قدّم علماء من القارة الإفريقية، في الجلسة العلمية الثانية لمؤتمر "دور الإسلام في إفريقيا.. التسامح والاعتدال ضد التطرف والاقتتال"، المنعقد بالعاصمة الموريتانية نواكشوط، صورة مشرقة عن التعايش الذي كان سائدا في ربوع دول إفريقيا جنوب الصحراء بين المسلمين وغير المسلمين، قبل ظهور جماعات التطرف والإرهاب، التي استعْدت المسلمين على غيرهم، واستعدتهم حتى على بعضهم بعضا. من بين الصور المشرقة لسلوك المسلمين التي قدمها علماء إفريقيا في المؤتمر المنظم من لدن منتدى تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية، بالتعاون مع الحكومة الموريتانية، تلك التي جاءت في ورقة أبي بكر فوفانا، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في ساحل العاج، بإشارته إلى أن التاريخ لم يسجّل وقوع أي حرب دينية بين المسلمين وغيرهم في بلاده منذ أن بلغَها الإسلام. وقال فوفانا إن الإسلام انتشر في ساحل العاج بفضل تحلّي المسلمين بالتعايش السلمي مع الوثنيين والنصارى، واحترامهم لتقاليد السكان الأصليين. وفي القرن الرابع عشر توسع انتشاره بشكل أكبر، حيث أقبل الناس على اعتناقه بطريقة سلمية، ليصير منظما، في كل أرجاء البلاد، خلال القرن السادس عشر. واتّسمت العلاقة بين المسلمين مع غير المسلمين في ساحل العاج بالاحترام والتعايش السلمي، وفق ما بيّنه فوفانا، مبرزا أن المسلمين كانوا يستقبلون الوثنيين الوافدين على المدن من القبائل، وكانوا يعتبرونهم مثل إخوانهم، فشجع ذلك مثير من الوثنيين على اعتناق الدين الإسلامي، لما لقوه من معاملة حسنة من المسلمين. وأردف المتحدث ذاته أن التعايش في ساحل العاج هو السائد، حيث يتعايش المسلمون مع النصارى والوثنيين في مدينة واحدة، دون أن تندلع صراعات ذات طابع ديني بينهم، مشيرا إلى أن دولة ساحل العاج تتسم بالتعدد العرقي وتعدد الديانات واللغات، إذ تعيش بها جاليات كبيرة من بوركينافاصو وغانا والنيجر والطوغو والبنين.. "ما يجعل التعايش يصبح ضروريا لا مفر منه بالنسبة إلينا"، يقول المتحدث، داعيا العلماء إلى العمل على توطيد هذا التعايش في مختلف ربوع القارة الإفريقية. وتوقف يعقوب دكوري، عضو المجلس الإسلامي الأعلى في مالي، عند أسباب نشوء التطرف والعنف وسبل علاجه، إذ أشار إلى أن من أبرز أسبابه مخالفة دعاة التطرف لأئمة الفقه المعاصر، فضلا عن كون قادة الجماعات المتطرفة لا تتوفر فيهم الشروط العلمية التي تتطلبها القيادة والإمامة، وكذلك التعصب للطائفية واتِّباع غير سبيل جمهور المسلمين وجمهور علمائهم. ومن الأسباب الأخرى لانتشار التطرف والعنف أن قادة الجماعات المتطرفة "لم يتركوا أي آية تأمر بالموعظة الحسنة والدعوة بالّلين إلى مكارم الأخلاق التي بُعث محمد ليتممها، إلا قالوا عنها نسَختْها آية السيف، ويتراموْن على الاجتهاد من غير توفُّر شروطه فيهم"، يوضح عضو المجلس الإسلامي الأعلى في مالي. ويرى المتحدث ذاته أن علاج التطرف الديني ينبغي أن يقوم على العمل بنصوص القرآن الصريحة التي فصّلت في الأمور التي يتخذها المتطرفون مطيّة وذريعة لممارسة العنف والقتل، وفي مقدمتها الإكراه في الدين والجهاد، موضحا أن القرآن نصّ على عدم الإكراه في الدين، وعدم القتال ما لم يبدأ المقاتَل بالقتال، مشددا على أن للجهاد شروطا حددها القرآن بنصوص صريحة. رأي يعقوب دكوري أيده القاضي أبو بكر إمام، نائب رئيس محكمة الاستئناف الشرعي بنيجيريا، حين حديثه عن لجوء الجماعات المتطرفة إلى العنف، إذ قال أن القتال الذي تخوضه هذه الجماعات "ليس جهادا، بل فتنة"، مبيّنا "أن الجهاد الحقيقي هو جهاد النفس، وفي الحالات القصوى الجهاد لحماية العقيدة". وهاجم نائب رئيس محكمة الاستئناف الشرعي بنيجيريا قادة وأتباع الجماعات المتطرفة، بقوله "لقد تم تحريف معنى الجهاد عن معناه العقدي من طرف مَن علم لهم بالدين"، مضيفا "الإرهاب يخالف التعاليم الدينية الإسلامية العامة والخاصة، ويجرّمه الإسلام، فَمن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا". وتوقف عدد من المتدخلين في مؤتمر "دور الإسلام في إفريقيا.. التسامح والاعتدال ضد التطرف والاقتتال"، عند "فرادة الإسلامي الإفريقي"، واختلافه عن إسلام المشرق، إذ قال خديم امباكي، أستاذ جامعي سينغالي متخصص في العلوم الشرعية، أن عددا من العلماء الأفارقة توفقوا في الجمع بين الإسلام وبين العناصر الإيجابية في الثقافة الإفريقية". ونبّه المتحدث إلى أن طلبة القارة الإفريقية الذين درسوا في البلدان العلمانية الغربية كانوا أكثر اعتدالا من الذين درسوا في بلدان المشرق العربي، "الذين يروْن الكمال المطلق في الماضي، وأن الزمن عامل انتكاس، وأنّ الفهم الأقدم للنصوص هو الأسلم، وإنّ الاجتهاد ومسايرة التطور البشر خطَر". وإذا كان التطرف ناجما عن أسباب دينية، فهو ناجم أيضا عن أسباب سياسية، كما يرى خديم مباكي، مشيرا، في هذا الإطار، إلى أن التهميش الاجتماعي يعدّ من أبرز أسباب التطرف؛ "لأن الطبقة السياسية تَعتبر أن السلطة ميراث مستحق لها، ومَن لا يملك ثقافة المستعمر، أي مَن ليس من النخبة، فهو من الرعايا وليس مواطنا، وعليه يشعر الذين يحملون الثقافة الإسلامية بأنهم مهمشون في بلدانهم، ما يدفعهم إلى التطرف"، على حد تعبيره. ونبّه المتحدث ذاته إلى المخاطر الجمّة للتطرف والإرهاب على استقرار المجتمعات، وعلى التنمية، خاصة في القارة الإفريقية، قائلا "الإرهاب أدّى إلى إزهاق أرواح بريئة، كما أنه يعطل أعمال التنمية، فكثير من الناس فقدوا أراضيهم لأنها لُغِّمت، وتركوا الزراعة ولم يجدوا شيئا آخر لضمان كسب قوتهم". ومقابل تحميل وزر الإرهاب لقادة وأتباع الجماعات المتطرفة، حمّل خديم امباكي المسؤولية أيضا للحكّام والمسؤولين؛ ذلك أن ضمان الاستقرار لا يمكن أن يتحقق، كما يرى المتحدث، في ظل تجاهل المطالب المشروع لشرائح كبيرة من المواطنين، واستشارتهم قبل تبنّي القوانين التي تطبق عليهم، وأخذ رأيهم في كل مجالات التنمية". وختم الأكاديمي السينغالي عرضه بالتأكيد على أن التراث الثقافي والديني المشترك لشعوب القارة الإفريقية يجعل من السهل التفاهم حول القضايا المصيرية، محذرا من مغبّة إهمال هذا التراث؛ ذلك أن إهماله "يؤدي إلى استيراد كل شيء من الخارج، وهذا من أسباب السخط الشعبي العام".