تزخر مناطق الأطلسين الكبير الشرقي والمتوسط بفنانين أمازيغ أبدعوا في مختلف الأجناس الشعرية الأمازيغية، حسب اهتمامات وميولات واختيارات كل واحد على حدة، مهتبلين الطبيعة بأرزها، وجريان المياه في وديانها، والمنبسطات الفسيحة والشاسعة في سهولها، لنظم الشعر وقول الكلام الموزون المقفى الدال على معنى، فمنهم من أتيحت له فرصة الظهور وتسويق نفسه وأعماله مستعينا بالأنترنيت والهواتف الذكية و"يوتيوب"، كما هو حال الجيل الجديد الذي استفاد من نعمة التكنولوجية؛ فيما الرعيل الأول من الفنانين أسدل عليهم ستار الإهمال، وظلوا يعيشون بعيدا عن الأضواء والترف، قريبين من التهميش والإقصاء، كما هو وضع الفنان عدي أوهمو، صاحب اللقب الفني "بوغانيم"، أو "العازف على الناي"، الذي احتفظ بهذا الفن منذ عقود القرن الماضي، وصانه من الاندثار والضياع إلى يومنا هذا. رأى الفنان عدي أوهمو النور بدوار أيت مرزوك بإقليم ميدلت، وهو حاليا في السبعينات من عمره، متزوج وأب ل9 أبناء، 4 إناث و5 ذكور، كلهم عاشوا وترعرعوا في الجماعة الترابية تونفيت؛ بدأ مشواره الفني منذ سبعينيات القرن الماضي، صال وجال مختلف المداشر والقرى المغربية على أمل نزع الابتسامة من وجوه المتفرجين، وسافر إلى مدن بعيدة للتعريف بفنه وتقريبه من عشاق التراث الأمازيغي أينما كانوا. في ذاك الإبان، إذ كانت الحياة بسيطة والناس كرماء والثقة العمياء في الغرباء، كان "بوغانيم" يشد الرحال صحبة فرقته التي لا تفارقه حيثما حل وارتحل، في اتجاه قبيلة ما، حيث يطلب الضيافة، أو ما يسمى محليا "ضيف الله"، فيذبح صاحب البيت أضحية كما هو الحال في الأعراس، وفي المساء تبدأ الفرجة والبهجة ويعج المنبسط الذي تُجرى فيه الأمسية بالناس، ذكورا وإناثا، كبار وصغارا، قادمين من كل فج عميق، بمجرد علمهم أن "بوغانيم" رفقة مجموعته حلوا بالمنطقة. ومع تأكد القبيلة الأخرى من تواجد الفنان في الجوار، تدعوه هي الأخرى، في شكل تنافسي، من أجل رسم البسمة على محبي الفن الأمازيغي، في وقت كان "العالم قرية كبيرة"، لغياب التكنولوجيا حينها، وانعدام الهواتف والأنترنيت التي تلهي البلاد والعباد. لدى بوغانيم هندام خاص يظهر به في المناسبات والمهرجانات والأمسيات الفنية التي يحضر بها أو يُدعى إليها، وبه يمتاز عن باقي الفرقة التي تكون إلى جانبه؛ ويتكون مما يسمى محليا "ثاحاشت ن الرزت"، علاوة على "ثاسبنييث"، وحزام من الكتان، إلى جانب ريش النعامة أو الطاووس؛ أما باقي الملابس فيقتنيها من "أيدود ن سيدي حماد أولمغني"، الذي يقام سنويا في إملشيل، أو من فاس، دون نسيان قصبته التي يصدر منها صوت متفرد ومتميز لا تتناطح عنزتان حول مصدره. يُعد عدي أوهمو الشخصية المحورية في الفرقة، إذ يضطلع بدور المهرج والمضحك وسط "الحْلقة" بمعناها الدارج؛ كما يقلد أصوات مجموعة من الحيوانات، من قبيل القط، الثعلب، الدجاج، الكلب، والماعز... وله قدرة خارقة على محاكاة أصوات الطبيعة بشكل فطري، حتى إنه يصعب في مرات عدة التمييز بين صوت "بوغانيم" والحيوان نفسه، زد على هذا أنه يتقن حركات بهلوانية لجلب انتباه الجمهور المتفاعل معه بكل جوارحه؛ ثم يطوف على المتفرجين أملا في جمع دريهمات تعتبر مورد رزق له ولأعضاء فرقته، وأغلبهم أرباب أسر. حصل "بوغانيم" في ما مضى على عدة جوائز وشواهد تقديرية، علاوة على بطاقة الفنان التي تقدمها وزارة الثقافة؛ زد على هذا أنه ظهر على شاشة التلفاز لمرات كثيرة وفي مناسبات متفرقة، ورغم كبر سنه وبلوغه من العمر عتيا، بيد أنه لازال يلبي نداء من استدعاه إلى مناسبة معينة، سواء تعلق الأمر بعرس أو مهرجان أو أمسية ثقافية أو فنية. كما لا يشترط "بوغانيم" مقابلا ماديا معينا بعد الانتهاء من عمله، بل يكتفي بما يُقدم له ويسير إلى حال سبيله، ومطلبه فقط يتجلى في إيلاء المزيد من الاعتناء بمثل هؤلاء الفنانين الأمازيغ، ممن أفنوا زهرة عمرهم محافظين على هذا الإرث العريق، ومتمسكين بهذا التراث الإنساني القديم قدم التاريخ، في زمن غزت التكنولوجية حياة الناس بمختلف شرائحهم، إذ لم يعد من يتذكر هذه الفئة من الفنانين إلا لماما، أو أثناء تنظيم بعض المهرجانات المحلية التي تقام على صعيد إقليم ميدلت. وعلاقة بالموضوع، أدلى علي أوعبيشة، الباحث في اللغة والثقافة الأمازيغيتين، بدلوه في موضوع "بوغانيم" عامة، والفنان "عدي أوهمو" خاصة، قائلا: "يردَّد إجحافا أن حمو أوليازيد هو أول من نقل إيقاعات أحيدوس إلى إيقاعات المجموعات الفنية حينما أسس أوّل مجموعة فنية قائمة الذات تتألف من عازف (على الكمان أو لوتار) ومن عازفين على الإيقاع (البندير)، ومن نساء يردّدن اللوازم الغنائية (اللغى)؛ غير أن الإيقاعات الأمازيغية الموروثة عن أحيدوس تم نقلها قبل ذلك خارج دائرة الرقص الجماعي، وتم استحداث توزيعات موسيقية جديدة؛ وذلك من خلال مجموعة "بوغانيم" التي كانت تجول المناطق مركّزة على جانبين فنيين، الأول يتمثل في الغناء، والثاني في الفرجة الفكاهية". بخصوص الجانب الفكاهي، يوضح أوعبيشة في تصريح لهسبريس: "كان يقوم على التنشيط وإضفاء المرح على الحفلات والأسواق الأسبوعية...إلى جانب السخرية من بعض الشخصيات أو بعض الأحداث. أما الجانب الثاني، وهو الذي يهمّنا، وهو الخاص بالغناء أو الأداء الموسيقي، فقدّم من خلاله الفنان خدمات جليلة للفن الأمازيغي، إذ استطاع أن ينقل أشعار أحيدوس والطقوس الثقافية، مثل تلك التي تقال أثناء جزّ فرو الغنم (ثلاسا) أو أثناء الحصاد...إلخ، إلى دائرة المجموعة الفنية المؤلّفة من عازف على الناي "أغانيم"، وعازفين على الإيقاع، وهم من يردّدون "إزلان" بالتتابع. وفرقة بوغانيم، يردف الباحث ذاته، "هي أصل الغناء الأمازيغي، لأنه قبل الثلاثينيات لم تكن القبائل الأمازيغية تعرف فرقة موسيقية أخرى غيرها. كما عرفت هذه المجموعة بلازمتها الفنية التالية: "أيوا يا وا يوا ييوا دايوا"، وبأشعارها، خاصة الدينية منها والرمزية الثقافية وذات البعد الصوفي أيضا. ورغم نمطية الألحان التي أبدعتها فرق بوغانيم، إلا أنها كانت في ذلك الوقت سابقة في الإبداع الموسيقي الأمازيغي، والدليل على ذلك أن الجميع كان يتغنّى بالمأثورات الغنائية لهذه الفرقة". وفي المحصلة، يمثل عدي همو، حسب الباحث عينه، "واحدا من بقايا تراث بوغانيم الغنائي بمنطقة تونفيت، إذ استطاع أن يحافظ على هذا الإرث في شقه الغنائي بحمولته الثقافية وأبعاده الرمزية، سواء من حيث مقامات الناي الحزينة أو اللباس التقليدي الخاص بشخصية بوغانيم (العازف على الناي)".