لا تثيرُ حصصُ النقل المباشر لجلسات البرلمان، وعن حق، حماسَ المواطنين المغاربة، على نحو يجعلهم يُقبِلون على مشاهدتها ومتابعة ما يروج فيها من مناقشات ومصادقات. وذلك لأن لهم معيارا آخر يقيسون به الأمور: إنه معيار الواقع – واقع الحال الذي يغني عن السؤال والقيل والقال... لكن هذا الفتور الذي يَسِمُ تعاطي المغاربة مع برلمانهم يزول من حين لآخر عندما تلتقط وسائل التواصل الاجتماعي هذه الهفوةَ أو ذاك الانزلاقَ أو التصرفَ المستَغربَ لنائب من "نواب الأمة". وقد أهدى رئيس الفريق الحركي في البرلمان، الأسبوعَ الماضي، واحدة من تلك اللحظات العابرة التي يتذكر فيها المغاربة أن لهم برلمانا؛ فيُقبلون على مشاهدة اللقطة التي تنقل تلك اللحظة بالذات على سبيل الفضول حينا، ومن أجل التنكيت وممارسة السخرية السوداء أحيانا أخرى... وقد كنت واحدا من هؤلاء المغاربة الذين ذكّرهم ممثل الحركة الشعبية في البرلمان بوجود شيء اسمه البرلمان المغربي، يتداول فيه نواب الشعب حول شؤون الشعب بغير لغة من لغات الشعب! ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة! لقد ذكرتني انتفاضة النائب الحركي في وجه النائب الذي كان يلقي سؤاله بالأمازيغية من أجل منعه من مواصلة إلقاء سؤاله بإحدى لغتي المغاربة الرسميتين، بِصرخات المعلمين في وجه التلاميذ الذين تَزِلُّ ألسنتُهم فينطقون بكلمة من كلمات لغة الأم – التي لا يعرفون غيرها في سنوات الدراسة الأولى – أنْ "ماتْهْدرْشْ الشّْلْحة أَلحمارْ". أقول، والحق يُقال، لقد مادت بي الأرضُ وأنا أسمع وأعيد سماع كلام النائب الحركي. فقد انْدَغَمَ في مَسْمَعي صراخُ المعلم الشاتم المهدِّد لنا، ونحن أطفال تجري منا لغة الأم مجرى النَّفَس، وصوتُ النائب وهو ينهَر زميله الناطق بالأمازيغية ويُثنيه، بعصبية وسلطوية، عن مواصلة إلقاء سؤاله بلغة المواطنين الذين يمثلهم. انْدَغَمَ الصراخان الآمِران الناهيان – صراخُ المعلمِ وصراخُ النائبِ – فصارا صرخةً كابوسيةً واحدةً عابرةً لِلْأزمان، رَجْعُ صداها يَطْرُق آذاننا بنفس العنف ونفس الاحتقار. [لازمني وقعُ الصرخة الكابوسية الأولى سنينَ بعد المدرسة الابتدائية فكتبت فيه قصة بعنوان "إضْبيبَنْ نْ يِلَسْ" (أطباء أو مُقَوِّمو اللسان)]. عودة المكبوت فما تفسير هذه السلوكيات من بعض افراد الطبقة السياسية (وفي مجال آخر، من بعض الإعلاميين، حيث لوحظتْ منذ بعض الوقت عودةٌ ملحَّة لعبارات "المغرب العربي"، "البلد العربي"، إلخ، على ألسنة بعضهم) إزاء الأمازيغية؟ جاء في المعجم العالمي للتحليل النفسي: "عودة المكبوت هي العملية التي تَنْزَعُ من خلالها العناصرُ المكبوتةُ، المحفوظةُ في اللاوعي، إلى الظهور من جديد على مستوى الوعي أو السلوك عبر تشكيلات مشتقة يتعذّر التعرف عليها قليلا أو كثيرا. إنها مشتقاتُ اللاوعي [صيغة فرويد]. ومن أمثلتها زلاّتُ اللسان والهفواتُ والأعراضُ". لقد نتجت عن تصاعد وتيرة النضال الأمازيغي خلال العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من الحالي سلسلةٌ من المكاسب لصالح الأمازيغية، بدْءًا من الاعتراف الرمزي المُتَضَمَّن في خطاب أجدير وما تلاه من تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، مرورا بإقرارها لغةً رسميةً في دستور 2011، ثم أخيرا الإفراج عن القانون التنظيمي الموكولُ إليه إِعمالُ الطابع الرسمي للغة الأمازيغية (مع كل التحفظات المسَجَّلَة بخصوص الصيغة الدستورية للاعتراف وغياب صيغ الإلزام عن بنود القانون، وكذا عدم ظهور ثمار تلك المكاسب الرمزية والقانونية على صعيد واقع اللغة الأمازيغية التي تعيش – يا للمفارقة – ركودا، بل تراجعا عما كانت عليه من قبل...). ومهما يكن، فعند كل محطة من ذلك المسلسل كان على ذوي العقلية الاستئصالية أن يكتموا غيضهم ويَكْبِتوا مشاعرَ الإحباط والاستياء إزاء ما يتحقق للأمازيغية من مكاسبَ، مسايَرَةً منهم للاتجاه الذي اتخذته الأمور، وخوفا على مواقعهم إنْ هم تخلفوا عن الركب... لكن التحليل النفسي يعلمنا – كما رأينا – أنه لا بد للمكبوت من الرغبات والنوازع العميقة من أن يعود. وقد يعود أحيانا حيث لا يكون منتظرا، وقد يتخذ أشكالا من السلوك غير عقلانية ولا مفهومة، منها ولا شك الانتفاضةُ غير محسوبة العواقب لرئيس الفريق الحركي في مجلس النواب... وما دمنا بصدد التحليل النفسي أحب أن أذكِّر أصحاب اللاوعي الأيديولوجي المثقل بالمكبوتات السلبية في ما يتعلق بالأمازيغية أن هذا العلم ليس علما وصفيا فحسب، بل هو بَلْوَرَ أدواتٍ وتقنياتٍ علاجيةً يمكنهم أن يستفيدوا منها في استجلاء مكبوتاتهم المعادية للأمازيغية ومعالجتها حتى لا يوقِعَهم لاوَعْيُهُم في "هفوات" و"زلات" لم يعد المواطنون الناطقون باللغة الأمازيغية يتساهلون مع أصحابها. فإلى أرائِكِ التحليل إذن...