تجسّد قرية بني معلا، الواقعة نواحي مدينة تاوريرت شرق المملكة، تجسيدا عميقا، كلّ صور التهميش الذي ترزح تحته عدد من مناطق "المغرب العميق"، فهذه القرية تعاني من عزلة مضاعفة، بسبب غياب طريق سالك، وبسبب معاناة نسبة كبيرة من ساكنتها من الصّمم. مَطلع سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت حاسّة سمْع سعيد اليزيدي تضعف تدريجيا، إلى أنْ أتى الصّمم على أذنيه بشكل شبْه نهائي، وصار مجبرا على استعمال لغة الإشارات للتواصل مع الآخرين. سعيد اليزيدي ليس الوحيد الذي يعاني من الصمم في قرية بني معلا، بل هو حالة واحدة فقط من حالات كثيرة، ومنهم أحمد أزماني، الرجل الأربعيني المصاب بدوره بالصمم، والذي لم يجد من تعبير يشرح به ما يقاسيه سوى: "ملي ما كتسمعش كتولّي مْغبون". ذاق أحمد أزماني مرارة "الغبْن" مرارا، فقدْ جرّب أن يحمل متاعه ويهاجر إلى المدينة بحثا عن عمل، لكنّ إعاقته تسدّ في وجهه كل الأبواب، ويلاصقه الغبْن حتى عندما يذهب إلى الجماعة لاستخلاص شهادة إدارية، حيث يجد صعوبة في التواصل مع الموظفين. زارتْ قريةَ بني معلا قوافل طبيّة في أوقات متقطعة، وقيل لسكانها إنّ المسؤولين سيقومون بدراسةٍ لمعرفة الأسباب الحقيقية للصمم المتفشي في صفوفهم، لكنّ كل تلك الوعود تبخرت، ولم يتحقق منها شيء، بل إنهم نُسوا، وتُركوا يواجهون مصيرهم لوحدهم. "لعنة" الصمم لا أحد يعرف السبب الحقيقي لإصابة فئة كبيرة من ساكنة قرية بني معلا، صغارا وكبارا، بالصمم. ويزيدُ هذه الظاهرة غموضا عدم تقديم الجهات المسؤولة جوابا عن أسباب هذه العلّة، عدا أسباب يرى السكان أنّها غير منطقية، من قبيل زواج الأقارب. يتهامس أهل قرية بني معلا بأنّ مسؤولي الصحة يعرفون السبب الحقيقي لإصابة قريتهم ب"لعنة الصمم"، لكنهم، أي المسؤولون، يرفضون الإفصاح عنه، "حتى لا يجدوا أنفسهم مضطرين إلى البحث لنا عن علاج"، يقول أحد المواطنين. وبلهجة تكتنفها الجدّية يؤكّد سكان قرية بني معلا أنّ زواج الأقارب ليس سببا في إصابة عدد كبير منهم بالصمم، ويستدلّون على ذلك بوجود أشخاص جاؤوا من مناطق بعيدة، لا تربطهم أي صلة عائلة بأهل القرية، لكنهم أصيبوا بالصمم بعد مدة من إقامتهم فيها. أكثر من ذلك، يوضح علي لكحل، رئيس "جمعية غد أفضل بتاوريرت"، أنّ السكان لاحظوا أنّ بهائمهم بدورها تُصاب بالصمم، وتأكدوا من ذلك من خلال عدم استجابتها وتفاعلها مع أصواتهم. يرفض علي لكحل بدوره أن تكون ظاهرة الصمم في قرية بني معلا ظاهرةً وراثية ناجمة عن التزاوج بين الأقارب، كما يقول بعض المهنيين العاملين في القطاع الصحي، ويستند في رفضه هذا الطرح إلى عدم توفّر دليل علمي رسمي يُثبت ذلك بالتحاليل المخبرية. حين توجهنا إلى قرية بني معلال، كانت أمَارات انتشار الصمم في المنطقة على نطاق واسع واضحة. في الطريق صادفنا رجلا يحرث حقلا صغيرا بمحراث تقليدي، حاولنا أن نسأله عن الطريق المؤدي إلى مقصدنا، لكن التواصل كان مستحيلا. اضطرّ الرجل إلى الاستعانة بأصابع يديه ليشرح لنا، من بعيد، أنّه لا يسمع، فتوجهنا صوبه وحاولنا التواصل معه، وبالكاد استطاعت أذناه أن تلتقط ما تنطق به ألسنتنا، رغم الصوت المرتفع. "مشكل الصمم منتشر جدا في هذه المنطقة، هناك مَن يفقد سمْعه في طفولته، وهناك يفقده في مرحلة الشباب، وهناك من يولد أصمّ"، يقول علي، شاب من شباب قرية بني معلا. يتذكر سعيد اليزيدي تفاصيل البوادر التي سبقت إصابته بالصمم مطلع ثمانينيات القرن الماضي، قائلا: "كان كيْنقص لي السمع شوية بشوية، وفْالتالي ما بقيتش كنسمع لا صداع لا شي حاجة". أطفال في حُضن الضياع الإصابة بالصمم تعني عمليا عزلة الفرد عن محيطه، لكنّ عزلة المصابين بهذه العلّة أشدّ وطئا، فقد تكالبت عليهم كل الظروف المعمّقة لمأساتهم، مِن عُزلة في عمق الجبال، وفقر مانِع من زيارة أطباء مختصين، وشراء آلات السمع، ولو كحل مؤقّت. "لا مشيت نخدم وكيهضرو الناس ما كنسمعش، ويلا مشيت للجماعة نصايب شي حاجة هوما يهضرو مكنسمعش.. فيمّا مشيت كنعاني، الله غالب"، يقول أحمد أزماني بغصّة تخنق صدره. يبدو سعيد اليزيدي مقتنعا بأنه لا فكاك من صممه، فقد كبُر في العمر، ويرى أن "الّلي كْبر ما عليهش"، يقول مرغما، لكنّه يتأسّى ويتأسّف لحال الأطفال الصغار والشباب واليافعين الذين يغادرون المدرسة رغما عنهم بسبب الصمم، ليرتموا في حُضن الضياع. محمد واحد من أطفال قرية بني معلا الذين يعانون ويلات الإصابة بالصمم، مازال يدرس في المدرسة الابتدائية بالقرية.. هو تلميذ مجتهد وشغوف بالدراسة، لكنه يجد صعوبة شديدة تصل حدّ الاستحالة في فهم واستيعاب الدروس، لإصابته بصمم مطلق، يجعل التواصل معه لا يتمّ إلا بلغة الإشارات. قرية معزولة لسوء حظ قرية سكان بني معلا أنهم لا يحظون بأي اهتمام من طرف الجهات المسؤولة، ف"لعنة الصمم" بالنسبة إليهم ليست سوى جزءا من المعاناة، وثمّة أجزاء أخرى تتمثل، أساسا، في غياب طريق سالك. لكي تصل إلى قرية بني معلا ينبغي أن تسير عبر مسلك طرقي غير معبّد، مسافته حوالي خمسة عشر كيلومترا، وتستغرق مدّة عبوره زهاء ساعة من الزمن، نظرا لوعورته، وهو ما يحُول حتى دون وصول القوافل الطبية التي تنظمها الجمعيات. يتذكر علي كيف حال سوء حال الطريق دون وصول قافلة طبية هولندية إلى القرية، بسبب رداءتها، أما المسؤولون عن القطاع الصحي ف"حتى واحد ما دّاها فينا، وحتى واحد ما سوّْل فينا"، يقول المتحدث. جمعية غد أفضل للصم بتاوريرت قامت بمحاولات لتخفيف معاناة سكان قرية بني معلا مع الصمم، بتعاون مع مصالح وزارة الصحة، التي قامت ببعض التحاليل، ولكنّ هذه التحاليل لم تُفض إلى تقديم جواب صريح من طرف مندوبية وزارة الصحة حول الأسباب الحقيقية للصمم المنتشر في القرية. "السبب الذي يُصرّح به هو أن هناك مشكلا جينيا، ولكن هل هو متأكد منه علميا"، يتساءل علي لكحل، رئيس جمعية غد أفضل للصم بتاوريرت، مضيفا: "عندما ندرك أنّ هناك أشخاصا جاؤوا إلى قرية بين معلا من مناطق بعيدة، وبعد إقامتهم بها لمدة معينة أصيبوا بدورهم بالصمم، فهذا يعني أنّ السبب الجيني مستبعد". من جهته يؤكد علي، الذي يملك محل بقالة صغيرا وسط قرية بني هذا الطرح، بقوله: "جا عندنا واحد الفقيه، دوز عندنا مدّة، وحتى هو نقْصلو السمع"؛ ويقول سعيد اليزيدي بدوره: "جاوْ عندنا الناس من برا، بقاوْ معانا، حتى هوما طْراشو بحالنا". وفيما أصبح سكان قرية بني معلا على فقدان الأمل في أي التفاتة من الجهات المعنية، على الأقل لتشرح لهم سبب إصابتهم بالصمم، فإنهم مازالوا عاضّين بالنواجذ على بصيص الأمل المتبقي لديهم، لإخراجهم من العزلة التي يعيشونها، وذلك بإصلاح وتعبيد المسلك الطرقي الذي يربطهم بالطريق المعبّد. يقول عبد الحفيظ اليزيدي، وهو شاب من شباب قرية بني معلا: "ملي كطيح الشتا ولا الثلج كنتكرفصو وكنتعدبو لواحد الدرجة ما تصورش، كنبْقاو محصورين هنا". أما الشيخ سعيد اليزيدي فيعبّر عن فقدانه الأمل في أي التفاتة من الجهات المسؤولة بقوله: "عيينا ما نشكيو وما كاين والو".