يرى الباحث أمين السعيد أنّ الوثيقة الدستورية المغربية ل 29 يوليوز 2011 "ليست وثيقة للانتقال الديمقراطي، وإنما ميثاق لتدبير الفعل الاحتجاجي، يعبر عن موازين القوى التي أفرزتها التحولات المجتمعية، وجعلت من الإصلاح الدستوري مطلبا مهيكلا". ويرى الباحث، في كتابه المعنوَن ب"التّوازن بين السّلطات في النّظام الدّستوري المغربي بين الوثيقة الدّستورية لسنة 2011 والممارسة السياسية"، أنّ دستور 2011 "عمل على التخفيف من ظاهرة اللاتوازن بين الصلاحيات الدستورية التي طبعت الدساتير السابقة، التي يميِّزُها الحضور المركزي للمؤسسة الملكية"، وعمل على تقوية صلاحيات البرلمان والحكومة، عبر ترحيل وتحويل جزء من الصلاحيات الدستورية من خانة المؤسسة الملكية إلى خانة الحكومة والبرلمان، ما يعني أن دستور 2011 ذهب في اتجاه تحقيق توزيع جيد بين السلط ،لا يصل إلى درجة التوازن الحقيقي بالمنطق الرياضي. ويرجِّحُ الكاتب أن تكون السمة البارزة التي وسمت مسار إعداد دستور 2011 هي ما اعتمدته اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، التي تفاعلت مع جميع المكونات السياسية والمجتمعية التي قدمت تصوراتها واقتراحاتها في مجال الإصلاح الدستوري، ثم استدرك بأنّ هذا الانفتاح، رغم أهميّته، "أغرق أجندة الإصلاح الدستوري بمجموعة من الاقتراحات والمطالب الدستورية المتضخمة، بما فيها المطالب التي لا علاقة لها بالنص الدستوري، إضافة إلى جعل المطالب الدستورية تسقط في إشكال الانقسامية والتشتت والتباين أحيانا، وتنزاح عن السؤال المركزي المرتبط بمطلب "الملكية البرلمانية" كشعار مُهَيكِل للساحة المجتمعية. ويذكر السعيد أن "ما بين لحظة بداية توسع الفعل الاحتجاجي لسنة 2011 المنادي بفكرة الملكية البرلمانية، مرورا بالعرض السياسي الذي قدّمه خطاب 9 مارس 2011، وانتهاء بخطاب 17 يونيو 2011 الذي قدم مشروع الدستور بعد نهاية أشغال اللجنة الاستشارية لمرجعة الدستور، اتضح أن روح وفلسفة المشرع الدستوري تجر في حمولتها عناصر النظام البرلماني؛ وهو ما جعل المُشَرِّعَ الدستوري يُفضِّل صياغة دستور شكلي وجامد، أي صلب، وغير مكتمل في مضمونه، ويحتاج أن تصدر القوانين التنظيمية والعادية من أجل توضيح إشكال توزيع السلط". ويوضّح الباحث في العلوم القانونية والسياسية أنّ صياغة دستور 2011، والنقاش العمومي الذي رافق ولادته، "تأثّر بالسياق الإقليمي المُشبَع بالنفس الاحتجاجي الحالم بالتحرر والديمقراطية، وبالرَّفض المجتمعي للأنظمة «الرئاسية»، في حين صدرت القوانين التنظيمية في سياق مخالف يتسم بتعثر بعض التجارب العربية وسقوطها في تطاحنات مسلحة داخليا، أو غموض في بعض النماذج، ما جعل المشرع العادي يصوغ القوانين التنظيمية بنفس رئاسي، مخالف للفلسفة البرلمانية التي زرعت في دستور سنة 2011". واسترسل أمين السعيد موضّحا: "من مفارقات دستور 2011 أنه كتب من لدن مشرعين في سياقين متناقضين؛ مشرع تأسيسي كتب وثيقة دستور 2011 في سياق ذي نفس برلماني؛ يتغذى بخطاب سياسي يرفع شعار "الربيع الديمقراطي"، ومُشَرِّع عاد صاغ القوانين التنظيمية والعادية في سياق سياسي يقوم على فشل الفعل الاحتجاجي، وبرفع شعار "الخريف العربي"". ويؤكّد الباحث أنّ هذه السياقات المتناقضة أثَّرَت في توصيف طبيعة النظام الدستوري المغربي؛ لأنه "رغم الإقرار الدستوري ببرلمانية نظام الحكم الذي تضمنه الفصل الأول من دستور 2011، النّاص في فقرته الأولى على أن "نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية"، فإن القراءة الأفقية للوثيقة الدستورية تفيد بأن المشرع الدستوري قد كرّس "نظاما رئاسيا في علاقة المؤسسة الملكية بالحكومة والبرلمان، وأسس نظاما برلمانيا في مسألة انبثاق مؤسسة رئاسة الحكومة من الحزب المتصدر لأعضاء مجلس النواب، وتنصيب هذا الأخير للحكومة، وهو ما يعني أن العلاقة بين البرلمان والحكومة مؤطرة بآليات النظام البرلماني المُعَقلن". ويسجّل كتاب "التوازن بين السّلطات" أن التعيينات من الناحية الكمية أضحت تتفوق فيها الحكومة على الملك بأكثر من 1840 منصبا، في حين تتميز المؤسسة الملكية بتفوقها النوعي والإستراتيجي على التعيينات التي يمكن وصفها بالحيوية، والتي تصل إلى قرابة 50 منصبا. ويذكر المصدر نفسه أن الصلاحيات التشريعية الملكية عُدَّت من المجالات التي خضعت لتقييد شبه شامل، إذ أصبحت للملك صلاحية التشريع، بقوة الدستور، في المجال الديني، وفي جزء من المجال العسكري. وأضحى البرلمان، كأصل عام، يحتكر السلطة التشريعية من حيث المبادرة في اقتراح القوانين، كما فتح المُشَرِّعُ الدستوري الباب للحكومة، لتُشَرِّعَ إلى جانب البرلمان من خلال مشاريع قوانين، غير أن "العقلنة البرلمانية" مكنت الحكومة من تذويب المبادرات التشريعية البرلمانية، وجعلت الممارسة العمليةُ الحكومةَ تستأثر بالمبادرة التشريعية، بسبب هيمنتها على أغلبيتها داخل مجلس النواب. ومن بين ما يستخلصه الكتاب، من خلال قراءة ما أظهرته الممارسة العملية في الولاية التّشريعية التاسعة الممتدّة ما بين سنوات 2012 و2016، تراجع وضعف تأثير الخطب الملكية المتعلقة بافتتاح الدورات التشريعية على توجهات البرلمان والحكومة، وهو ما يرى أنّه "يقود إلى تحول كبير على مستوى استقلالية المشرع في تحديد التوجهات التشريعية الكبرى". ويؤكد الكاتب أنّ "بعض الصلاحيات الملكية ظلّت محصنة، وتحمل في طياتها عمق التجذر الرئاسي للنظام الدستوري المغربي، وهو ما يتعلق بالسلطات التقديرية الدستورية غير المقيدة على مستوى النص الدستوري: في الإعلان عن حالة الاستثناء، وحل البرلمان أو أحد مجلسيه، وإعفاء بعض أعضاء الحكومة، وقبول الوزراء المقترحين من لدن رئيس الحكومة، وتعيين رؤساء وأعضاء المجالس والمؤسسات والهيئات المنصوص عليها في الدستور دون التقيد بأجل دستوري معين، وعقد الاجتماعات التي يترأسها الملك، كالمجلس العلمي والمجلس الوزاري والمجلس الأعلى للأمن، إضافة إلى السلطة التقديرية لعقد جلسات العمل ودعوة بعض الوزراء لحضور أشغالها". ويذكر أمين السعيد أن دستور 2011 "يتضمّن تمييزا بين الصلاحية الدينية للملك، باعتباره أميرا للمؤمنين، وبين صلاحياته الدستورية باعتباره رئيسا للدولة، ولكن من الناحية العملية "يتعذر فصل المجالين المتداخلين؛ كما أن الفصل 42 من الدستور ذاته أحدث مفاهيم جديدة قابلة للتأويل والتفسير، من قبيل: الحكم الأسمى بين المؤسسات الدستورية، وصيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، واحترام التعهدات الدولية للمملكة". ويرى الكاتب أنّ "التعزيز الدستوري لمكانة البرلمان لا يوازيه تعزيز على مستوى الممارسة العملية"، واستحضر الممارسة التطبيقية خلال الولاية التشريعية التاسعة، واستمرار "أطروحة البرلمان مشرّع استثنائي"، بمصادقته على واحد وعشرين قانونا فقط بمبادرة برلمانية، في حين صادق على ثلاثمائة وأربعين قانونا بمبادرة حكومية". وعلّق الباحث على هذا بالقول: "لا شك أن هذه الحصيلة تعكس بشكل جلي حجم الضعف البرلماني في الشق المتعلق بالمبادرة التشريعية، وهو ما يوضّح ترسخ آليات العقلنة البرلمانية، رغم التصحيحات الدستورية لهذه العقلنة "شبه المتطرفة""، مضيفا: "لعلَّ المفارقة التي ميزت العمل البرلماني هي التي تتعلَّق بالتصاعد الكبير لعدد الأسئلة، خاصة منها الشفوية، وهو ما يبرز قوة العمل البرلماني في نقل القضايا المجتمعية إلى حلبة النقاش العمومي، دون أن يحظى هذا الارتفاع الكمي بتجاوب حكومي، إذ لا تلتزم الحكومة بالإجابة عن الأسئلة البرلمانية داخل الأجل الدستوري المحدّد في عشرين يوما". ويرى السعيد أنّ الممارسة السياسية العملية أظهرت ما بين سنة 2011 وسنة 2018 أن "المؤسسة الملكية احترمت بنود الدستور خاصة الشق التشريعي"، في حين "عرف الشق التنفيذي بعض الانزلاقات عن فلسفة روح الدستور، وخاصة في بعض القضايا المتعلقة بعقد أول جلسة عمل سنة 2012 بدون حضور رئيس الحكومة، ومسألة إعفاء رئيس الحكومة بعد تعذر تشكيل الحكومة المنبثقة عن تشريعيات 2016، التي خلقَت جدلا داخل الفقه الدستوري؛ بين توجه يعتبر أنَّ المؤسسة الملكية تتوفر على العديد من الاختيارات التي يتضمنها النص الدستوري لإعفاء رئيس الحكومة، وتوَجُّه ثان اعتبر أنّ هذا الإجراء يبتعد عن منطوق الدستور". كما أكّد الباحث في القانون والعلوم السياسية أن نمط الاقتراع يُسهِم في إضعاف رئيس الحكومة الذي يبقى دائما خاضعا لطبيعة التحالفات التي تتحكم في مصير الأغلبية الحكومية، وضغوط القوى السياسية في المغرب؛ وهو ما يؤثر على تركيبة الحكومة، وتناقض مكوناتها التي تضم أحزابا غير منسجمة على مستوى بناء البرنامج الحكومي، وصياغة السياسات العمومية.