في العشرين من فبراير 2020 طالعنا موقع هسبريس بمقال عنوانه "نهاية الإسلام المزيف.." للسيد نور الدين برحيلة. يبدأ هذا المقال بالتعبير عن حلم عريق في القدم إذ بات يراود سبات المسلمين ويقظتهم منذ ظهور الإسلام. باتوا وأصبحوا وأمسوا وهم يُعَبِّرون عن أمنية وهمية: أن يكون الإسلام خير دين عرفته البشرية بل أكثر من ذلك، أن يكون هو الدين الحقيقي الأوحد. بعبارة أخرى يتمنون لو يكون المسلمون قد ورثوا الحقيقة المطلقة مخطوطة بين دفتي مصحف وأن تكون بقية البشرية، أي أغلبيتها الساحقة، في ضلال مبين. أضغاث أحلام. أوهام بالتفوق ليعلو الإسلام ولا يُعلى عليه. والغريب في الأمر أن السيد برحيلة لم يأت بأي جديد. نراه ككل السابقين ينتقد إخوانه المسلمين، الذين هم كذلك إخواننا في الإنسانية، وكأنما ابتدعوا ما ورد بالقرآن. ينتقد كاتبنا تقاتل المسلمين في ما بينهم ومع جيرانهم ويتناسى المَكتوب، أي ما كُتِب عليهم بالمصحف المحفوظ من أي تحريف: "كتب عليكم القتال وهو كره لكم". فمُنَزِّل القرآن يعلم أن المسلمين فطروا على كره القتال ويكتبه عليهم بكتابه ثم يأتي أخونا برحيلة ليتشفى في تقاتل المسلمين فيما بينهم ومع غيرهم ويتأسف على ذلك. إنه لظلم وإثم في حق المسلمين يضيفه أخونا برحيلة لربما دون وعي منه لتحميل المسلمين مسؤولية العنف بينما هو كنه ولب كل الديانات إطلاقا. الحقيقة المرة والملموسة والمسجلة بتاريخ كل البشرية هي أن الله ليس على كل شيء قدير. نعلم جميعا أنه لم يكن أبدا راغبا ولا قادرا على إنهاء التقاتل بين البشر ولم يكن أبدا قادرا على إبادة الفقر والمرض والجهل إذ ظلوا متفشين بيننا إلى يومنا هذا ولربما إلى يوم الدين. واكب المرض والجهل والفقر والتقاتل حياة البشرية وربنا مشغول بنار الجحيم وبجنات النعيم. وكأنما لا تكفي الحياة كجحيم لكثير من إخواننا في الإنسانية وكنعيم لفئة قليلة من بشريتنا. فعوض أن يحثنا الرب على مسالمة إخواننا من البشر (في كل الأحوال ودون استثناء كما فعل غاندي) نراه يكتب علينا القتال رغم علمه بكرهنا له. اللهم هذا منكر وإكراه واغتصاب لضمائرنا البشرية. كتب الرب القتال علينا وكأنما يسجل واقع الأمر كما كانت تمليه طبيعة وفطرة كل جبار قهار مهيمن مسيطر ومتكبر على البشرية. لماذا يزيف كتابنا أمور الدين بتسييسها؟ بكتابة هذا المقال أستجيب في حقيقة الأمر لدعوة السيد برحيلة إذ يعلن "أنه آن الأوان إلى مؤتمر جدي للعالم الإسلامي، يجمع العلماء الأكاديميين في علوم الدين، وعلم الأديان المقارن والإفادة من نتائج العلوم الحقة والعلوم الإنسانية، بغية القيام بحفريات أركيولوجية تصل إلى جذور الإسلام النقي، وتنظيف الخطاب الديني من كل الدوغمائيات والأساطير التي فرضتها مصالح السلطة أو امتيازات رجال الدين أو أخطاء اجتهاد العلماء، وغيرها من المغالطات والآراء التي هي مجرد اجتهادات العلماء لحل مشاكل تخص حقبتها التاريخية ولم تعد صالحة اليوم". المغالطة والمراوغة الكبرى هي تسييس أمور دينية محضة لنتهم إخواننا الفقهاء بعدم فهمهم للمصحف، مثلما فعل ذلك السابقون ويفعله اللاحقون من أمثال برحيلة دون المساس ولا إعادة النظر في أصل المعضلة الدينية. الزيف والمغالطة الكبرى لأنفسنا هي أن نتوهم مثل السيد برحيلة أن إلاه اليهودية والمسيحية والإسلام محب للسلام والأخوة والوئام بينما نعلم كل العلم أنه امتحن إبراهيم (وذريته من بعده) ليتيقن أنه قادر على التضحية بابنه في سبيل الله. الذبح والتضحية بنفس بشرية بريئة. يا للجريمة الشنعاء. إنه لإثم عظيم أن تمتحن بشرا ضعيف العزيمة والضمير من أمثال إبراهيم (وأتباعه من بعده) وأنت تعلم مسبقا أنه قادر على الذبح. لم يستيقظ ضمير إبراهيم لينهى ربه عن هذا الأمر بالمنكر. ونرى اليوم أن ضمير آل إبراهيم ما زال يغط في نوم عميق ويختلق المعاذر والمراوغات الفكرية لمن قدم له كبشا كمكافئة على استسلامه وامتثاله لأوامر من دعاه إلى ظلم الأبرياء والتضحية بالنفس والنفيس في سبيل إعلاء كلمته. هذا هو المنكر بعينه. فأين هو ضميركم يا يهود ويا مسيحيين ويا مسلمين؟ نحن جميعا مغالطون لأنفسنا إن اعتقدنا كالسيد برحيلة أن إلاه اليهودية والمسيحية والإسلام لا يبخس الناس حقهم بينما نعلم كل العلم أنه هو الذي ميز بكل وضوح بين أمهاتنا وآباءنا. حرم القرآن الزواج على تسع أرملات سماهن "أمهات المؤمنين" وأحل للرجال أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع وللأغنياء والأقوياء منهم كل من ملكتهن أيمانهم بالمال أو بالسيف أو الاثنين معا دون حد ولا قيد، سوى قيود العبادات بسوق النخاسة. نعلم أن المشرع لهاته القوانين جبار قهار مهيمن مسيطر ومتكبر علينا ونوهم أنفسنا أننا لا نفهم معنى ومغزى هاته الكلمات ونزيف الأمور لنتهم إخواننا المسلمين بالخطأ في تأويلهم لها. وَهْمٌ وإيهام لأنفسنا بأنفسنا اتقاءً منا لعذاب أليم. فما تقوانا سوى خوف واتقاء لنار الجحيم أو لربما كذلك طمع في جنات النعيم. كفانا اليوم تزييفا لأمور الدين لتحميل الفقهاء والمسلمين أخطاء الدين نفسه. فلندع إخواننا إلى الخير وإلى طريق مستقيم قوامه إدانة المنكر المترسخ بكتب تعتبر مقدسة كي لا نعيد النظر فيما تحتويه من ظلم وتهديد وتخويف لبني جلدتنا ومن رشوة قوامها الوعد بإشباع الشهوات وبالملذات في الدار الآخرة. بات لازما أن نكف عن ظلم إخواننا البشر من الفقهاء ورجال الدين لنعتبر أننا فطرنا على كره القتال والتقاتل وظلم إخواننا البشر. بهذا سنتمكن من تأسيس جديد للسلم والمسالمة بعيدا عن نعرات العقائد والديانات التي بنت أسوارا بين بني البشر، أسوار للتفرقة وللنحيب كما نرى ذلك بفلسطين وما جاورها من مناطق شاسعة تتقاتل شيعها بسبب الدين وبسبب المصالح الدنيوية كذلك. أتمنى بهذا أن أكون قد شاركت ولو قليلا في إيقاظ ضمير أخواتي وإخواني المسلمين ليصححوا تصوراتهم وليفهموا أنهم من ضحايا الدين وليسوا بالجاهلين لأوامره. أومن بقدرة أخي الإنسان على تحمل مسؤولياته وعلى قدرة ضميره في التمييز بين الخير والشر دونما حاجة لتخويفه وإرهابه بالعذاب الأليم ولا بترغيبه في ولوج جنات ملؤها الملذات والخمور والعربدة. لا تخافوا ولا تطمعوا يا إخوان ويا أخوات وافتحوا قلوبكم لمحبة ولاحترام ولتقدير الإنسان عوض الدين. هذا هو الطريق المستقيم الذي يهدينا إليه كل ضمير حي ومسالم.