يربط بعض المتابعين والمهتمين بالشأن السياسي المغربي بين اللقاءات التي تجمع بين عدد من الأحزاب المغربية المكونة للكتلة الديمقراطية وبين إمكانيات إحياء الكتلة الوطنية، في سياق التفاعلات والتجاذبات والاصطفافات والتدافعات التي بدأت تبرز في الساحة السياسية المغربية في أفق انتخابات 2021. في خضم هذا التفاعل داخل أحزاب الكتلة الوطنية، بدأت تبرز بعض التحليلات السياسية التي تذهب في اتجاه أن التفكير في إحياء الكتلة له هدف واحد هو الوقوف في وجه حزب العدالة والتنمية، للحد من إمكانية فوزه في انتخابات 2021. بل هناك من ذهب أبعد من هذا، حينما ذهب إلى إمكانية استقطاب الكتلة لحزبي الأصالة والمعاصرة والأحرار إلى الكتلة وبناء جبهة جديدة لمواجهة العدالة والتنمية. هذا في الوقت الذي يستنتج الكثير من المتتبعين أن إمكانيات خلق هذه الجبهة سيكون مطابقًا لجبهة الدفاع عن المؤسسات التي أسسها محمد رضى اكديرة، بالرغم من تغير أسباب النزول، كما أن تغيير بوصلة الكتلة الوطنية وتحريف أسباب وجودها، من النضال من أجل الإصلاحات السياسية والاجتماعية إلى مواجهة حزب سياسي مغربي، يمكن أن يفسر بأنه إفلاس سياسي وتردي فكري كبير ومثير للأحزاب المشكلة للكتلة. ******* لم يكن إحياء الكتلة الوطنية، في نسختها الأخيرة (1992) التي ضمت أحزاب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، مناورة سياسية تبتغي الضغط على سلطة المغرب الرئيسية للحصول على مكاسب أو مناصب سياسية، بقدر ما كانت تتويجا لمسار نضالي سياسي طويل ورؤية استشرافية تحليلية لأوضاع المغرب السياسية، واحتجاجا على ممارسات حزبية هجينة تظهر فيها أحزاب، بين عشية وضحاها، سرعان ما تصبح أرقاما مهمة في معادلات تكوين حكومات المغرب المتعاقبة. في الوقت نفسه، لم تكن مطالب الكتلة الوطنية مجرد مطامح أو مطامع سياسية مرتبطة بالمكاسب الحكومية، ولكنها كانت صيحة قوية في واد السياسة المغربي الذي قطع أشواطا مهمة نحو نوع من التعايش السياسي بين الأحزاب الوطنية والسلطة، بعد أن أنهك الصراع الجميع، في اتجاه الإيمان باعتبار التدرج في الإصلاح السياسي والتعايش اختيارا لا مفر منه ولا بديل عنه. ربما من هذا الجانب كان تعامل الكتلة الوطنية، في بياناتها السياسية، مع المطالب السياسية التي تبنتها وقدمتها لسلطة البلاد، محكوما بهاجس توازنات السلطة في المغرب وبقبول الملكية كمكون أساسي محوري يمكن التعامل معه والرجوع إليه والاطمئنان إليه. دام الشد والجذب بين أحزاب الكتلة وبين إدريس البصري، وزير الداخلية القوي آنذاك، طويلا. في الوقت نفسه، لم يمنع رفع سقف احتجاجات أحزاب الكتلة، سواء من داخل المؤسسات الدستورية أو خارجها، سياسيا ونقابيا وحقوقيا، لم يمنع هذا أعلى سلطة في البلاد من الانتباه إلى مطالب الكتلة والانفتاح عليها، بل تسليمها مسؤولية التسيير الحكومي، من خلال حكومة التناوب، في سابقة اعتبرت حينها مكسبا سياسيا كبيرا حققته أحزاب الكتلة بنضالها وتشبثها بالإصلاح السياسي واعتبار ذلك مدخلا أساسيا لاستقرار المغرب وتطور النظام السياسي فيه. جرت الكثير من المياه تحت جسر أحزاب الكتلة منذئذ، واختلف المحللون في تقييم نتائج حكومة التناوب الأولى والثانية، ولكن الانطباع العام كان هو أن المغرب قطع شوطا مهما في مسيرة الإصلاح السياسي، بالرغم من بعض مطبات العدول عن المنهجية الديمقراطية في تكوين حكومة التناوب الثانية، وبالرغم من عودة التوجيه السياسي ممثلا في حزب الأصالة والمعاصرة، الذي كان من الممكن أن يعيد عقارب ساعة العمل السياسي المغربي إلى الصفر لولا الربيع العربي الذي عدّل من سرعة جنوح حزب الأصالة والمعاصرة، وجعل الدولة المغربية تفتح الباب واسعا أمام المغاربة لينتخبوا حكومة برئاسة حزب العدالة والتنمية، أتت من صناديق الاقتراع بعد انتخابات شهد لها الجميع بالنزاهة والشفافية، كل ذلك وفق دستور جديد اعتبر خطوة جبارة في طريق التطور الدستوري السياسي للملكية في المغرب. * * * منذ ظهور نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة سنة 2011، وتكليف زعيم حزب العدالة والتنمية الفائز (عبد الإله بنكيران) بتكوين الحكومة، عبر هذا الأخير في أول تصريح له بأنه منفتح على حزب الاتحاد الاشتراكي كاختيار أول، ويتمنى أن يكون حليفه الرئيسي في تكوين الحكومة، هذا قبل الاتفاق مع أحزاب الاستقلال والتقدم والاشتراكية والحركة الشعبية المكونين للأغلبية الحكومية آنذاك. اعتبر رفض الاتحاد الاشتراكي المشاركة في الحكومة موقفا سياسيا من التيار الإسلامي، كما اعتبر خروج حزب الاستقلال من الائتلاف الحكومي في منتصف طريق الحكومة موقفا سلبيا من تجربة الإسلاميين في التدبير والتسيير الحكوميين. لم يكن أحد يعتقد بأن حزب الأصالة والمعاصرة المتأثر بإعصار الربيع العربي، والذي تواري إلى الصفوف الخلفية، سيعود إلى لعب دور أساسي في المشهد السياسي المغربي بعد أن هدأت عاصفة الثورات العربية. تماما كما لم يشك أي أحد في أن مواقف الأحزاب الوطنية، الاتحاد والاستقلال، من حزب العدالة والتنمية كان سيصب في مصلحة حزب الأصالة والمعاصرة. في الوقت نفسه، لم يكن أي أحد يتخيل أن حزب الأصالة والمعاصرة سيجني ثمار حرب الاستنزاف التي مارسها حزبي الاستقلال والاتحاد في حق الإسلاميين بخلقهما لجبهات وحزازات ومناكفات كان الهدف منها كبح جماح الإسلاميين والحد من سرعتهم السياسية والتشويش على مستوى تدبيرهم الحكومي، والجميع يتذكر النوب الكلامية التي كان يشنها الأمين العام السابق شباط ضد حزب العدالة والتنمية. * * * كان الخاسر الأكبر في انتخابات 4 شتنبر 2015 هو حزب الاتحاد الاشتراكي بالدرجة الأولى، وحزب الاستقلال بدرجة أقل. وكان لا بد لهذه الصدمة أن تكون منبها لكي يتأكد الحزبان أن خصمهما السياسي الطبيعي ليس هو حزب العدالة والتنمية، وأن أسباب تراجعهما تحكمه عوامل متعددة، فيها من العوائق الداخلية الشيء الكثير، ولكن فيها كذلك من تدخل العوامل الخارجية التأثير الكبير. ولعل الكثير من تصريحات وتحليلات عدد من زعماء الحزبين أكدت بالواضح وبالمرموز بأن حزب الأصالة والمعاصرة استفاد من أداء الحزبين الكارثي في المعارضة، وركب على أخطائهما التقديرية، مستفيدا من امتلاكه لأدوات الفعل السياسي الناجعة، من مال ورجال وإعلام. في السياق نفسه، أظهر تدبير مآلات انتخابات 4 شتنبر 2015، سواء من حيث بناء التحالفات أو الاستقطابات، أظهر بالنتائج أن هناك أحزابا لم تستطع احترام المنهجية المتحكمة في العمل الحكومي، وظلت، تبعا لهذا، مخلصة لجذرها السياسي الذي نبعت منه، وبالتالي لم تحترم العرف السياسي الذي يقتضي التضامن بين الأغلبية الحكومية المفروض فيها الانسجام. لذلك، كان انتخاب رؤساء الجهات وعموديات المدن وكذلك الكثير من المجالس الجماعية مشوبا بتشوه خلفي في بناء التحالفات والاستقطابات بعيدا كل البعد عن المنهجية السياسية الواجب اتباعها في هذا المجال. كما أن ظروف تكليف بنكيران بتكوين الحكومة شابته شائبة (البلوكاج) الذي كانت له عواصف ومواقف كثيرة، منها تشبت رئيس الحكومة باستبعاد حزب الاتحاد الاشتراكي من الحكومة انتقامًا منه، وما تلا ذلك من استبعاد بنكيران، وتكليف العثماني، وباقي القصة معروفة، سواء في الائتلاف الحكومي أو في تيار الاستفزاز داخل حزب العدالة والتنمية الذي استطاع تحييد بنكيران ثم تهميشه، أو في تغيير الرهان السياسي للدولة من جرار الأصالة والمعاصرة إلى حمامة الأحرار بنفس السيناريو وبنفس الأدوات. * * * هذه المحطات، بمسالكها وإكراهاتها وتجاذباتها ونتائجها، هل من الممكن أن تكون باعثا على إعادة النظر في التموقع السياسي للأحزاب المغربية وفق النتائج المترتبة على التدافع السياسي الذي حصل في المغرب منذ الربيع العربي على الأقل؟ هل يمكن اعتبار المرحلة الزمنية التي تلت دستور 2011 كافية لإنضاج الخندقة السياسية السليمة للأحزاب المغربية؟ هل ما زال الموجه الإيديولوجي صالحا لتصنيف الأحزاب المغربية بين يمين ويسار، حداثي ومحافظ؟ كيف يمكن تفسير المزج في تحالف واحد بين أحزاب تختلف في الاعتقاد والفلسفة والتاريخ والحساب السياسي؟ كيف يمكن فهم التقارب بين أحزاب لا يجمع بينها أي قاسم سياسي من غير الانتماء إلى أغلبية أو أقلية، كلاهما هجين وغير متجانس في التكوين وفي الهدف وفي الفعل السياسي؟ أليس الوقت السياسي المغربي مناسبا للتفكير في تسوية حزبية مغربية تكون قائمة على منطلقات تتفق على ضرورة السير في طريق إصلاح الحقل السياسي المغربي، من زاوية تصنيف وترتيب الأحزاب المغربية على الأقل؟ أليس حريا بالمشهد السياسي المغربي أن يفرز لنا قطبين حزبيين كبيرين؟ أليس التوقيت مناسبا الآن للحديث عن الكتلة التاريخية التي نظّر لها المفكر محمد عابد الجابري؟ هل يفهم حزب الاستقلال أن مكانه الطبيعي في الاتجاه الذي يوجد فيه حزب العدالة والتنمية وحزب التقدم والاشتراكية؟ وإذا اعتبرنا أن الحزبين من ثوابت الكتلة الوطنية، وأن انضمام حزب العدالة والتنمية إليهما، أو انضمام الحزبين إليه باعتبار إمكاناته التنظيمية وقدراته على المقارعة على المرتبة الأولى، إذا اعتبرنا هذا التجمع الحزبي نواة صلبة لكتلة تاريخية محتملة تستطيع إيجاد التقاطعات بين خلفياتها الفكرية والسياسية، هل تكون دعوة رجوع حزب الاتحاد الاشتراكي إلى حضنه الطبيعي لاكتمال المعادلة السياسية لها وجاهتها السياسية؟ هل يفهم حزب الاتحاد الاشتراكي أن الكتلة التاريخية يمكن أن تكون اختياره الإستراتيجي الراجح الذي يستطيع من خلاله تحقيق الكثير من التوازن داخل بيته الداخلي، على اعتبار أن العديد من الاتحاديين الفاعلين والمبتعدين لا يَرَوْن مانعا من الانفتاح على حزب العدالة والتنمية والتحالف معه؟ تجربة (ج 8) في نسختها الأولى لم تنجح لأن رياح الربيع العربي بعثرت أوراقها، وتجربة الأصالة والمعاصرة لم تنجح لوجود تشوهات سياسية في خلقة الحزب وتكوينه، لذلك كل الظروف سانحة لإعادة تجربة الكتلة بكل حمولاتها التكوينية والتاريخية والوطنية، يبقى فقط أن يستفيق حزب الاتحاد الاشتراكي من سباته ويفهم أن من أدخله دوامة السقوط والتراجع، فضلا عن انتهاكات الاثني عشر سنة من التدبير الحكومي، هو خروجه عن النسق السياسي الذي يرتبط به ويوجد فيه، سواء في العمل بجد على تجميع مكونات اليسار، بدون أي نية احتواء، أو القبول بحزب العدالة والتنمية كشريك وحليف له رأسمال كبير يمكن أن يغني الكتلة ما دام يقبل بها كمرجعية وطنية ديمقراطية كما حددها الاشتراكي الكبير محمد عابد الجابري، أو بإعطائه لمفهوم الحداثة بعدا سياسيا أكثر عمقا واتساعا وتسامحا. الطبيعة السياسية المغربية تقتضي بناء تكتل حزبي واحد يجمع أحزاب الكتلة الوطنية زائد حزب العدالة والتنمية، في مقابل تكتل آخر يجمع باقي الأحزاب الإدارية بكل تلاوينها، هذا من أجل الوقوف في وجه السيناريوهات الأخرى المحتملة، والتي كلها تصب في اتجاه إعادة إنتاج نسق سياسي مغربي قدم أوراق فشله مرارا وتكرارا. الكتلة التاريخية كما نظر لها محمد عابد الجابري هي الحل، غير هذا، سيكون الأمر إمعانا في تنميط الحقل الحزبي المغربي، وزيادة في سرياليته، وتضييعا لفُرص سد الفراغات والهوامش المشكلة لتمرين الديمقراطية المغربية المأمولة الذي قطع أشواطًا مهمة في بناء معادلاته، البسيطة منها والمركبة.