأن الرسمي لسنوات، وفي هذا الصدد، ولمن ينظر إلى "الأرشيف العمومي" كوثائق فاقدة للصلاحية والحياة، يتم ركنها في الرفوف في انتظار التخلص منها، نقول أن "الأرشيف" هو مادة علمية وتاريخية، وقناة محورية، لترصيع قلادة "الهوية" و"الذاكرة الجماعية" وصيانة التراث. وأكثر من هذا وذاك، هو "قيمة استراتيجية"، يمكن استثمار معطياتها وأرقامها، لتشخيص واقع حال السياسات العمومية بالوقوف عند إيجابياتها وإخفاقاتها بجرأة موضوعية، بشكل قد يسمح برسم معالم المستقبل، وفق رؤية رصينة ومتبصرة، لا مجال فيها للارتباك أو التجريب أو التيهان أو الإخفاق، و"قيمة تنموية" من شأنها تثمين التراث الوطني وجعله رافعة للتنمية الجهوية والمحلية، و"قيمة سياسية" عاكسة للسياسات العمومية بكل مستوياتها، وبالقدر ما وجهنا البوصلة نحو الموارد المادية واللوجستية والبشرية لمؤسسة "أرشيف المغرب" ، بالقدر ما نؤكد أن إعادة الاعتبار للوثائق الأرشيفية، لابد أن تمتد إلى مصالح الأرشيف بمختلف الإدارات العمومية المركزية واللاممركزة، حيث توقع شواهد ميلاد "الأرشيف العمومي"، قبل أن تنتهي به الرحلة في أحضان "مؤسسة أرشيف المغرب"، بالحرص على تخصيص مكاتب لائقة لحفظ الأرشيف للحيلولة دون تعرضها للهلاك أو الإتلاف، وإيلاء عناية بالموظفين أو المستخدمين المكلفين بمهام حفظ الأرشيف، بإخضاعهم إلى التكوين المستمر في المادة الأرشيفية قانونيا وتقنيا، حتى لا تبقى "مهنة الأٍرشيف" مهنة مرادفة للعقاب الإداري أو لمن يريد الهروب من المسؤولية والاختباء في دهاليز الإدارة إلى حين الإحالة على التقاعد. وما دمنا في سياق النقاشات المفتوحة بشأن "النموذج التنموي المرتقب"، نستغلها فرصة، لدعوة "لجنة التنمية" لتوجيه البوصلة نحو "مؤسسة أرشيف المغرب"، بشكل يسمح بفتح نقاش حول علاقة "الأرشيف" و"التنمية"، من منطلق أن "النموذج التنموي المأمول"، لا يمكن تصوره بمعزل عن ثالوث "التاريخ" و"الهوية" و"التراث".. ونختم بالقول، أن المشرع الأرشيفي، حمل "مؤسسة أرشيف المغرب" مسؤوليات جسام، يصعب كسب رهاناتها، مالم يتم الارتقاء بهذه المؤسسة الاستراتيجية على مستوى الموارد البشرية والمادية واللوجستية، لتكون بحق مؤسسة تشكل ذراعا قانونية ومؤسساتية للأرشيف الوطني، مع التنصيص، أن الرهان على "الأرشيف الوطني"، هو رهان على "التاريخ" و"الهوية" و"الذاكرة" و"التراث" و"التنمية"، في زمن سيطرت عليه "عناكب" التفاهة والسخافة والانحطاط الفكري والقيمي والأخلاقي..