لم يعد ممكنا للفرد اليوم ولا للجماعة في المجتمع المغربي أن ينعتق من سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات الاتصال الحديثة، نظرا لكون الثانية بل جزء الثانية أصبح مهما لتحقيق التواصل أو السبق الصحفي والإعلامي وامتلاك المعلومة أو تداول الخبر. هذا بالنسبة إلى من يعتبر هذه الوسائل والوسائط أدوات لمواكبة الرقمنة والتطور التكنولوجي. إلا أن الأغلبية الساحقة منا أضحت زبائن مستهلكة منقادة ومندهشة أمام هذا العالم الغرائبي والعجائبي، تؤدي من قوت يومها لتستمتع بالتفاهة والابتذال الذي أصبح يغزو أجهزتنا التكنولوجية من هواتف ولوحات إلكترونية وتلفزيونات ناقلة وغيرها، هذه الفئة المندهشة تؤدي ثمن تردي الوعي الجمعي، إن لم نقل غيابه وانهيار مؤسسات إنتاج القيم، لتصبح بذلك جيوشا مؤطرة بشكل لاإرادي، تتحرك في كل لحظة يوحى إليها إلكترونيا بذلك في ارتكاز على انفعالاتها الموجهة ولاوعيها المؤطر سلفا لتجسد بذلك شعب الزومبي الافتراضي على أرض الواقع. وهناك فئة ثانية حتى وإن تملكت نزرا يسيرا من الثقافة والوعي ينمي لديها المناعة وأدوات المقاومة، إلا أنها وجدت نفسها قد استنزفت كل قواها في حروب دونكيشوتية دفاعا عن هويتها الثقافية والحضارية في غياب استراتيجية جماعية تتملكها الدولة وتُسلِّح بها المجتمع عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية ووسائل الإعلام كفعل وقائي ضد هذا الهجوم المعلوماتي اللامتناهي غير المنظم وغير المقنن. إنه التسونامي الذي عجل بالتهاوي المطلق وبنهاية الحدود، فأضحى مفهوم الهوية نسبيا ومفهوم الدولة القطرية بحدودها الجغرافية أكثر نسبية وبُشّر الناس بميلاد هويات جديدة كالمواطن العالمي أو الكوني، فانهارت بذلك كل النماذج وتهاوت قلاع القيم. لم يعد الجمال هو ذاك الجمال الذي أسست له الفلسفة الإغريقية ولا المدارس الانطباعية والرومانسية، ولم تعد للتجمعات اللغوية أو الإثنية أو العرقية قيمها الخاصة، اللهم في أذهان شيوخها أوفي كتبها المرصوصة في المكتبات أو على جدران البيوت. لقد تحسر الجيل السابق على تشتت الأسرة الكبيرة والبنيات التقليدية للمجتمع، وها نحن اليوم نرثي الأسر الصغيرة وننتظر الأسر الانشطارية. لقد أصبحت الأسرة اليوم مجموعة أشخاص كل في عالم يغنيه عن الآخر، عائم بل غارق في شاشة على الحائط أو بين يديه، كل يقرأ أمره اليومي بلهفة وانتشاء، تجمعهم جدران البيت وتفرقهم الأهواء والعوالم المقترحة أو المفروضة عليهم، والتي تسلبهم متعة الحديث والنقاش إلى بعضهم البعض أو مجالسة الكتب أو الاستمتاع بمسامرة الجد أو الجدة. هو كذلك حال مجتمعاتنا التي لا تنتج التكنولوجيا ولا المعرفة بقدر ما تُقدّمنا قرابين لصناع الرأي ومُوجهي الجماهير ولتطبيقاتهم الذكية التي نصادق كرها على شروطها، ظنا منا أنها عوالم مخفية وقلاع محصنة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، تبعيتنا التكنولوجية تجعلنا رهائن لدى شركات وتطبيقات وطواقم تبدو قريبة منا وتُشعرنا بامتلاكها، لكنها في الأصل هي من تملكنا وتقتحم صورنا ورسائلنا وخصوصيتنا، فصرنا بذلك مثل العميان العراة في بيوت زجاجية. أولادنا لهم عوالمهم الخاصة وأحاسيسهم التي لم نعد قادرين على قياسها ونماذجهم الافتراضية التي يصنعونها أو تُصنع لهم، وفق خطة وخطاطة محبوكة تحيا وتموت بحسب نسبة تحقق الأهداف المحددة سلفا، فجُعلوا مثل كفار قريش يصنعون آلهة من الحلوى يعبدونها صباحا ويأكلونها مساء، لا عقيدة ولا ثابت لديهم، بل أصبحت لهم أسرهم الخاصة يأتمرون بأمرها وينتهون بنهيها، إذ تجد ابن السابعة أو العاشرة منهمكا في لعبة لحد الانتحار. وتجد الشاب اليافع منغمسا في غيبوبته أو بالأحرى في القوالب المتعددة بتعدد المواقع الجاهزة التي يرتادها، لا يُحدِّث في الواقع أحدا من أقرانه أو من أسرته، هادئا منتشيا بغرقه في اللاعودة. بل الأنكى من ذلك، أن تجد الكهل والشيخ الهرم، وقد انبهر بمقاطع مركبة لم يرها من قبل، تنخر ما تبقى من كينونته الاجتماعية وتهدم في رأسه كل بنائه المعرفي والقيمي الهش، فيصبح مثل الغراب الذي أراد أن يكون حمامة فلا هو بمشيته ولا بمشية الحمامة. إن من مخلفات هذا السّحق الحضاري الموجه والمتجدد في كل لحظة وحين ارتفاع نسبة الجرائم على طريقة مسلسل لاكازا دو بابيل وارتفاع نسبة الأمراض النفسية لدى الأطفال ونسبة الإدمان والتمرد لدى الشباب وارتفاع عدد الأمهات العازبات وتفشي اغتصاب الأطفال وجرائم الأصول وانخفاض نسبة الشعور بالانتماء للدولة القطرية، ناهيك عن ارتفاع نسبة الهجرة اللاواعية في اتجاه دول الشمال وتنامي الإحباط واليأس والسخط وعدم الرضى والانطوائية وارتفاع نسب الانتحار والطلاق والسرقة، مع كثرة البوهميين والمتمردين على مؤسسات التنشئة الاجتماعية وغياب مؤسسات الوساطة، كلها مؤشرات على ظهور مجتمع جديد له كل ملامح البشر بِنية وبشرة، لكن بخيال غريب وطموحات غير مفهومة منفصم عن جذوره الاجتماعية، يهوى أغلاله ويستمتع بالنحت الجاري لدماغه دون إذن منه غاية الاستمتاع، ينتظر بفارغ الصبر ساعة حرق وتدمير أوراقه الثبوتية والهوياتية ليصبح مجتثا بصفة إكس بن إكس دون سبق إصرار ولا ترصد، مجتمع ملجوم يستحق عن جدارة واستحقاق لقب عبيد القرن الواحد والعشرين. *إطار تربوي وجمعوي