يواصل مصطفى هيري رسم مسار متميز بدأه سنة 2002 فوق التراب الألماني، دافعا بهذه التجربة بين تضاريس الهجرة على سكتَي العمل والتطوّع دفعة واحدة. حين يستحضر هيري ما عاشه، مسترخيا كي يعود بذاكرته إلى أواخر الألفية الفائتة، يقرّ بوجود عثرات أملتها ظروف تلك الفترة؛ لكنه يواصل التشبث بإمكانية رسم المستقبل، من خلال الفعل الجاد في الحاضر. بين القمم في أعالي جبال الأطلس المتوسط، تعرّف مصطفى هيري على الحياة، سنة 1979، وفي منطقة "تاگمة" بجماعة "تالحيانت" جاءت خطواته الأولى في المشي، ثم دخل مدرسة ابن بطوطة الابتدائية بقرية "لقباب". استوفى هيري، أيضا، الطورين التعليميين المواليّين حتى تحصل، وسط مدينة خنيفرة، على شهادة الباكالوريا في شعبة العلوم الرياضية، ثم واصل الدراسة بالتوجه إلى الجامعة. يقول مصطفى إن مرحلة التسعينيات من القرن الماضي لم تكن بالزخم الذي يعيشه المغرب حاليا، ويعلن أنه استشعر ضيق الآفاق المستقبلية أمام تخصصه، وقتها، في الفيزياء والكيمياء. آفاق بديلة تأثر مصطفى هيري، خلال بحثه عن آفاق بديلة وهو في العشرينيات من العمر، بعدد من أصدقائه الباحثين عن فرص للتحصيل العلمي خارج المغرب، وأخذ ينقّب عن خطوة مماثلة. ويستحضر "ابن لقباب" ما جرى حين يورد: "كان لدي بعض المعارف في ألمانيا ممّن عرّفوني بما يمكن القيام به للتكوين في هذا البلد الأوروبي، وبفضل هذا التحفيز ابتغيت خوض التجربة". حاول هيري الاستعانة بمكتسباته العلمية خلال المرحلة الثانوية في خنيفرة من أجل الظفر بقبول من جامعة ألمانية، خاصة أن "بلاد الجرمان" تشتهر بتشجيع العلوم المستثمَرة في القطاع الصناعيّ. غياب المعلومة انخرط مصطفى هيري في دراسة اللغة الألمانية قبل شد الرحال نحو مستقره الجديد، وموازاة مع ذلك حاول استجماع المعلومات المتاحة عن المجتمع الألماني بغرض ضبط إيقاع الحياة بين أفراده. "واقع حال لم يشبه وقتها ما نعيشه الآن، بعد انتشار استعمالات الأنترنيت؛ المعلومة برزت في حلّة عملة نادرة، لأن الحصول عليها لم يكن متاحا للجميع ولا بالدقة الكبيرة المبتغاة"، يقول هيري. ويكشف مصطفى أنه اضطر، بعد الوصول إلى ألمانيا مستهلّ الألفية الحالية، إلى نهج العصامية في تحسين مستوى اللغة والاعتياد على المجتمع، مع تدبر مصاريف العيش والدراسة عبر اشتغالات مؤقتة. التقنيات الإلكترونية اجتاز مصطفى هيري اختبارات السنة التحضيرية قبل ولوج الدراسات الجامعية في مدينة "تورتموند"، مراكما التكوين في تقنيات المركبات قبل أن يبادر إلى التخصص في التقنيات الإلكترونية. يعترف المغربي ذاته بأن الاستشارة التوجيهية التي قام بها في ألمانيا، ووقف وراءها خبراء، قد أعطت ثمارها حين أيدت استمراره ضمن التعليم العالي العلمي حتى تخرجه مهندسا في "الإلكترونيك". ويسترسل هيري: "استفدت، خلال السنوات الأربع التي أمضيتها في جامعة دورتموند، من تكوين عال فعال، خاصة عند السنة الأخيرة المستوجبة للتدريب وإنجاز بحث نهاية الدراسة، ثم جاء طور التجربة الميدانية". الطريق إلى شتوتغارت أمضى مصطفى هيري فترة تدريب داخل القلب النابض لشركة "فولكسفاغن" بمدينة "وولغسبورغ"، مجاورا العديد من الطواقم المركّزة على مشاريع تطوير سيارات المستقبل، متعرفا بذلك على ما ينتظره مستقبلا. حرص المنتمي إلى صف الجالية المغربية في ألمانيا، خلال المرحلة الموالية، على الدخول في معاملات مع فاعلين صناعيين مختلفين عرفوه على شركة "بوش"؛ المتعاملة مع عدد كبير من منتجي السيارات. ويقول مصطفى إنه حسم الاختيار بعد نضوج التجارب التي خضتها، والتحقت ب"بوش" بحكم عمليها مع متدخلين في ميادين تصنيعية عديدة، ومن أجل ذلك انتقل إلى مدينة "شتوتغارت" للعمل في إلكترونيات المركبات البرية. "أنتمي حاليا إلى فريق متخصص في أنظمة تجميع المعلومات التي تزود بها أنواع كثيرة من السيارات، وأخصص كل جهودي المهنية لدعم المتدخلين ضمن مسارات تطوير هذا اللون من البرامج الرقمية"، يكشف هيري. تطوع بالوقاية المدنية ضمن إطار الاندماج بالمجتمع الألماني، أقدم المغربي المتخصص في الهندسة الإلكترونية على الانخراط في الوقاية المدنية ب"شتوتغارت" كمتطوّع؛ وجاءت هذه البادرة في سنة 2016. ويعلق هيري على ذلك بقوله: "استفدت من تكوينات عديدة في هذا الشق التطوعي من حياتي، كما جعلني هذا التموقع أتعرف أكثر على الألمان وجعلهم يكتشفون هويتي المغربية الأصيلة بعيدا عن التنميطات الرائجة". هذا الالتزام الاختياري يضع مصطفى هيري، خلال الأوقات التي لا يمارس فيها عمله الأساسي، رهن إشارة مختلف التدخلات التي تستلزم تعزيز الموارد البشرية المسؤولة عن إخماد الحرائق وإسعاف المصابين. التسيير والتخيير يفكر الوافد على ألمانيا من خنيفرة مليا قبل أن يقول إن نيل الرضا عن الماضي لا يرتبط باختيارات، ويفسر: "الظروف كانت تفرض عليّ مسايرتها، ولو عاد الزمن لقمت بأمور كثيرة؛ أهمها عدم التعلم لأجل الامتحانات". ويسر مصطفى هيري بأن تجربة الهجرة إلى ألمانيا جعلته يعي بأن التركيز المعمّق على التعلّم يسهّل الحياة في المستقبل، وأن أسواق العمل لا ترحب إلاّ بالأشخاص المتوفرين على مدارك صلبة والمقدمين قيمة مضافة. "ما ابتغيته خلال لحظة تيه في المغرب بلغته وسط ألمانيا؛ وعلى الرغم من اشتغالي مهندسا في قطاع السيارات ضمن ظروف جيدة جدّا، فإنني أحلم بالعودة مجددا إلى وطني، حتى أعمل على نقل المعرفة والخبرة"، يعلن هيري. دعامات مغربية المولود في "تاگمة" ينصح شباب الجالية في ألمانيا باستغلال كل الفرص المتاحة لهم بهذه البلاد الأوروبية من أجل التطور، مشددا على أن النظر ينبغي أن ينصب على الإستراتيجيات المشجعة للعلوم لا ما يتوفر من ملاهٍ. أما الراغبون في الهجرة إلى ألمانيا من المملكة فإن هيري يوجه إليهم كلامه قائلا: "الهجرة ينبغي أن تكون مشروعة وفق القنوات النظامية، فهي وسيلة لا غاية، والمقدم عليها مطالب بنيل مستوى تعليمي مغربي يراد صقله في الخارج". وأبرز مصطفى هيري أن التكوين الأساسي في الوطن يشكل دعامات أساسية للنجاح بالخارج، ويسترسل: "الأنترنيت أضحت تتيح التخطيط الدقيق للمستقبل من خلال تجميع المعلومات، ومبتغي النجاح عليه التحلي بعزم شديد على تجاوز الإحباطات".