كان من المفترض أن أعنون هذا المقال بما هو متعارف عليه وبما تربينا عليه من دعاء نابع من وطنية صادقة تتجلى في القول المأثور "لك الله يا وطني"، ولكن ما اهتدينا إليه اليوم من عنوان لا يختلف في الوجدان وفي الإخلاص عن ذلك الذي كان ينبغي أن يكون. فالولاء لجلالة الملك هو في منزلة الولاء للوطن. والله مع الوطن كما هو قلب حاكم هذا البلد حينما ينادي شعبه "بالعزيز". وما دون غير جلالته لن يكون مؤهلا ولا جديرا بالاحترام إلا إذا شهدت عنه أعماله من تقوى وتذكر وهداية. ولعل ما حملني على هذه الكتابة سوى حبي لوطني ولملكي، ومن ذلك الحب تحرك الإحساس بالغيرة على هذا البلد الذي يفترض فيه أن يكون وطنا للجميع وحاضنا للجميع لا فرق بين فقيره ولا غنيه. ولم أبلغ درجة من السذاجة حتى أوهم النفس بالدعوة إلى المساواة في كل شيء اعتقادا مني أن ذلك لن يتأتى إلا أمام الحق سبحانه. ومادام الأمر كذلك فإنه من حق المرء أن ينشد تصيبه من الحقوق في العيش بما يضمن له كرامته كمواطن ليكبر فيه الإحساس بالانتماء إلى هذا الوطن. قالها جلالته ورددها في عدة مناسبات أن السياسات العمومية يجب أن تتخذ من الإنسان وسيلة وهدفا، بل أكثر من ذلك وجه جلالة الملك رسائل واضحة للقائمين على تدبير الشأن العام، لا تقبل التأويل ولا تقبل التماطل، ومفادها أن ولاء المغربي لبلده رهين بصون كرامته أي بمدى تمتعه بكل مقومات العيش الكريم الذي يليق بآدميته من حقوق أساسية في الشغل والسكن والتعليم والصحة والعدل. وهي حقوق مازال المواطن المغربي يفتقر إليها ومحروم منها. لا حديث اليوم عن التوجهات السامية فهي بدون شك تلتقي مع تطلعات الشعب، وما يعبر عنه جلالته هو لسان حال كل المغاربة، لكن أين هو الإشكال ما دام رأس الهرم في النظام على توافق تام مع قاعدته. واقع الحال إذن ليس كما أتوخاه أنا ولا أنت ولا ذاك الذي قلبه على وطنه خشية من ربه وحرصا على إظهار نظامه نظاما عادلا اليوم وغدا. فالملكية في المغرب صيرورة تاريخية تستمد استمراريتها من عدالة الحكم فيها وهذا هو هاجس ملك، فيما البقية الباقية لا تحمل هذا الهم الذي يحمله حاكم البلاد. هوسها الظفر بالمناصب وتحقيق مزيد من المكاسب على حساب مصلحة الشعب. السياسات العمومية في بلادنا مبنية على نهب الخيرات والاستئثار بالثروات وتهريبها إلى الخارج. تقاسم "الوزيعة" في هذا البلد غالبا ما يتم بشكل أفقي من خلال خلق شبكة من المصالح المتبادلة إما عبر النسب أو المصاهرة أو عبر تنظيمات تسمى مزاجا بالأحزاب تلتقي فيها مصالح فئات معينة للوصول إلى السلطة، لا فرق فيها بين من يدعى بالإسلامي أو الليبرالي أو اليساري. وبالأمس كان الجميع شاهد عيان على دناءة مستوياتهم بالتقاذف في ما بينهم بألفاظ سوقية يستحيي معها أن يخطر ببالك أن هؤلاء الصعاليك يتخاصمون على أن يحكموا أبناء هذا الشعب الذي استرخصوه ومرغوا كرامته. الإشكالية إذن تكمن في الطبقة السياسية، وهي طبقة متعفنة ذات رائحة نتنة أزكمت الأنوف. طبقة وإن تباينت مشاربها فهي من طينة واحدة يتساوى في ذلك الديماغوجي الإسلامي الذي يكذب باسم الدين ويكذب بالدين ولا يحض على طعام المسكين تاركا ذاك المغربي تائها في رياض الفردوس الموعود بحور العين، بينما ذاك المنافق المرشد المهرج ياتيه الخير من كل فج عميق لينعم في النعيم من حيث لا يحتسب، وكذلك الليبرالي ومعه اليساري يبيعان سلة من حقوق الوهم لمغاربة فقدوا الثقة في كل شيء. خطورة الوضع تتجلى في أزمة الثقة التي طالت كل دواليب الدولة من إدارة مركزية وجهوية ومحلية. الشعارات كبيرة نرفعها لنرفع التحدي في مجال الحريات والديمقراطيات الوطنية والمحلية. ولعلنا في ذلك نقدم النموذج في كل ما هو شفوي أو مرتبط بالنص، لكن تنزيلها على أرض الواقع يصطدم بعقليات تعارض بشراسة أي انفتاح أو أي تغيير من أجل تحسين وضعية المغاربة وبالتالي تقوية الإحساس والاعتزاز بالمواطنة. فالوثيقة الدستورية على أهميتها السياسية والحقوقية والقانونية، قل نظيرها في العالم العربي، تبقى بدون مدلول ولا معنى. فالقانون الأساسي الذي يتحدث عن ربط المسؤولية بالمحاسبة حاملا معه بشرى للمغاربة من حيث المفهوم الجديد للسلطة، لم يغير من ذاك الواقع ولو قيد أنملة. فالمسؤولية موجودة وقائمة والمحاسبة سيف مسلط على رقبة من لا حماية له، كما هي سيف لا يفارق غمضه عن أولئك الذين لا يطالهم القلم. تقارير بالغة الخطورة كشفت عن نهب المال العام استبشر بها المغاربة خيرا ببزوغ فجر جديد سرعان ما خاب ظنهم بعد أن تبدى لهم أن عتمة الليل جاثمة كما هي. ننتظر صياح الديك إيذانا بالفجر، مات الديك وشدا لهم الغراب رأيناه غرابا وتراءى لهم طاووسا يزهو بريشه المنفوخ من فوق المئذنة. تدبير الشأن المحلي لا يختلف عن تدبير الشأن المركزي من حيث الخروقات والتجاوزات، فكلاهما تحكمه عقلية واحدة، عقلية مفعمة بالغطرسة والتجبر والتحكم في رقاب الناس. القائمون على الشأن المحلي يرون في أنفسهم الناهون والآمرون بحسب ما تمليه أهواؤهم ومزاجهم وليس بحسب ما تمليه عليهم ظروف الحياة والعيش للساكنة وحاجياتها. لك أن تختار أي رئيس في جماعة من الجماعات المحلية، إلا من رحم الله وخشي يوم الرجوع إلى ربه، تجده يتسيد مزرعته الانتخابية ويعتبرها ملكا له لخدمة حاجياته ونزواته غصبا عن الجميع. منهم من يذكرنا في تعامله مع الساكنة بذلك الإقطاعي الذي يسخر البشر في نظام من العبودية ونحن في قرن كنا نعتقد أن زمانه قد ولى وأدبر. وقد نستحيي من أنفسنا إن نحن أتينا على ذكر بعض التجاوزات المشينة والمهينة يقترفها من له نفوذ وسلطة في حق البسطاء من الناس، وخشية منه واتقاء شره يجلونه ويضعونه في مقام ومنزلة حاكم هذا البلد. هذه حقائق على أرض الواقع ولا نبتغي منها التجني على أحد. وإذ الوضعية كما أريد لها أن تكون وتبقى كما هي، فمن الصعب في ظل هكذا عقليات بائدة تصور إحداث تغيير في الاتجاه الذي يرسمه ويخطط له ملك البلاد. فكل منطقة لها "ملكها" يحكمها ويقرر مصيرها وينفذ ما يريد ويمتنع عن الذي لا ترضاه أو تشتهيه نفسه الأمارة بالسوء. عديدة هي المشاريع التي تثيرها الخطب الملكية السامية والتي تلتقي مع انشغالات الشعب، لكنها لا تعرف طريقها نحو التنفيذ بسبب تلكؤ في مكان ما يعتري السياسات المشبوهة والمتبعة على الصعيد المحلي. وغالبا ما يبرر ذلك التلكؤ بغياب ميزانيات مرصودة أو بأسباب واهية تحت طائلة إما الدفع بعدم الاختصاص أو تحت طائلة تنازع الاختصاصات بين الجهات المحلية والإقليمية الممثلة للسلطة المركزية من عمالات وغيرها أو تلك الهيئات المنتخبة من مجالس إقليمية أو جماعات محلية. وواقع الحال يوحي بأن مصالح الساكنة باتت في مهب الرياح مع غياب رقابة على الهيئات المنتخبة سواء من طرف سلطات الوصاية أو من قبل الهيئة الناخبة التي ينتهي دورها مع كل موسم انتخابي. المواطن الضحية هو الذي يؤدي ثمن هذه الرعونة وهذا الاستخفاف بمصالح الناس والمتبع من طرف العديد من المجالس المحلية التي يرفض رؤساؤها على عينيك أبنعدي إشراك الساكنة في الاطلاع ومعرفة السياسات التي تخص قضاياهم اليومية بحجة أن سيادة الرئيس ارتأى نظره السديد أن تكون الدورة السنوية للمجلس دورة سرية غصبا عن القوانين المنظمة التي تعطي الحق للساكنة في الحضور. المعادلة المغربية منقسمة بين قيادة متنورة حداثية تنشد الإصلاح في شموليته وشعب متعطش متشبث ومؤمن أشد الإيمان بملكيته لأنها ملكية ثورية، وما بين طبقة سياسية تتماهى ظاهريا مع دعوات ملك مصلح وتبدي من فروض الولاء والطاعة إلى حد الخنوع، لكن سرعان ما تغادر بهو القصر لتتنكر لأغلظ الأيمان وتتحول إلى الحرباء لتعمل كالخفافيش في الظلام بما يعاكس التوجهات السامية وتقف حجر عثرة في وجه التطلعات المشروعة للشعب. إذن نحن أمام مشهد سياسي معقد: القانون فيه لا يعتد به. كما أن المحسوبية هي العملة الرائجة في قانون السير وفي المحاكم وفي الصفقات والبقية في علم من يكتوي بها في كل لحظة وحين. فما هو السبيل يا ترى للخروج من هذا المأزق. سؤال محير والجواب عنه ليس بالسهولة التي يمكن تصورها لأن التركيبة الفكرية والمنظومة الثقافية التي يوجد عليها المجتمع المغربي لا تسعفك في إيجاد الحلول التي يمكن التراضي بشأنها بسبب العقلية السائدة التي لا تقبل بمنطق الأخذ والعطاء في إطار تدبير الشأن العام. هذا الأخير محكوم بخلطة من العواطف والأهواء تتأرجح ما بين حب التملك والانتقام والكيدية بما يرفس صدور أولئك الذين يعتبرونهم بقوم الحثالة، وذلك بعيدا عن الاحتكام إلى القانون. فالأمر يوحي وكأننا لسنا أمام دولة تحترم قوانينها. المطلوب إذن إظهار الصرامة لاحترام القانون واعتباره فوق الجميع والضرب بقوة على يد من يرى نفسه فوقه. وإن استطعنا أن نحقق ذلك فستكون الخطوة الأولى باتجاه إصلاح حقيقي. لكن هل نحن قادرون على فعل ذلك. فلعلها حكاية أخرى في مسلسل من المهانة والذل يضرب كل يوم موعدا مع المغاربة. فلك الله ولك الملك يا وطني.