لقد وجدت التنظيمات الإرهابية في أوروبا الأرض الجذابة لاستقطاب المقاتلين والجهاديين المعادين للغرب والعاملين للكره لغير المسلمين. فعلى مر التاريخ كانت الجماعات المتطرفة توظف الوسائل التقليدية المتاحة لترويح أفكارها ومخططاتها سواء في المساجد والاجتماعات السرية أو عبر الكتب والمصنفات وتوزيعها على الأتباع أو عبر شبكة التواصل الاجتماعي. أو العلاقات العائلية والعلاقات الاجتماعية وصلة القرابة. بعد تشديد الرقابة على آليات التجنيد والاستقطاب التقليدية المباشرة وغير المباشرة عملت كل من القاعدة وتنظيم "داعش" على تطوير أساليب الاستقطاب وتجنيد عناصر التطرف وتوريث قيم التطرف ونشر الكراهية داخل السجون الأوروبية. فمع عودة مجموعة من المتطرفين من مقاتلي تنظيم "داعش" الإرهابي من منطقة الشرق الأوسط وملاحقتهم قضائيا، تحولت السجون الأوروبية إلى محاضن خاصة للتطرف الإسلامي. فالجماعات المتطرفة في أوروبا تعمل جاهدة على توسيع قاعدتها واستقطاب وتجنيد الشاب المسلم وغير المسلم داخل السجون الأوروبية بزرع أصول الفكر المتطرف، ويحذر المعنيون بمحاربة التطرف والإرهاب إلى أن مئات السجناء انضموا إلى التنظيم أصبحوا يشكلون خطرا محتملا ينبغي الاستعداد لمواجهتهم في حال خروجهم من السجن فالجماعات المتطرفة تنهج استراتيجيات نفسية لاستقطاب السجناء للانطواء في صفوفه نحو الجهاد كما تستخدم التنظيمات المتطرفة أسلوب إثارة الغضب في أوساط السجناء ودفعهم للانتقام، فالجماعات المتطرفة نجحت في تقديم رؤية وصناعة صورة جذابة داخل السجون تستقطب بها المراهقين والشباب من السجناء الذين يعانون وضعا نفسيا هشا وضعفا جنسيا أو عنفا أسريا. فداعش اتخذت الجنس كأداة لاستقطاب المقاتلين وتحفيزهم ومكافأتهم خصوصا السجناء الذين لهم سجل طويل في العنف الجنسي والأسري، وكثير من الشباب الذين انضموا إلى التنظيم الإرهابي تعرضوا لمشاكل أسرية كثيرة أو لقصة حب فاشلة أول فقدان لحبيبة نتج عنه إضرابات نفسية وميل للعنف والتطرف والانتقام من المجتمع. فالتيارات المتطرفة تشتغل بذكاء كبير لاستغلال المشاكل التي عانى منها السجناء والتي تحتاج إلى حلول كالتهميش والاغتراب والاكتئاب والعيش داخل مجتمع أوروبي يرفض المسلمين فيقدمون وعودا وإغراءات كأنها هي الحل. ومن بين الدول الأوروبية التي أصبح التطرف يشكل مشكلة بالغة الخطورة نجد بلجيكا التي تعد من بين الدول المصدرة للمقاتلين الأجانب إلى مناطق الصراع سوريا والعراق. فبلجيكا تواجه تهديدا إرهابيا مستمرا بسبب التطرف داخل السجون وخطر معاودة المدانين بالإرهاب لأنشطتهم والمدفوعين بإيديولوجية دينية مشتركة والانتماء إلى هوية وطنية موحدة. وسجون بلجيكا أصبحت مكانا خصبا يتجمع فيه المتشددون الإسلاميون يبادلون فيه خبراتهم وأفكارهم المتطرفة لتجنيد واستقطاب المتطرفين من الشباب ومنعهم من الاندماج في المجتمع البلجيكي، فالزنازن البلجيكية تضم مجموعة كبيرة من المتطرفين يحملون جنسيات مختلفة لا يملكون الخبرة في الذبح والقتل والإجرام، بل هناك العديد منهم داخل السجون لديهم عقول وأدمغة متخصصة في علوم كثيرة إدارية عسكرية سياسية إعلامية أمنية، تقنية تضع الخطط والدراسات وتنظيم العمل، ويربطون اتصالاتهم داخل المؤسسات السجينة عارضين أفكارهم المتطرفة المؤيدة للدولة الإسلامية الحديثة مستغلين الظروف النفسية والاجتماعية الاقتصادية الدينية والفكرية، إضافة الى ظروف الاحتجاز والإجراءات الأمنية القصوى وضعف العمليات الإصلاحية، داخل السجون لتجنيد واستقطاب مقاتلين ومتطرفين وأنصارا جدد للتنظيم المتطرف من الشباب المسلم وغير المسلم، الذين يبحثون عن إثبات الذات أو هوية تميزهم أو قضية يعيشون حياتهم لأجلها. ويمكن التميز داخل السجون البلجيكية بين المعتقلين السابقين المسجونين بتهم الإرهاب الذين لهم ميل لمعاودة أنشطتهم، ويربطون اتصالاتهم في سرية تامة من داخل السجون لعدم رصدهم من جهة رقابة السجن بين السجناء الذين لهم موقف راديكالي علني ردا على الشعور بالإحباط الذي تفرضه عليهم البيئة، إضافة إلى بعض السجناء الذين لديهم الاستعداد والميل للتطرف الديني وأغلبهم من المجرمين وسجناء المخدرات الذين لهم سوابق جنائية. ومن أبين أبرز الجماعات التي استغلت السجون البلجيكية للتجنيد والاستقطاب نجد: الشريعة من أجل بلجيكا: الشريعة من أجل بلجيكا تأسست في 3 مارس 2010 متأثرة بجماعات سلفية قائمة ولها علاقات تربطها مع أشخاص وهيئات إسلامية متطرفة في الخارج متورطين في أعمال إرهابية. فالزنازين المتخصصة لسجناء الإرهاب والفكر المتطرف تضم عددا كبيرا من السجناء الذين يعدون من أخطر السجناء في بلجيكا لما لهم من نزعة راديكالية وتأثير سحري في إقناع السجناء للانضمام للتنظيمات المتطرفة وبث الفكر الديني المتشدد الذي يبيح القتل والجهاد. وتطرف النزلاء في السجون يحدث نتيجة التأثير المباشر وغير المباشر لنزلاء آخرين عليهم بأفكار متطرفة. ومن بين العوامل التي تولد الاستعداد النفسي والمعرفي للسجين لمعانقة الأفكار المتطرفة التي يتم ترويجها داخل السجون نجد: العامل النفسي للسجين فالجماعات المتطرفة تستغل العامل النفسي للسجين الذي يشعر بالظلم والاغتراب داخل السجن، إذ تعمل هذه الجماعات على تقديم المساعدة وتقوم على تحفيزه نفسيا ليكن ناقما على الدولة والمجتمع وبالتالي تسهل عملية تجنيده وغسل دماغه حتى وإن خرج من السجن تحول إلى أداة في أيدي التنظيم. العديد من السجناء المتطرفين الذين ولدوا في عائلات هاجرت إلى بلجيكا واجهوا أحكاما بالسجن حيث انقطعت صلاتهم تماما بالأسرة والمجتمع، وهنا تولد الشعور بالاغتراب واعتبروا الأحكام التي تلقوها بأنها أحكام غير منصفة وغير عادلة لذا تزايدت حدة الغضب ومشاعر السخط داخل أنفسهم كما زادت قابليتهم ورغبتهم في التطرف والراديكالية المتشددة، في محاولة منهم للانتقام من المجتمع والدولة للتعبير عن موقفهم، لذلك أصبحوا مرشحين لمغادرة السجون البلجيكية دون التخلي عن أفكارهم المتطرفة بل أكثر من ذلك منهم من ازدادوا تطرفا وعنفا، فالخلية التي ارتكبت اعتداءات مطار بروكسيل ومحطة القطارات في 22 مارس كانت وراء اعتداءات شهدتها باريس في 13 نونبر 2015، وأودت بنحو 130 شخصا تقريبا، ضمت عناصر قاتلوا في سوريا وعددا من المحكومين كانوا مجرمين صغارا عملوا أحيانا في مجال المخدرات والجريمة المنظمة. العامل الديني: لقد عملت التنظيمات المتطرفة على استقطاب وتجنيد الشباب من خلال الانتماء الديني، إذ بسبب التحولات في الساحة الدينية العالمية وبروز مظاهر العنف والتطرف باسم الدين أصبحت الهوية الدينية تحل تدريجيا محل الهوية الوطنية، فالشباب المسلم من الجيل الثاني والثالث من المهاجرين هم الفئة المستهدفة في الغالب، إذ نجد حالات يكون أبطالها مسلمون اعتنقوا الدين الإسلامي في مرحلة من حياتهم وهم المرشحون الأكثر لارتكاب أفعال إرهابية مقارنة مع من ولدوا مسلمين. فالسجون البلجيكية تحتضن أشخاصا مجرمين ومنحرفين لأسباب مختلفة يلتقون في السجن مع متطرفين محترفين لهم خبرة وتجربة كبيرتين في وسائل الإقناع، ينقلون إليهم أفكارهم ومعتقداتهم المتطرفة أخلاقيا وسلوكيا. داخل السجون تعمل الجماعات المتطرفة على إقناع السجناء من المسلمين وغير المسلمين بالانضمام إليها إذ تجعل منهم أنهم هم الذين يمثلون الدين الإسلامي فمعظم السجناء ليس لهم إلمام بأدنى القيم الدينية ومسألة التأثير عليهم واستقطابهم من قبل الدعاة المتطرفين سهلة للغاية. فإدارة السجون البلجيكية تسمح للسجناء يوميا على الأقل مرة أو مرتين للخروج إلى ساحات السجن لغرض التشمس أو المشي أو الرياضة فخلال هذه العملية تتم اللقاءات والصفقات بين السجناء والجماعات المتطرفة. فخلال هذه المدة الزمنية من الاستراحة تعمل الجماعات المتطرفة على توسيع أنشطتها وترويج أفكارها والتقرب أكثر إلى السجناء لتجنيدهم واستقطابهم، باستعمال أساليب أكثر حداثة وتطورا في مخاطبة وإقناع السجناء... فهي تعتمد عملية غسل دماغ السجين للتخلي عن أفكاره ومبادئه وقيمه، وزرع أفكار وقيم أخرى متطرفة مختلفة عن التي كانت موجودة لدى السجين سابقا، إذ يتم برمجة دماغه لكونه الجهاز العصبي المسؤول عن أغلب الوظائف الحيوية والمعرفية مستغلين الضعف الديني الذي يعيشه السجين. فالقيادات المتطرفة تعمل على شرح بعض النصوص القرآنية والمفاهيم الدينية والقيام بتلاوة بعض الآيات من القرآن وتفسيرها حسب ما يخدم أهواءها ومصالحها. إن معظم الذين انضموا إلى التيارات المتطرفة من السجناء لهم فهم قليل للنصوص الدينية أو القرآنية، والكثير منهم ليس لديه القدرة على قراءة النصوص الدينية وفهم مضمونها أو شرحها. فالقيادات المتطرفة تجعل السجين ينظر إلى الجهاد والعنف على أنه هو الحل الوحيد للخروج من عالم التهميش والإقصاء والعنصرية إلى عالم الرفاهية وإثبات الذات. إذ تعمل على إقناعه بأن الانضمام إليهم والقتال معهم هو جهاد في سبيل الله وفوز بالجنة. كل هذه الضغوطات والإغراءات تولد الاستعداد النفسي والمعرفي للسجين لمعانقة الأفكار المتطرفة والانضمام إلى الجماعات المتطرفة. سياسة الحكومة البلجيكية تجاه السجناء لقد اتخذت (الحكومة البلجيكية مجموعة من الإجراءات الأمنية القصوى، كما سنت مجموعة من القوانين الصارمة تتضمن عقوبات جنائية قاسية لمكافحة انتشار الفكر المتطرف لدى الأشخاص الذين عادوا من مناطق الصراع في سوريا والعراق، أو الأشخاص المتأثرين بالأفكار المتطرفة أو تجاه الأشخاص الذين كانوا يخططون للسفر للالتحاق بصفوف داعش. فبلجيكا (الحكومة البلجيكية) عقدت مناهج أكثر عدوانية وصرامة في حق الأفراد الذين لهم صلة بالإرهاب والتطرف داخل السجون أو داخل مرافق الاحتجاج. إذ عملت هذه الأخيرة على وضع برنامج لمحاربة مشكلة التطرف يسمى (دايراديكس) ويعمل هذا البرنامج على عزل أكثر السجناء تطرفا عن بقية نزلاء السجن والسماح لهم بالتواصل المقيد للغاية مع بعضهم البعض لكن هذا البرنامج لا يسعى إلى نزع التطرف في حد ذاته مدعين بأن السجون غير مجهزة لتغيير إيديولوجيات السجناء عكس فرنسا مثلا التي عملت على إنشاء جهاز للاستخبارات يعمل داخل السجن لاختراق وتفكيك الخلايا الإرهابية. كما يساهم ضعف العملية الإصلاحية داخل السجون البلجيكية في زيادة التحول الراديكالي لدى السجناء وتفشي ظاهرة التطرف داخل الزنازين، فضعف الخبرات في إدارة السجون وإعادة التأهيل التي تبدأ من داخل السجن وما بعدها وقلة خبرة المستشارين الذين يعملون داخل السجون لمساعدة السجناء للعودة إلى المجمع مواطنين أسوياء، قد سمح للجماعات المتطرفة باستقطاب وتجنيد العديد من السجناء. عدم قدرة إدارة السجون البلجيكية على السيطرة عملية إدارة السجون إن ضعف السلطة على السيطرة على إدارة السجون البلجيكية جعلت السجون أرضا خصبا للجماعات المتطرفة بحيث يرى بعض المجرمين من السجناء في التطرف شكلا من أشكال التكفير عما ارتكبوه من جنايات وجنح. فالفساد الذي تعرفه بعض السجون البلجيكية رغم الرقابة من خلال إدخال الهواتف المحمولة للنزلاء بغرض الاتصال الخارجي، أو نقل الرسائل من قبل بعض الحراس أو الضباط أو الموظفين في قطاع الصحة أو المدربين، مقابل المال سهل مأمورية الجماعات المتطرفة على ترويج أفكارها وربط علاقتها واتصالاتها مع العالم الخارجي وتحويل عدد من المجرمين الجنائيين إلى متطرفين داخل السجون. ثم هناك عامل آخر يدفع بالسجين إلى التطرف داخل السجون وهو الحاجة إلى الحماية المادية والأمنية، فالسجين الذي لم يكن له تاريخ متطرف معروف في ظل الفوضى والتهميش والقمع أو ما يعرف بعصابات السجون وعنف السجناء، يلجأ إلى الجماعات المتطرفة لطلب الحماية المادية والأمنية إذ أن أغلب السجناء المنضمين إلى الجماعات المتطرفة أعمارهم بين 20 و30 سنة وأغلبهم يعاني وضعا نفسيا هشا وواقعا ماديا متدهورا. *باحث في القانون العام والعلوم السياسية