مّرت عشر سنوات على الثورة التونسية التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بنعلي؛ لكنّ طيْف هذا الأخير لا يزال يحوم في سماء "بلاد الياسمين". ارتدادات الثورة ما زالت تتراءى في أمكنة كثيرة: في الحواجز الحديدية المحيطة بمقر وزارة الداخلية الواقع بشارع الحبيب بورقيبة، وفي "سخط" التونسيين على الوضع الاقتصادي المتردي وغلاء المعيشة. طيف بنعلي في مطار قرطاج الدولي بالعاصمة تونس، يسود توجّس أمني كبير، ربما خوفا من أحداث إرهابية على غرار تلك التي استهدفت "بلاد الياسمين" أكثر من مرة منذ انهيار نظام بنعلي، ويتجلى هذا التوجس في العدد الهائل من حقائب المسافرين الخاضعة للتفتيش. ولا تبحث أعين أعوان الجمارك وشرطة الحدود بمطار قرطاج الدولي عن الممنوعات المشكّلة لخطرٍ على أمن تونس واستقرارها، بل تبحث أيضا عن أشياء كانت تصنّف ضمن خانة الممنوعات في عهد بنعلي، ومنها أدوات عمل الصحافيين. كنا ننتظر أنا وزملائي في بهو المطار دورَنا لختْم الجوازات. لمحت لوحا توجيهيا معلّقا أعلى ممرٍّ للأشخاص في وضعية إعاقة، مكتوب عليه "قاصرو الحركة العضوية"، أعجبتني العبارة فسحبت هاتفي والتقطت صورة للوح الإرشادي؛ لكنّ العملية لم تنتهِ على خير. التقطتني عيْن عنصر من أعوان الجمارك كان يتوسط مجموعة من المسافرين القادمين من دولة آسيوية، فاتجه فورا نحوي وقال بلهجة آمرة إن التصوير داخل المطار ممنوع، ثم استفسرني عما أحمله في حقيبتي، ودون أن ينتظر جوابا طلب من أحد مساعديه إخضاعي للتفتيش. فتحت الحقيبة، فظهر حاملُ الهاتف Tripiedوميكروفون. سألني عون الجمارك دون أن يرفع عينيه عن الحقيبة وكفّاه مستمرتان في التفتيش: "أين هي الكاميرا؟". أجبْته بأنني لا أتوفر عليها، ثم فتَح محفظة صغيرة بها مسجّل magnétophone وقال إن الأشياء التي عثر عليها في الحقيبة ممنوعة. نادى على رئيسه كأنه لم يقتنع بما قال، فأراه "الممنوعات" التي أسفرت عنها عملية التفتيش؛ فحص هذا الأخير المسجّل فأعاده إلي، وكذلك حامل الهاتف، واحتفظ بالميكروفون، واصطحبني إلى مكتب مخصص للمحجوزات. هناك طلب مني المسؤول عن المكتب جواز سفري، وبعد تدوين المعلومات وسؤالي عن غرضي من زيارة تونس، أخبرني بأنهم سيحتفظون بأدوات العمل المحجوزة، بداعي أنني لا أملك ترخيصا لإدخالها إلى تونس، وقدّم لي وصْلا دعاني إلى الاحتفاظ به لتسلُّمها حين مغادرة البلاد. استفسرته عن سبب حجز الأدوات، فكان جوابه: "نحن نريد أن نحميك فقط حتى لا تواجه مشاكل، إنْ أنت استعملتها؛ لأنك لا تتوفر على ترخيص". يوم المغادرة عدت إلى المكتب نفسه بعد أن دفعت عشرة دنانير (حوالي 35 درهما مغربية) في صندوق القباضة. وجدتُ عون الجمارك نفسه. طلب جواز السفر وتذكرة الطائرة ليتأكد من أنني سأغادر تونس؛ لكنّه لم يسلّمني الميكروفون، وطلب مني أن أنتظر إلى حين اقتراب موعد إقلاع الطائرة، وكأنه يخشى أن أعيد إدخال الميكروفون المحجوز إلى تونس. سأتأكد من ذلك عندما عدت بعد نصف ساعة، حيث نادى عون الجمارك على عنصر من شرطة الحدود وسلّمه الميكروفون المحجوز، وطلب مني الشرطي مرافقته. سألته إن كان سيرافقني إلى قاعة الإركاب، فأجاب بأن نعم. اضطررت إلى توديع صديقٍ مرافق، على الرغم من أن موعد الإركاب لم يحِن بعد؛ لكن الشرطي أصرّ على ألا يفارقني إلا بعد إدخالي إلى قاعة الإركاب. في باب القاعة، وجدت الشرطي، الذي كان ينتظرني ريثما أودع صديقي، يتحدث إلى حارس البوابة. قال لي: "انتظرتك كثيرا"، فأجبته: "كان من الطبيعي أن لا يتم حجز الميكروفون أصلا"، فالتفت إلى الحارس وقال بنبرة محتجة: "اسمع، يقول إنه من الطبيعي ألا يحجز الميكروفون، بينما كان عليه إن يقول لي الله يرحم الوالدين، لأنني رافقته". قلت له إن "الانطباع السائد لدى كثير من المغاربة هو أن تونس دولةَ حريات بعد الثورة؛ لكن هذا الانطباع تغيّر لدي الآن"، فرماني بنظرة غاضبة وقال: "ما فعلناه كان في صالحك"، ثم سلّم جواز سفري وتذكرة الطائرة إلى شرطي الحدود المكلف بختم الجوازات، ثم سلم الميكروفون ووصْل حجزه إلى مسؤول بالجمارك لتوقيعه. وأنا أهمّ بالمغادرة اقترب مني الشرطي الذي رافقني وقال: "اكتب عنا شيئا إيجابيا. انقل عنا صورة إيجابية.. وبأننا، نحن شرطة الحدود في مطار تونس، نمثل قدوة في العالم العربي". أجبته: "إن شاء الله"، ثم هممت بالمغادرة، دون أن أقتنع بما قال. ارتدادات الثورة في تونس العاصمة، تبدو الأوضاع مستقرة، وثمّة فخْر بادٍ على وجوه التونسيين من نجاحهم في انتزاع حريتهم من قبضة السلطة بعد أن أسقطوا نظام بنعلي؛ لكنّ صدور المواطنين تغلي بغضب غير خافٍ جرّاء غلاء المعيشة والأزمة الاقتصادية التي زاد من حدّتها الإرهاب الذي ضرب، غير ما مرة، أحد مفاصل الاقتصاد التونسي، وهو السياحة. قال لي السائق الذي أقلني من المطار إلى الفندق ويظهر من قسمات وجهه أنه في العقد الخامس: "في عهد بنعلي، صحيح كان فيه شوية ظلم؛ ولكن الناس كانت عايشة.. أما الآن فقد تدهور الوضع"، سألته: "هل معنى هذا أنك تتأسف على نظام بنعلي"، فأجاب بعد لحظات من التردد: "نعم". ويسترسل موضحا موقفه: "الشعوب العربية تفضل أن يحكم الرئيس وحده، لأنه يأكل (يقصد الاستيلاء على ثروات البلد) لوحده.. أما الآن فهناك العشرات من الوزراء والبرلمانيين والمسؤولين الذين يريدون أن يأكلوا"، يلتفتُ إلي كما لو ليتأكّد من أنه أقنعني قائلا: "فْهمْتني؟"، ويضيف: "انظر إلى ليبيا، كانت أفضل في عهد القذافي، ما نعيشه اليوم هو خطة صهيونية". الملاحظة التي لا تخطئها عير زائر تونس هي أن التونسيين يدخّنون كثيرا. هل لذلك علاقة بالضغط النفسي الذي يعيشونه جراء استفحال الأزمة الاقتصادية وغلاء المعيشة؟ يحتاج الأمر إلى بحث، لكن ثمّة إشارات. "هل رأيت كم نشقى في عملنا، وقد لا نربح شيئا طيلة يوم من العمل"، يقول سائق تاكسي ونحن وسط زحمة على الطريق. يضيف مشتكيا: "المازوط غالي، اللتر بديناريْن"، ثم واصل دون أن أسأله: "السعر الذي نقلّ به إلى الوجهة التي تقصدها خمسة وعشرون دينارا، ولكن إذا حبّيت تعطيني ثلاثين دينار كبوربوار (بقشيش)"، ثم توقف عند كشك على الطريق ليعود حاملا سيجارة أشعلها داخل السيارة دون استئذان. بالرغم من أن تونس تخلصت من ديكتاتورية نظام بنعلي، فإن التونسيين ما زالوا يقتصدون كثيرا في الخوض في الوضع السياسي ببلدهم مع الغرباء، وغالبا ما يكتفون بعبارات مقتضبة؛ لكنهم يؤكدون أن سقف الحرية ارتفع، مقارنة مع ما كان عليه الوضع في السابق. يقول سائق أقلّني بمعية زميل من أذربيجان إلى المطار، وهو من أنصار الرئيس قيس سعيد: "هناك حرية؛ الآن بمقدورنا أن ننتقد أعضاء الحكومة وحتى الرئيس، والناس يستطيعون أن يأخذوا حقهم بمواجهة المسؤولين والدولة في المحاكم". الهاجس الأمني يبدو الوضع الأمني في تونس مستقرا؛ لكنّ سبّابات عناصر قوات الشرطة المنتشرة في كل مكان تعيش على أهبة الضغط على أزندة الأسلحة الرشاشة في أي لحظة. في جميع شوارع العاصمة تونس، تنتشر مجموعات من عناصر الشرطة مزودة بالأسلحة النارية، خاصة وسط العاصمة. وفي شارع الحبيب بورقيبة، يتجلى الهاجس الأمني المخيم على تونس بشكل أوضح، من خلال الحواجز الحديدية المطوّقة لمبنى وزارة الداخلية. من هذا المكان انطلقت "ثورة الياسمين"، التي أطاحت بنظام بنعلي، بعد أن أشعل شرارتها محمد البوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد يوم 17 دجنبر من العام 2017 بإضرام النار في جسده احتجاجا على مصادرة السلطات لبضاعةٍ كان يكسب من بيعها قوتَ يومه. الهاجس الأمني الطاغي على تونس، خاصة العاصمة، يكرّسه الخوف من احتمال وقوع أعمال إرهابية التي اكتوت بلظاها "بلاد الياسمين"، في أكثر من مرة؛ وهو ما يجعل مستوى اليقظة مستقرا في مستويات عالية. فعلاوة على استمرار حظر التجول الليلي، تخضع العربات لتفتيش صارم بآلة اكتشاف المتفجرات قبل الولوج إلى مرابد الفنادق، ويخضع النزلاء لتفتيش ثان عبر أجهزة السكانير المنصّبة في بوابات الفنادق والمؤسسات العمومية، وحتى المطاعم. وبالرغم من كل التحديات التي تقف في وجه تونس ما بعد الثورة، فإن التونسيين يحذوهم أمل في تجاوز الوضع الراهن، بعد أن أفلحوا في إنهاء عهد بنعلي، وإن لم تقتلع جذوره كلها بعد. يقول شاب تونسي من شباب الثورة: "لقد نجحنا في ما هو أهم؛ لكننا لم نحقق بعد كل ما كنا نطمح إليه". أما الرئيس قيس سعيد فقد وعد التونسيين، بخطاب حماسي في كلمة خلال تجمّع بمدينة سيدي بوزيد، بمناسبة الذكرى العاشرة ل"ثورة الياسمين"، بأنّ تونس ستنهض.