من منبر أعلى هيئة أممية، وعلى مرأى ومسمع الأمين العام للأمم المتحدة، ومبعوثه للسلام في الشرق الأوسط، ومندوبي الدول الأعضاء، وعلى الهواء مباشرة، حرّض مندوب إسرائيل الدائم لدى الأممالمتحدة داني دانون، قبل أيام، بوقاحة منقطعة النظير واستهتار بالمنظومة الدولية، على رئيس دولة فلسطين محمود عباس، ضمن مسلسل الأكاذيب والافتراءات الإسرائيلية المتواصل ضد الفلسطينيين وقيادتهم الشرعية. تفوهات دانون في اجتماع مجلس الأمن حول "صفقة القرن"، في نيويورك، أثبتت من جديد أن إسرائيل دولة مارقة على القانون الدولي، طالما بقي المجتمع الدولي عاجزاً عن إدانتها أو فرض قراراته الأممية عليها، ومحاسبتها. وادعى دانون أن "الرئيس عباس يرفض التفاوض، وهو غير مهتم بالتوصل إلى حل واقعي للنزاع"، زاعماً بنبرته الوقحة أن "التقدم نحو السلام لن يتحقق طالما بقي الرئيس عباس في منصبه، وعندما يتنحى يمكن للشعبين المضي قدما إلى الأمام". الرد على تصريحات دانون جاء مباشرة، وفي الاجتماع ذاته، عبر الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، الذي رفض ما أشار إليه السفير الإسرائيلي في كلمته بضرورة تنحي الرئيس الفلسطيني عن منصبه ليحل السلام. وقال أبو الغيط: "دُهشت بالدعوة الصريحة إلى إقصاء الرئيس أبو مازن. هذا يكرس نوايا غير حميدة تجاه الرئيس الفلسطيني، ويدعو إلى القلق. وهذا المنهج في التفكير يوضح بجلاء أن هناك مشكلة شخصنة، لأنني مؤمن بأن ما لم يوقع عليه الرئيس أبو مازن لن يوقع عليه شخص آخر". وطالب المجتمع الدولي بالحفاظ على مصداقيته والتمسك بالمبادئ التي دعا إليها الطرفان، الفلسطيني والإسرائيلي، خلال سنوات من التفاوض. وعبر التلفزيون الرسمي الفلسطيني، قال عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" حسين الشيخ، إن حديث مندوب إسرائيل أمام مجلس الأمن الدولي دعوة مباشرة إلى استهداف رأس الشرعية الفلسطينية، الرئيس محمود عباس، وأضاف: "ما قاله مندوب إسرائيل يذكرنا بما حصل مع الرئيس الشهيد ياسر عرفات، فهو دعوة إلى استهداف وتغييب الرئيس بنفس الطريقة التي غاب بها الراحل عرفات، ودعوة مباشرة للقتل، وعلى المجتمع الدولي أن يتحمل المسؤولية"، كما أكد المتحدث ذاته أن تقاعس الأممالمتحدة ودول العالم عن محاسبة إسرائيل على كل ما تقوم به هو الذي يجعلها تهدد الرئيس بشكل مباشر بهذا الشكل، مضيفا أن الرئيس منتخب من الشعب الفلسطيني وعبر صندوق الانتخاب بطريقة ديمقراطية، ومشددا على أن حديث مندوب إسرائيل يدق ناقوس الخطر، وإسرائيل وأميركا تتحملان المسؤولية المباشرة عن حياة الرئيس محمود عباس، والمساس بسيادة الرئيس تجاوز لكل الخطوط الحمراء والمحرمات. التصريحات التي تفوه بها دانون من على منصة مجلس الأمن، الذي يتحمل المسؤولية الرئيسية عن صون السلم والأمن الدوليين، تتعارض بصورة تامة مع القانون الدولي. الخبير القانوني حنا عيسى أوضح ل"وفا" أن "ما نطق به دانون يعتبر من قبيل جرائم الحرب بنص المادة 8 الفقرة ب من نظام روما لسنة 1998"، وقال: "تعتبر تصريحاته أمام الملأ بينة دامغة يجب فيها ملاحقته قانونا من قبل المحكمة الجنائية الدولية وتعريضه للمساءلة لإلقاء العقوبة اللازمة عليه، إما من خلال القضاء الإسرائيلي حسب قانون العقوبات، وإذا تعذّرت ملاحقته في إسرائيل، على النيابة العامة للمحكمة الجنائية الدولية ملاحقته ومطالبة إسرائيل بتسليمه إليها لتتم محاسبته قانونا عن تهديده للرئيس محمود عباس". وأضاف المتحدث أن الإجراءات المتبعة في المحكمة الجنائية الدولية تنص حرفياً: "أولاً: تجب محاكمته في إسرائيل، وإذا تعذر ذلك فيحال الموضوع على المحكمة الجنائية الدولية"، لافتاً إلى أن القضاء الجنائي الدولي "قضاء تكميلي"، أي بمعنى إذا لم يحاكم في إسرائيل يحال على المحكمة الجنائية الدولية. وتيرة التحريض الإسرائيلي على الفلسطينيين ارتفعت في الآونة الأخيرة، خاصة بعد إعلان إدارة ترامب عن "صفقة القرن" الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية. وأفردت وسائل الإعلام والصحف الإسرائيلية مساحات واسعة لتصريحات القادة الإسرائيليين وللمقالات التحريضية التي تحاول تصوير الفلسطيني بأنه "إرهابي" و"رافض للسلام"، بهدف تعزيز الفكر اليميني المتطرف داخل المجتمع الإسرائيلي. وفي هذا السياق، قال المختص في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور ل"وفا" إن التحريض في وسائل الإعلام الإسرائيلية أخذ بعدا أوسع بعد الإعلان عن صفقة القرن، وأضاف: "قادة إسرائيل وخلفهم الإعلام شعروا بأن الصفقة تعطيهم الضوء الأخضر للهجوم على الفلسطينيين وقيادتهم، خاصة أن الإعلان تزامن مع الحملات الانتخابية للأحزاب الإسرائيلية قبل انتخابات الكنيست في مارس المقبل". ولفت منصور إلى أن "التحريض على الرئيس عباس ووصفه بالعقبة أمام تحقيق السلام، وتحميله مسؤولية التصعيد على الأرض، وأن أي تقدم مشروط مرهون بغيابه عن المشهد الفلسطيني، يعد تصريحا مباشرا لتصفيته، وهذا يذكرنا بموجة التحريض على الرئيس الراحل ياسر عرفات، التي سبقت حصاره واستشهاده". وأشار المتحدث إلى أن تصريحات دانون أمام مجلس الأمن هي ترجمة صريحة ومباشرة لما يقوله رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، موضحاً أن انقضاض إسرائيل على الشعب الفلسطيني وقيادته يقضي على أي فرصة لتحقيق السلام ويفتح المجال أمام الإجراءات الأحادية الإسرائيلية. أما المتخصص في الشأن الإسرائيلي محمد أبو علان فقال إنه منذ الإعلان عن صفقة ترامب هناك تركيز إعلامي إسرائيلي على تعزيز فكرة أن "الفلسطينيين رافضون لكل مبادرات السلام". ونقل أبو علان تغريدة للصحافي الإسرائيلي يونا بن مناحيم زعم فيها أن "الرفض الفلسطيني الاعتراف بإسرائيل ضمن حدود واضحة وآمنة، والقدس عاصمة لها، مستمر منذ العام 1967 وحتى اليوم، ومن المتوقع أن يستمر، حتى وفق تقديرات الفلسطينيين أنفسهم"، وزاد: "الفلسطينيون غير مستعدين لتغيير رؤيتهم للخطوط الحمراء الخاصة بهم، وملاءمة أنفسهم للواقع الميداني"؛ ولفت إلى أن دانون نفسه كتب مقالاً تحريضياً ضد الرئيس محمود عباس، نشر يوم الثلاثاء الماضي، في صحيفة "إسرائيل هيوم"، جاء فيه: "حتى قبل المؤتمر الصحافي للإعلان عن صفقة القرن للرئيس الأميركي دونالد ترامب، رئيس السلطة الفلسطينية خطط للسفر لنيويورك. هذه طريق القائد الذي يسير منذ 17 عاماً في المسار الخطأ، ويبذل جهودا لا نهاية لها في نقاشات في الأممالمتحدة، ويبدو أحياناً أن هدفه فقط محاربة إسرائيل على الساحة الدولية، ولم يحقق المصالح الفلسطينية التي يدّعي أنه يمثلها". وأضاف دانون في مقاله: "قريباً، وعندما يترجل عن المنصة، سيُذكر أبو مازن كأكبر رافض للسلام في التاريخ، سنوات من الفرص التاريخية، بما فيها صفقة القرن، ألقيت في سلة المهملات لصالح خطابات في الأممالمتحدة، وعمليات إرهاب سياسي ضد إسرائيل في جميع أنحاء العالم"، وتابع: "من يسخّر طاقته للتحريض ضد إسرائيل، ويعلّم الأطفال على الكراهية، ويدفع ملايين الشواقل لعائلات المخربين، لا يمكن أن يسمى شريكا للسلام". *وفا