صُنِّفت الأحزاب المغربية، إلى زمن قريب، صنفين سياسيين: أحزاب وطنية وأحزاب إدارية. وبمرور الوقت، أخذ وصف "الوطنية" يكفّ عن الالتصاق بالصنف الأول من الأحزاب، تاركا مكانه لبروز وصف "الإسلامية"، الذي أصبح يلتصق بصنف جديد من الأحزاب. وبالموازاة مع التلاشي المستمر لتداول مصطلح الأحزاب الوطنية، بدأ التلاشي، ذاتُه، يطال تداول مصطلح الأحزاب الإدارية. تاريخيا، يبدو أن لقيام "حكومة التناوب" تأثيرا في تناسي "الأصل الإداري" لمجموعة من الأحزاب، بحكم مشاركتها "الحاسمة" في حكومة الأستاذ اليوسفي. إن مشاركة "الإدارية" ل"الوطنية" في تدبير الشأن الحكومي، في فترة ما سُمي التناوب التوافقي، حسم في أمر تجريد الأحزاب الثانية من "سلاحها" الرمزي، الذي كانت تحتكم في "إشهاره" إلى نوع من الشرعية التاريخية والخلفية الإيديولوجية- السياسية. في الجهة المقابلة، كان انفصام عرى "الكتلة الوطنية" إيذانا باستنفاذ تلك الشرعية التاريخية، التي ارتبطت صلاحيتها بأحزاب سليلة للحركة الوطنية. هل انتهى التقاطب الحادّ بين الصنفين السابقين من الأحزاب إلى غير رجعة؟ يمكن تأجيل الجواب إلى حين، في محاولة للتركيز على متغير كبير: ظهور العدالة والتنمية القوي بوصفه حزبا "إسلاميا". من المؤكد أن ظهور هذا الحزب قد "غطّى" على أحزاب الكتلة، من خلال إزاحة الاتحاد الاشتراكي من جهة، و"ابتلاع" التقدم والاشتراكية ضمن اصطفافه الحكومي الحالي من جهة أخرى. أما حزب الاستقلال، فلم يكن مصيره بأفضل حالا من التقدم والاشتراكية، وذلك خلال "حكومة بنكيران" الأولى. وليس ببعيد أن تتم عملية الابتلاع من جديد، إن تمكن العدالة والتنمية من العودة، بعد إدراك "الاستقلال" خطأ الانسحاب القاتل من حكومة الحزب الإسلامي في نسختها الأولى. وإن كان للتيارات الإسلامية أكثر من فصيل في المغرب، فإن العدالة والتنمية يظل العنوان الأبرز، خصوصا في ظل محاولات الحزب المتجددة، لترشيح بعض "السلفيين" ضمن انتخابات 07 أكتوبر المقبل. إن ظهور العدالة والتنمية القوي على مسرح الأحداث السياسية يُشرِّع للبعض الحديث عن واقعية ما يسمى الأحزاب الإسلامية. وبحكم الهيمنة الانتخابية للعدالة والتنمية، استنادا إلى الاقتراع الجماعي الأخير، يمكن تحديد الاصطفاف الحزبي الراهن على النحو التالي: أحزاب إسلامية في مقابل أخرى غير إسلامية. وإذ يُمثّل العدالة والتنمية الطرف الأبرز والأوسع بالنسبة إلى الصنف الأول، فإن خليطا من الأحزاب التقليدية (اليسارية والليبرالية- الإدارية...) يمثل الصنف الثاني. يمكن الحديث، ضمن الصنف الثاني، عن حزب الأصالة والمعاصرة، باعتباره حزبا هجينا، من منطلق طبيعة تكوينه الإداري- اليساري. وعلى الرغم من سعي الأصالة والمعاصرة إلى اكتساح الممارسة الحزبية، فإن نشأة الحزب الملتبسة، فضلا عن عدم وضوحه الإيديولوجي، يلقيان بغيوم كثيفة على "حقيقة" التقاطب الحادّ، الذي يريد زعماؤه اصطناعه في وجه العدالة والتنمية. من وجهة نظر خاصة، يوجد طرف التقاطب الحقيقي في مكان آخر، لدى أحزاب ما يسمى "فيدرالية اليسار"، وفي طليعتها "الاشتراكي الموحد". ولولا سياقات معينة تحول دون امتداد الفيدرالية تنظيميا وإشعاعها سياسياَ، لكان بالإمكان الحديث عن اصطفاف واضح، نظير ما كان سائدا في مرحلة تاريخية سالفة. وحتى يتحقق ذلك، من شأن الأصالة والمعاصرة أن يضطلع ببعض من المهمة، في مناكفته توجهات العدالة والتنمية، إيديولوجيا وسياسيا. الاتحاد الاشتراكي الذي ظل يقف في وجه "الوافد الجديد" من جهة، وفي وجه خصمه الإسلامي من جهة أخرى، يبدو أنه فقد كثيرا من بريقه السياسي لدى فئات واسعة، من جماهيره العاطفة وكتلته الناخبة. وإذ "ينجح" العدالة والتنمية، حتى الآن، في شغل موقعه السياسي، فإن الأحزاب غير الإسلامية تجد صعوبة في إفراز "شرعية" موضوعية ومتماسكة لمواجهة "إسلاميي الحكومة". وفي ظل التحديات التي يواجها الأصالة والمعاصرة، بالنظر إلى "حقيقة" التطبيع الديمقراطي الناقص لديه، من حيث الاستناد إلى التمايز الإيديولوجي من جهة، وإلى المجهود التنظيمي الخاص من جهة ثانية، يبقى العدالة والتنمية "اللاعب" الأبرز في المرحلة السياسية الراهنة. وعلى الرغم من اختياراته الحكومية اللاشعبية، فإن العديد من المهتمين السياسيين لا يزالون يتوقعون استمرار هيمنة الحزب الإسلامي، قياسا على ما حصّله من نتائج في الانتخابات الجماعية الأخيرة. ونحن نستبعد الأطراف الحزبية الأخرى، إنما نريد بذلك الوقوف عند طبيعة التوجه الإسلامي لدى "العدالة والتنمية" الآن.. أين تتجلى اختيارات الحزب الإسلامية، مُجسَّدة في فقرات برنامجه الحكومي المنتهي؟ ظاهريا، نكاد لا نستبين أي ملمح ل"إسلامية" الحزب. بعد انتهاء ولايته الحكومية، ما الذي يبقى عالقا، لدى عموم المواطنين المغاربة، في تدبير الحزب للشأن العام؟ بالنسبة إلى شخص مثلي، غير راض عن الحصيلة الحكومية بتاتا، فإن أكثر ما ظل يستفزّه هو الطريقة التي تمّ بها إصلاح ملف حساس، مثل ملف أنظمة التقاعد مؤخرا. وبالنتيجةً، أين هي إسلامية الحزب، حتى بالنسبة إلى الجانب القيمي- الأخلاقي، الذي نأى الحزب عن الخوض فيه مرارا؟ إذا كانت أحاديث بنكيران توحي بأنه مجرد "مساعد" للملك، فإنها قد توحي، من جهة أخرى، بأن برنامج الحكومة هو مجرد برنامج للملك. والملاحظ هو أنه حتى ما يسمى الأبناك الإسلامية لم تعرف طريقها إلى الوجود خلال الولاية الحكومية المنتهية. إن كل الدَّورة التي دُرنا، لتحديد قطبي الممارسة الحزبية الراهنة، انتهت إلى أن لا برنامج يعلو على برنامج الملك. لم يختلف في ذلك العدالة والتنمية عن الاتحاد الاشتراكي، مثلما لن يختلف الأصالة والمعاصرة عنهما، لو قُدِّر له الفوز بالانتخابات المقبلة. الملك هو الذي يحكم، وهو الذي ينفذ برنامجه، وإن بأيدي حكومة قيل إن "أغلبيتها" منتخبة ديمقراطيا. ألسنا نعود، باعتبار كل ما سبق، إلى المربع السياسي الأول؟ ولكن، بعد ماذا؟ أليس بعد أن ضحينا بذلك الوضوح في تمييز طرفي المعادلة السياسية، ممثلة في الأحزاب الإدارية والأحزاب الوطنية؟ وإلى أن يعود للتقاطب السياسي وضوحه، بين الممارسة التحكُّمية والممارسة الديمقراطية، لا أعتقد أننا نعيش حياة سياسية طبيعية، بوضوحها وانفرازها وانفتاحها.. اُنظروا: من بات يؤمن بجدوى الانتخابات اليوم؟ وتوخِّيا للنسبية، المطلوبة في التحليل السياسي، أضيف: انتبهوا، ربّما في عيون من هم على شاكلتي غشاوة، بفعل حدّة الإيديولوجيا وزيادتها عن اللزوم.. ربّما.. ربّما!!!... وإلى أن يثبت العكس، كل اقتراع وأنتم مطمئنون إلى ما ستجني "أصواتكم" قريبا...