من قناة الجزيرة حتى أحداث العيون أصبح من السهولة بمكان أن تقرأ الأحداث العاصفة بالمغرب اليوم انطلاقا من وجهتي نظر تبتعدان في الشكل لكنهما تنتميان إلى المنطق نفسه. فثمة من يرى في تلك الأحداث وقائع تتجاوز السياسة المغربية التي باتت في وضعية ارتباك تام لا تحسن أن تقدم أو تؤخر في شيء حيال ما يجري، كما لو كان مدبرو ملفاتها يلعبون الورق في ذروة المواجهة. أما الطرف الآخر، فربما اعتبر تلك من صنائع السياسة المغربية نفسها وافتعالها لكل الأحداث. قسم ينزل بالسياسة المغربية إلى منزلة العدمية وقسم يرقى بها إلى أوج التدبير والتحكم بالوقائع. يظل العامل المشترك بين القرائتين أنهما تجريان بأثر رجعي ، قراءة الحدث بالمقلوب بعد أن تظهر نتائجه. وفي اعتقادي أن الطريقتين وإن حملتا جوانب من تلك الحقيقة، إلا أنهما وجهتان للنظر لا يمكن أن ينتظر شيء مهم من ورائهما ، لأنهما في نهاية المطاف هما منتج لتحليل نمطي ثابت يرسم العدمية مسبقا حول كل حدث أو يبسط قواعد التآمر المسبق حول كل حدث. بين العدمية ونظرية المؤامرة لا نقف على تحليل حقيقي، بل نقف على مجرد تصريف مواقف ثابتة وتبرير انعدام الحد الأدنى من الشفافية في التدبير. والواقع أن ثمة أوضاعا حقيقية يواجهها المغرب ويدير أزمتها في ظروف معقدة وصعبة ، يكفي أنه يواجه خصوما عتاة ضد الوحدة الترابية المغربية يتحركون غربا وشرقا ؛ ينجح في بعضها ويعجز في بعضها الآخر. إنه يتصرف بإمكاناته التي لا تخلوا أحيانا من ذكاء كما لا تخلوا أحيانا أخرى من سوء تدبير. وهذا هو حال الدول وسنة العمران البشري. فالتوازن المفقود في قراءة الأحداث يضعنا أمام حالة من الحيرة يخرج منها الإنسان وهو يلعن السياسة كما لعنها ذات مرة الشيخ محمد عبده الذي لم ير فيها إلا معاني يقذف بها الاشتقاق اللغوي بدء من ساس يسوس حتى وسوس. فتبدو التحليلات وفق النهجين المذكورين، إما تجريما سافرا للسياسة المغربية أو تهوينا منها إلى حد أن يتأستذ عليها كل من سولت له نفسه التحليل. وسنقف على جانب من ذلك من خلال منع قناة الجزيرة وأحداث العيون وغيرها من الحوادث المتداخلة بما في ذلك التوتر الذي شهدته العلاقة بين المغرب والجزائر وإسبانيا عشية الأحداث الأخيرة في الصحراء. المغرب والجزيرة كنت على وشك الخروج من بوابة المطار ، قبل أن يعترضني ذات مرّة رجل أمن قطري صغير (في السن والرتبة معا) ليسألني ماذا تحمل في محفظتك. فعل هذا وهو يعبث برجليه المتدليتين من فوق الكرسي. سؤال موجه إليّ شخصيا دون باقي المسافرين. لم أحتاج إلى مزيد من الوقت لكي أتعرف من خلال القسمات الطفولية لهذا الرجل على علامات العبثية في سؤاله الذي فهمت منه أنه يريد إقناعي بهيبته التي لم أعبأ بها أثناء مروري. كان الحديث كالتالي، وقد أجبته: فيها كتب زين ، وويش الكتب دي؟ كتب، ما باعرف شو أعرّفها أكثر من هيك .. كتب وبس ما افهمت عليّ شو بدي أفهم عليك أكثر من هيك كرر السؤال وكررت الجواب. قلت له: هي كتبي.. أتفهم أنا مؤلفها .. لا أحد في العالم له الحق في أن يحمل كتبي أكثر مني .. أتفهم.. لتكن ما تكون ، لكنها كتبي قد تكون كتب ممنوعة؟ أعندكم في هذا البلد كتب ممنوعة.. إذن حكاية الجزيرة والاتجاه المعاكس مجرد خراط في خراط.. شو هي الكتب الممنوعة عندكم وغير الممنوعة؟ ما عندنا مشكل إذا كانت كتب دينية ، المهم أن لا تكون كتب سياسية مثلا هاي كتبي، هم هي سياسية و دينية، وهم خطيرة كمان.. افتح الشنطايا اريد أشوف بس شو راح يعرّفك أنو هي نفس الكتب الممنوعة .. لقد ذكرتني حكايتك في سبعينيات زماننا العربي الكبيس لما كانت كلمة سياسة تخيف الغادي والبادي.. هل أنت لست سياسيا.. لا أحد يا ابن الحلال خارج السياسة .. عموما لا أدري إن كنا في قطر الجزيرة والاتجاه المعاكس أم في مشهد من مشاهد : "كاسك يا وطن".. أمام إصراره الصغير وعناده الذي حاول أن يمارس من خلاله سلطة منتفخة مثل انتفاخ بطنه، قمت على طريقتي فأفرغت المحفظة مثل كيس خضار بين يديه.. أدرك بأنني غاضب من طريقته المتخلفة كما أدرك أنني أسخر منه.. انتهت القصة وغادرت .. لكنني لم أحقد على قطر ولا على الجزيرة بل كرهت زماننا العربي كله. فالحكاية لا تقف عند مثال هذه المشكلة الصغيرة بحجم العقل العربي، بل مثل رجل الأمن القطري هذا كثير وهو يعكس ثقافة سياسية عربية توجد في كل قطر عربي بتفاوت لا يفسد في الود قضية. لكنني اعتبرت ذلك النزاع معه أفضل من أن يبتلى المرء بالاصطفاف أمام صم وبكم من الموظفين الهنود والبانغلاديش في الجمارك القطرية وفي باقي مصالح المطار الدولي كأنك خارج البلاد العربية. ليست قناة الجزيرة وحدها التي تستقبل موظفيها من خارج البلد ، بل تلك سيرتها في كل المصالح حتى المارة قلّما تجد منهم لابسي "العقال". اللهم لا عنصرية ، ولكن لنعترف قليلا أن قناة الجزيرة وحدها الإنجاز العربي في قطر ، لأنها لا زالت بمنأى عن الإغراق الهندي؛ من يدري هل سيستمر الوضع على هذا الحال ، أم أن الجزيرة ستعبر الحدود ولن تهتم بقضايا العرب متى تعرضت للاجتياح غير العربي. صادفت ذات مرّة في عين المكان الكوميدي المغربي الناصري . لم أجد أحدا أشكو إليه الفوضى العارمة في هذا المطار. قلت له : هل نحن في مطار عربي أم في مطار بانكلاديشي.. انظر لا أحد يحكي عربي؟ كنت أنتظر أن أتعرف على المشهد من خلال تشخيص مسرحي كوميدي للناصري، لكن عبثا. هل صناع الكوميديا عندنا يخشون هم أيضا إن هم فعلوها أن لا يعبروا مجددا من قطر. هذا المشهد يضعنا أمام هذه الجزيرة الصغيرة التي تشبه باقي البلاد العربية ولا شيء فيها مغري. لا أنوي هنا الإساءة إلى قطر وقطع الجسور مع دولة عربية كما يفعل بعضنا هذه الأيام بإسراف كما لو لم تكن قطر دولة عربية شقيقة وكما لو أن قطر أعلنت علينا الحرب كما فهمنا من سلوك قناة الجزيرة التي نعتبرها قناة مخترقة اختراقا لا عهد به لا على النظام القطري ولا على الكثير من عناصر طاقمها الإعلامي ، بل هذا حالها الذي ليس بدعا في واقعنا العربي. لقد جلبت الجزيرة على قطر الكثير من الانتباه والمجد الافتراضي، لكنها أيضا جرّت عليها الكثير من الإساءة. حكايتي هذه تعني أننا في بلد لا يحسن أن يقدم دروسا في اللياقة السياسية والثقافية والاجتماعية للدول العربية الأخرى. لكن من يعرف قطر يدرك أننا في محطة أو ورش كبير لصناعة النفط والإعلام والسياسة ليس أكثر. خلال السنوات القليلة الماضية عرفت العلاقة بين المغرب والجزيرة كثيرا من المدّ والجزر. شيء ما يقول أن الطرفين معا مغرمان ببعضهما لكنه غرام مزعج بعض الأحيان يتطلب هجرانا مؤقتا. لكن ما يبدو حتى الآن أن هناك من يريد أن يبلغ بالجرح إلى حدود اللاّعودة. بينما المطلوب: اكره عدوك هونا ما عسى أن يصبح صديقك يوما ما. قد يرى البعض أن الموقف من الجزيرة جاء مرتبكا وأضاف مشكلة إلى المغرب هو في غنى عنها. لكن آخرين قد يعتبرون ذلك تدبيرا احترازيا استشعر خطر الجزيرة في أحداث الصحراء كتلك التي حدثت سابقا في سيدي افني. من نصدق يا ترى؟ إنه يصعب على المنصف أن ينظر إلى الجزيرة بأنها مشروع صغير يمكن أن ترده عبارة أو عبارتين متخشبتين من مسؤول هنا أو هناك. فالجزيرة هي إمبراطورية إعلامية وظفت فيها إمكانات هائلة استطاعت أن تهزم الإعلام الأخطبوطي للمملكة العربية السعودية. هذه الأخيرة التي حاولت أن تجعل من قناة العربية غريما حقيقيا للجزيرة عبثا. وتكمن قوتها في أنها أخطبوط مترامي الأطراف لا يمكن اعتماد إستراتيجية محلية أو خاصة لمواجهته، لأنه يستقطب أساسا في إدارته الإعلامية خليطا من العرب من ذوي الكفاءات والخبرات وحتى غير الخبرات. فقوة الجزيرة تكمن في وجود إعلاميين مصريين وعراقيين وسوريين ولبنانيين وفلسطينيين وعراقيين وتونسيين وجزائريين ومغاربة أيضا؛ إنه إعلام الجامعة العربية الذي يستقوي بالشعبوية في كثير من أدائه لكنها ليست الشعبوية دائما: علينا أن لا ننسى أن طاقمها المؤسس هو خريج البي بي سي البريطانية. أي كل العرب يجدون أنفسهم ممثلين فيها. الجزيرة إذن هي خليط شعوب وقبائل إن حاولت مواجهتها بمنطق العصبية والقبيلة فستجد دمك موزعا بين القبائل ولن تستطيع أن تدين رأس الحربة. حتى الحرية الإعلامية التي تفتخر بها الجزيرة هي من جنس الحرية القبلية التي تعني أن توقّر شيخ القبيلة ولك بعد ذلك أن تهجو ما بدا لك من كل الدنيا ومنتهى العالم. فقد تجد في كافة الأقطار العربية بمن فيها المتهمة بالتضييق على الإعلام والصناعة الإعلامية من يمتلك أن يهجو ساسته ويكشف عن وجهة نظره، لكن في الجزيرة لن تقف على شيء من هذا القبيل. وكأن الجزيرة هي مملكة الشمس التي لا نظام لديها ولا مجتمع ولا مشاكل ولا أزمات؛ كأنها نبتة افتراضية وشبكة ظلّية تقع في اللازمان واللاّمكان. ستظل تلك من أهم الملاحظات التي تؤكد على أننا أمام مشروع سياسة إعلامية مزدوجة تحمل من أوزار العقل العربي ونقائضه الكثير؛ فليس في القنافذ أملس. ومشكلة أخرى ستظل تشكو منها الجزيرة وربما قد تكون سببا في تفجر وضعها الداخلي كما تسرب وجه من تلك المشاكل في الآونة الأخيرة، هي أنها سوق إعلامي مفتوح لكل الإعلاميين العرب. وليس كل من اندس في جسم الجزيرة هو بالضرورة مهني أو على الأقل يحمل ولاء خالصا للقناة وليس لجهة خارجية. فكثيرة هي الدول التي اهتدت إلى أن لا طريق للسيطرة على الجزيرة واحتواء شقاوتها الإعلامية إلا باختراقها واستعمالها في الحد الأدنى. بل حتى الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تمتلك أكبر مخازن السلاح في قطر لم تستطع أن تلوي ذراع الجزيرة حيث قصفت في أفغانستان مكتبها كما اعتقلت مصورها في غوانتانامو. لكنها لم تخض حربا ضد قطر باعتبارها حاضن الجزيرة. فللولايات المتحدةالأمريكية أيضا من يمثلها داخل سوق الجزيرة وثمة من الخدمات الموضوعية ما تقدمها الجزيرة للولايات المتحدةالأمريكية. إن قطر لا تقبل التعرض للجزيرة كما قد تقبل كل الصفقات من جنس آخر. لأنها تدرك أن حدودها السياسية ومجدها وسيادتها تكمن في الجزيرة. إن أي عطب يصيب الجزيرة هو بمثابة انهيار الأسطورة القطرية المعاصرة. ويبدو أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تدرك ذلك ، لهذا ضربت الجزيرة مباشرة ولم تسيء إلى قطر. ولا شيء من هذا كله يجعلنا نسلم بأن غير الجزيرة من القنوات العربية يستطيع أن يزايد عليها في الموضوعية أو حرية التعبير أو التوزيع المتكافئ للفرص بين أبنائها. كما لا يخال مطلع أن قناة الجزيرة لا تعيش على هذا الاختراق. وهو اختراق متعدد الجهات، وهو ما يظهر التردد والتعدد في المآزق الذي يجعل الجزيرة مدانة في كثير من الأوقات من قبل اليمين العربي ويساره. فالكل يملك أن يصرف مواقفه من خلال الجزيرة. نتساءل إن كنا نحن المغاربة قد اهتدينا كغيرنا إلى هذه الحقيقة التي لا أعتقد أن أحدا يجهلها في الصميم ، لكي يبقى السؤال الحقيقي : ما الدور الذي يؤديه مغاربة الجزيرة إذن وهل سنتحدث عن مغاربة يجب أن يكونوا وحدهم طيبين وأوفياء وحدهم للمهنية داخل قبيلة إعلامية متحيزة أم الأمر يتعلق بأمر آخر لا نعرفه؟! وهل المعنيون بالأمر استطاعوا أن يجدوا لهم طريقا إلى الجزيرة لخدمة رسالتهم بين الفرقاء . ربما أمكن لبعض الإسلاميين المغاربة من حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية وغيرهم أن يخترقوا الجزيرة ويمرروا من خلالها الكثير من مواقفهم. وهو اختراق خدم مصالح الحركة والحزب ولكنه لم يخدم مصالح البلد. فالجزيرة ليست قناة، بل هي كما قلنا مملكة يجب أن يقيم كل بلد سفارته داخل أروقتها لرعاية مصالحه. ومشكلة أخرى ستظل تشكوا منها الجزيرة وهو ما يتعلق بازدواجية الموقف الإعلامي من مسألة التطبيع. فبينما هي تدعوا لمواجهة التطبيع تستقبل آراء المسئولين الإسرائليين على شاشتها ، ما يعني أنها أول من يخرق سياسة ضد التطبيع مع هذا الكيان. بتعبير آخر إنها تفعل ما تهجوه عند الدول العربية. وهذا أمر ليست قطر وحدها بدعا فيه لكنها حينما تلبس أكبر من حجمها تثير إليها الأنظار كثيرا. ووحدهم المغاربة يتذكرون حكاية "يوسف يمثل أبيه" منذ الطفولة؛ حكاية الطفل الذي يلبس معطف أبيه وحذائه وقبعته. هي حالة كاريكاتورية ليس بسبب انعدام جودة اللباس ولا بسبب انعدام كمال خلقة الولد؛ لكن المسألة تتعلق بخلل في المناسبة. إن الأبناء لا يمارسون الأبوة على إخوانهم فضلا عن أن يمارسوها على آبائهم. وحتى لا نفقد صوابنا ، فإن الآباء حينما يفتقدون لخصائص الأبوة أيضا، يشجعون الأولاد على تقمص أدوارهم؛ إنها حكاية مصر العجوز التي تخلت عن دورها القومي كما هي حكاية كل العرب الذين ضيقوا على الحريات حتى سمحوا لقبيلة الجزيرة أن تصبح (بي بي سي) العالم العربي. ويجب أن نعترف بنجاح دويلة قطر وهي كذلك دويلة لأنه لم يعد ينفع العالم العربي أن يكون متضخم الجغرافيا حتى ينتصر ويصنع مجده أنها أجادت فنّ التعويض ، لتحقق أمبراطوريتها الافتراضية التي جعلتها قادرة على التصرف والتدخل ولعب أدوار أكبر من حجمها التاريخي والجغرافي. لماذا دائما وجب أن نخفي الحقائق ونمتنع عن الاعتراف بالنجاح؟! ومشكلة أخرى ستظل تشكوا منها الجزيرة، وهو ما يتعلق بالموضوعية والمهنية. هناك بلا شك إعلاميون ذووا كفاءات عالية: على الأقل لن أفضل أداء إخباريا لزدي مصطفى العلوي على أداء أصغر إعلامي في الجزيرة. لكن هم غارقون في مشروع أطغاه واقع التضخم في سيطرته الإعلامية مما جعله يدخل هو الآخر في سكر القوة ويتناسى المهنية التي جرّت الكثير من المتاعب على مكاتبه وعلى موظفيه. ويكفي هذا الطغيان دليلا على أن الجزيرة ستنتهي كما سينتهي حال كل الأمبراطوريات بمجرد أن تجتاح شمس الحرية هذه اليابسة العربية. لم أجد طريقة أمثل لإحراج قطر وجزيرتها أكثر من أن تسعى التلفزيونات العربية إلى فتح مكاتبها بالدوحة، ثم القيام بنشاطات إعلامية من المستوى الذي تقوم به الجزيرة في بلدان عربية كثيرة، ثم ينتظروا ردة الفعل القطرية. وهناك فقط يستطيعون إحراج قطر بدل الاحتجاج عليها من قنوات غير معروفة وغير مسموعة ولا تعادل ميزانيتها ثمن وصلة إشهارية في قناة الجزيرة. وأيضا ولكي نكون صرحاء ، ليس الموضوع هنا موضوع إمكانات مادية ، فثمة جانب آخر يشكل مصدر قوة الجزيرة هو كفاءات الإعلاميين وتنوعهم وحجمهم وتقنيات الصناعة الإعلامية والإرادة السياسية للمسؤولين. فلو كانت الإمكانات المادية وحدها وراء قوة الجزيرة لكان أمكن للمملكة السعودية منذ سنوات سحب البساط من تحت أقدامها ؛ فلم يكن التيار يوما يمر بشكل طبيعي بين الجزيرة والمملكة. إذا كان الأمر كذلك ، فهل بإمكاننا أن نواجه الجزيرة بلغة متخشبة؟ قلت إن مواجهة الجزيرة ليس أمرا ممتنعا ولا لغزا ومن حقّ المغرب أن يتّخذ قراره السيادي تجاه الجزيرة. ولكن لا أهمية لمواجهة خشبية كتلك التي أظهرتها جذبة مصطفى العلوي في برنامج حوار بحضور السيد وزير الإعلام خالد الناصري. وهي طريقة قديمة لدى مسقط الطائرات ، تعيدنا إلى زمن البث بالأبيض والأسود وحكاية " أنا اللّيمونة " في الوصلة الإشهارية الشهيرة. ومع أنه حدّثنا عن أشياء زعم أن لا أحد يعرفها ، فهو لم يسرد شيئا يجهله أهل الخبرة والكثير من المشاهدين. وشخصيا لا يمكن أن يقنعني كلام الصحفي المذكور عن عدم مشاهدة برامج الجزيرة ، فكيف سيقنع المغاربة الذين يدركون الحدود الطبيعية للمشكلات ولا يسرفون في الإثارة. فهذا مثله قاله كثيرون لهم كلمة مسموعة ومفهومة في مشارق الأرض ومغاربها ولم ينجحوا حتى الآن . لا تصلح طريقة زدي مصطفى العلوي في إقناع المغاربة قبل إقناع الخارج الذي قد لا يفهم لكنته. ومع أنه ليس الوطني الوحيد كما يحاول أن يظهر ذلك في كل مناسبة، إلاّ أننا نعتقد أنها طريقة من شأنها أن تجلب السخرية على المغرب كحكومة وشعب. أعرف كيف يفكر هؤلاء حينما ينظرون إلى مثل هذه اللغة الخشبية. ذكرت مثال الأسلوب الذي أظهرته جذبة زدي مصطفى العلوي لأنها تعيدنا إلى زمن تبلد الصحافة المغربية التي لا زالت تعمل على إقناع أبنائها لا إقناع العالم. لقد ارتمى مجذوب القناة الأولى بالتجريح والنيل من شخوص الدولة القطرية وهو أسلوب توريطي سينسل منه أمثال هؤلاء حينما يصبح المغرب ومقدساته عرضة للإساءة وردود الفعل من الآخرين. ماذا لو انبرت الجزيرة لتخصيص برامج كاملة للإساءة؟! ليست تلك المرّة الأولى التي يوضع مصير البلد ومقدساته في لعبة اللغة الخشبية لإعلامي يفترض أن ملفه قدم للتقاعد منذ سنتين. ولا أخطر على المغرب من هذا الصنف من المتملقين الذين يقذفون بكلماتهم بمزاج لا يفهمه غيرنا، بينما يتركون النار مشتعلة من ورائهم تستعصي على الإطفاء. أحيانا يبدو الصمت أبلغ حكمة من هذا التقريع الساذج الذي يتعاطى فيه مع الأزمات بالصراخ وتعابير الأزقة كما لو كنا نتعارك داخل الأزقة المظلمة ل"الدار الكبيرة". وتلك شنشنة نعرفها من أخزم. وعلى كل حال فزدي مصطفى لا يصلح لمثل هذه الحروب الكبيرة. بل كان أحرى به أن يقدم لنا برنامجا من داخل أكديم إزيك كي يقنعنا أولا بوطنيته داخل المعمعة لا بالمزايدات الثقيلة على القلب. فماذا لو تم استقبال الأمير القطري غدا في الرباط ، من سيعفي زدي مصطفى العلوي من أن يصفه بفخامة الأمير القطري في أي تغطية يقوم بها؟! نقول هذا وسنكون في صف زدي مصطفى العلوي فيما لو فكرت الشيخة موزة أن تقدم شكوى بمسقط الطائرات للتعرض لها. ولن يكون دفاعنا سوى بأن نخبرهم بأن زدي مصطفى العلوي مجذوب الصحافة المغربية لن يسمح أي مغربي بالإساءة إليه مهما أساء لغيره. فالمغاربة لا يخذلون مجاذيبهم. كما أن قطر لا تخذل جزيرتها. نحن لا نعتقد أن الجزيرة لا تتمتع بمصداقية مطلقة. كما أننا لا نعتبرها قناة موضوعية نموذجية. ولا يمكن في نظرنا أن توجد قناة من هذا القبيل في مجالنا العربي ذي النزعة القبلية أو الاستبدادية أو المتخلفة. ولكن هذا القليل من الجزيرة مفيد. والمطلوب من المغرب أن يتصرف كبيرا ولا يستسلم في نزاعه مع الجزيرة للمزاج العصبي للوطنيين المزيفين أو المغرضين الذين يسعون لتعميق الجرح بين المغرب والجزيرة. بل المطلوب أن يحاور ويناقش ويطرح شروطه ودفتر تحملات لانطلاقة أخرى وأخرى ، لأن قوة المغرب ليست في طرد الجزيرة بل قوته في احتوائها وفي أن يتوفر على معجم تواصلي يليق بمنسوب الدمقرطة و أن ينفتح عليها رغم كل المشكلات التي تطرحها نقائص الموضوعية . ذلك لأن ثمة من يريحه مغرب من دون مكتب للجزيرة على أرضه. وإن كان هذا لن يخدش فيه حينما ندرك أن لا عاصمة عربية تستقبل مكاتب الجزيرة غير الاستثناء اللبناني الذي لا يصلح قاعدة، حتى الدوحة لن تقبل بالجزيرة إذا ما حاولت تغطية الأوضاع الداخلية لقطر. وما لم تلتفت إليه الجزيرة نفسها أن الذي يخترقها هو نفسه لا يرضى لها أن تكون على أرضه. وأهل الجزيرة وحدهم يدركون أن لا مكان أنسب لهم وأغرى من المغرب. فلقد أغرت الجزيرة المغرب الذي كان يسعى لأن يكون دولة نموذجية في حرية التعبير وبأن ذلك قد يكون له دور في عموم التنمية والانتقال الديمقراطي. خصوم المغرب الذين اهتدوا مبكرا لأسلوب اختراق الجزيرة كان يهمهم كثيرا إفشال هذه النموذجية. وبعد أن طردوا الجزيرة من بلدانهم أزعجهم استقبال المغرب لمكتبها بالرباط. وحتما كان بإمكان مكتبها أن يمارس حريته الكاملة حتى أكثر من حريته داخل الدوحة ، لأنه ينقل كل أحداث البلد المضيف. لكن مثلما حدث مع الإعلام الإسباني حينما استعمل صورا خاطئة في تشويه صورة المغرب ، كانت الجزيرة تنقل أخبار المغرب أحيانا من القناة الجزائرية المعادية ، وهو أمر غاية في الإزعاج فضلا عن اختلال في المهنية. ليبق السؤال: من له المصلحة في أن لا يظهر المغرب كواحة ديمقراطية في المغرب العربي؟! إن إحدى أهم انتصارات المغرب إعلاميا على خصومه ، هي أن يعيد الجزيرة إلى المغرب وفق شروط توافقية لا يهم أن يستمر الأخذ والرد بينهما ولا الصعود والنزول في العلاقات ، بل الأصل أن تكون العلاقة صحية بين المغرب والجزيرة. ليس هناك منفعة في أن يخسر المغرب الجزيرة كما ليس ثمة منفعة للجزيرة في أن تخسر المغرب. ما لم تلتفت إليه الجزيرة نفسها هو أنها سمحت لنفسها أن تميل كل الميل وتسمح للنافذين والمخترقين أن يورطوها في ما من شأنه أن يعجّل بتوتر علاقتها بالمغرب. ولست واثقا من أن الأمر يتعلق بموقف مبيت من قطر الدولة تجاه المغرب، فهذا خلط عجيب لا يمكن أن يقول به إلا ذلك الصنف من المتملقين الذي يعتقدون أن الوطنية هي أن تقول في الخصم ما لم يقله مالك في الخمر. ربما ما لا تكاد الجزيرة إدراكه أو كثير ممن يفتقر إلى معرفة الأعماق السحيقة للمغرب، أن هذا الأخير يفقد صوابه واعتداله متى مست وحدته الترابية أو تم الاستخفاف برموزه. ففي مثل هذه الحالة، ستجد الجزيرة وغيرها أنها في مواجهة مع المغرب بكل أطيافه. فالتناقضات التي تظهر على المغاربة في معاشهم وسلمهم وأحزابهم هي تناقضات مضللة سرعان ما تختفي ، عندما تصبح القضية وطنية بامتياز. إن موضوع التوتر بين المغرب والجزيرة هو أهون من أن يتحول إلى موضوع كبير ، لا سيما وأن أي توتر بين أي دولة عربية والجزيرة هو محسوم سلفا ولا بثير كل هذا النقاش؛ فلئن كان محل النزاع بين المغرب والجزيرة يتعلق بالمهنية والموضوعية ودفتر التحملات والأخذ والرد إلى الحد الذي سمح لمكتبها أن يرفع دعوى قضائية ضد المغرب في المغرب، ندرك أن في صميم هذا النزاع تأكيد على أن نقاش المغرب مع الجزيرة هو نقاش رفيع تجاوز كونه مجرد موقف مسبق من أصل وجود الجزيرة في المغرب بعد أن كان هو من فتح يده لها كما وجب أن يعيد فتح يده لها في المستقبل القريب. ومن هنا لا نشارك الرأي من يعتبر أن للجزيرة سياسة عدائية ضد المغرب ولا لأي بلد عربي آخر ، ولكن ما لا نستطيع إنكاره هو كونها مخترقة من خصوم المغرب كما هي مخترقة من خصوم دول عربية كثيرة، فهل أمكن المغرب أن يبني له سفارة داخل الجزيرة للدفاع عن مصالحه ومزاحمة خصومه داخل الجزيرة وليس خارجها ، وهل آن للمغرب أن ينشئ له مكتبا للقناة الأولى أو الثانية في الدوحة تقوم بتغطية الأحداث داخل قطر الشقيقة لكي يذوق الإخوة ما لامهم المغرب فيه .. أليس ذلك أولى من إطلاق ألسنة المتملقين للنيل من رموز هذا البلد أو ذاك وتأزيم الأوضاع والنفخ فيها بما تسودّ معه القلوب ويغور معه الجرح.. ألا يكفينا كعرب أننا نتصرف بخلاف المصلحة العربية ؟! أحداث العيون ، من المنتصر؟ كيف سمح المغرب أن يقام مخيم يأوي آلاف من المحتجين ، ألم يكن في وارده أن هذا الاحتجاج الاجتماعي معرض للاختراق والتوظيف السياسي؟ كيف يسرح ويمرح الملثمون داخل الدوائر الرسمية ويتلفون الممتلكات العامة والخاصة ويستولون حتى على الإذاعة التي يعتبر الاستيلاء عليها انتصارا في انقلابات الدول؟ ألا يوجد أمن ألا يوجد استشعار ومعرفة مسبقة ومحتملة بكل هذه الأحداث؟ هذه تساؤلات وأكثر منها تحملها جعبة المستهينين بالسياسة المغربية. لكن ثمة من يتحدث عن أن هذا غير ممكن ، إلا أن يعتبر تدبيرا من المغرب لفضح أساليب البوليساريو والجزائر التخريبية. شيء من هذا وذاك قد يكون صحيحا وكثير من هذا وذاك لا يمكن التسليم به. هناك ما يمكن أن نسميه دينامية مقاومة التآمر. من يدرس الأمور من خلال خواتمها يدرك أن المغرب انتصر إعلاميا في نهاية المطاف. إن الهدف الذي كان يرمي إليه مدبروا هذا التخريب هو أن يتم تدويل المسألة وتأزيم مشروع الحل الدولي و تعقيد المسار الذي فرضته المبادرة المغربية بقبول فكرة الحكم الذاتي في سياق تحولات سياسية داخلية ماضية في مشروع الجهوية الموسعة. وما حدث بالفعل ، هو حرج كبير على إسبانيا، ضرب مصداقيتها الإعلامية وتعدى إلى مواقف سياسية جعلت إسبانيا تبحث عن مخرج من الورطة ، حيث لا يمكننا التنبؤ بكافة تداعيات الموقف وآثاره السيئة على إعلام يراهن على سمعته داخل الاتحاد الأوربي؛ بتعبير آخر ، بعد ضرب الجودة وضرب المصداقية ، من سيصدق الإعلام الاسباني بعد اليوم؛ ذلك هو الثمن الذي دفعته إسبانيا لقاء لعبة لم تتقنها. أما مجلس الأمن فقد رفض التحقيق بصورة أحبطت المؤامرة من أساسها، كما كذبت منظمة هيومن ووتش رايتس سردية البوليساربيو والجزائر بشأن المجزرة. كم كان الوضع محرجا حينما يتوجه صائب عريقات كبير المفاوضين في السلطة الفلسطينية كما مصور مجزرة الأطفال في غزة وآباء الضحايا الذين استغلت صورتهم وسائل الإعلام الاسبانية لإدانة المغرب دون ذكر مصور أحداث البيضاء التي تم استغلالها في تشويه صورة المغرب، يحتجون ويهددون بمقاضاة الإعلام الاسباني؟! كما كم كان فاضحا أن يظهر المخربون أنفسهم يتبولون فوق الجثث. خسر المخربون سمعتهم الإنسانية ومصداقيتهم السياسية وظهروا كإرهابيين وقطاع رؤوس والأهم في هذا أنهم اقتربوا من أسلوب القاعدة وأظهروا أنهم لا ينتمون بالثقافة والاجتماع لهذا المجال. لقد انتصر المغرب في نهاية المطاف، وإن بدا أنه يتردد في متابعة انتصاراته ، لأنه وجب أن يستمر في ملاحقة المسؤولين عن التخريب دوليا أو يعقد صفقات من شأنها أن تخدم أجندته ولا يكون كريما وزاهدا في أوراقه. إن نجاحه إذن لم يكن صدفة ، بل أيضا يؤكد على أن الأمر لا يخلو من تدبير. فإن كان المغرب قد عرّى على حقيقة خصوم الوحدة الترابية المغربية، فإن ذلك يجعله من بين متقني اللعبة. لكن ليس كل لعبة ننجح فيها نخرج منها من دون أضرار ولو جانبية. يجب أن تتحرك الآلة الإعلامية ووسائل الضغط في ملاحقة الخصم وحصاره. لقد وضعتنا أحداث العيون الأخيرة أمام مشهد يوحي بالضحالة. لا يقف الأمر عند شكل العنف البدائي الممارس من جانب واحد إلى حدّ الاحتفال بمظاهر الوحشية التي ظهرت عيانا من قبل عناصر واضحة في توجهها العدائي للمغرب ، بل نحن أمام كل مظاهر الضحالة التي تبدأ من الوحشية والتآمر حتى الضحالة المهنية في التغطية الإعلامية في معركة توحي جميع المعطيات أنها وليدة خطة محكمة من أطراف متعددة. كان ذلك ثمن الممانعة ضد الاستدراج إلى مخطط توريط المغرب عشية انطلاق المفاوضات غير المباشرة بين المغرب البوليساريو بمانهاست في ردود فعل تجعل صورة المغرب معادلة على الأقل للصورة التي بدت عليها الجبهة والجزائر في موضوع اختطاف المناضل الصحراوي السيد مصطفى سلمة ولد سيدي مولود الذي تم اختطافه من قبل مجموعة من البوليساريو والمخابرات الجزائرية، ذهب الفريقان إلى التفاوض هذه المرة بعد أن سجل المغرب على كل من البوليساريو والجزائر إصابة وضعتهما في موقع شديد الحرج ، بعد فجرت قضية حقوق الإنسان داخل مخيمات تيندوف. وإذا كان الثمن الذي دفعه المغرب غاليا هذه المرة في شكل ضحايا من عناصر الأمن الذين سقطوا أثناء أدائهم لواجبهم الوطني في ظروف صعبة ، إلا أنه نجح في إفشال مخطط كان يهدف إلى أبعد من ذلك بكثير. فالصورة التي كانت تتوقعها الجزائر وإسبانيا من هذه المؤامرة هي نفسها الصورة التي عبروا عنها بالفعل في وسائل إعلامهم من الشروق الجزائرية إلى الباييس الإسبانية؛ الجميع يتحدث عن سقوط مئات القتلى في صفوف الشعب. وجب أن نعذرهم لأنهم عوضوا خسارتهم ببث صور عن جرائم أجنبية مثل صور أطفال غزة في وسائل الإعلام الإسبانية . إنهم لم يجدوا غير صورة عناصر انفصالية متسللة تمارس الذبح والقتل والتمثيل بالجثث. لقد كانوا ينتظرون من المغرب أن تكون ردة فعله كذلك قبل أن يخيب ظنهم هذه المرة أيضا. أهم ما في الموضوع أن الجزائر وإسبانيا فوجؤوا بأن الأداء الأمني للمغرب في إحباط هذه المؤامرة خلا من ردود الفعل ودفع من دم عناصر مكافحة الشغب في مواجهة لم تطلق فيها رصاصة واحدة بينما تم التمثيل من قبل عناصر معادية بجثث الضحايا إلى حد التبول فوق الجثث. لكم كان المشهد مؤلما، لكن تلك هي الصورة الوحشية الوحيدة التي تملك الجهات المراهنة على نزيف ملف الصحراء المفتوح أن تقدمه دفاعا عن مشروع التجزئة. لا شك أن أحداث العيون الأخيرة كانت مفاجئة للمغرب بكل ما تعني كلمة مفاجأة من معنى. لكنه تصرّف بإمكاناته التي استطاع المخربون أن يخرجوا عن السيطرة. مجموعة من الملثمين أظهروا أن الأمر هو أبعد مما يتعلق بعملية احتجاج ذي طابع اجتماعي. الاحتجاجات من هذا القبيل لا تملك كل هذا التكتيك المنظم لحرب العصابات. في توقيت دقيق كانت العناصر المدربة والجاهزة للتدخل والتشغيب، تملك أكثر من خطة ، كان الهدف من ورائها وضع المغرب في مأزق محرج دوليا. لا تملك العمليات الاحتجاجية ذات الطابع الاجتماعي هذه الخبرة الدقيقة في ترتيب الخطط وردّة الفعل الدقيقة والسرعة الفائقة. هذا بالإضافة إلى أن الاحتجاجات الاجتماعية لا تجعل أبرز شعاراتها ذات طابع انفصالي إلى حد إحراق العلم الوطني وقطع الرؤوس والتبول على الجثث. نحن إذن أمام عملية اختراق منظم لعناصر انفصالية أتقنت دورها التخريبي بامتياز. لقد كانت مفاجأة للمغرب. وهذا يعني أنها لم تكن مسرحية، لأن المغرب لم يكن في مصلحته أن يقوم بعملية من ذاك القبيل في سياق تفاوضي لا يزال يملك فيه المبادرة؛ إنهم يتفاوضون على مقترح زكته المباردة المغربية حينما قبل المغرب بخيار الحكم الذاتي كإطار للتفاوض. ما يؤكد على أن الأمر يتعلق بتدخل لإحباط مؤامرة كان الخصم يملك فيها خطط استثائية لفك السيطرة حوله إذا ما حصل ردّ فعل من قبل المغرب ، أن 12 من عناصر الأمن الوطني المغربي لقوا حتفهم مقابل مقتل مدني أو اثنين لا ندري من وراء قتلهما كما لو كانوا هم الجهة المجردة عن السلاح ، في أحداث ظهر فيها سلاح العناصر الانفصالية واختفى فيها سلاح العناصر الأمنية. لم تمر على تلك الأحداث الأليمة أياما قليلة، كي يقع في قبضة الأمن المغربي عناصر لا تنتمي لهذا المجال؛ يتعلق الأمر بمواطنين من بينهم ضابط في الاستخبارات الجزائرية ومرتزق من تشاد وغيرهما من شتات المرتزقة. لا شيء يمنع من التساؤل حول ما إذا كان المغرب سيحافظ على سياسته في الصحراء؛ وإلى أي حد يمكننا القول أن الصحراء بعد أحداث العيون ستكون هي نفسها قبل أحداث العيون. بالتأكيد لا يتعلق الأمر بتصعيد الخيار الأمني في المنطقة ، بل يتعلق الأمر بتفعيل حالة اليقظة القصوى في تدبير هذا الملف مع نهج سياسة القرب والإنصات للمواطنين والحوار الاجتماعي وقضايا أخرى ظلت على هامش الاهتمام في تسيير الشأن العام داخل الصحراء. إن كبرى الأخطاء التي وجب أن يعترف بها ساسة الصحراء أن خيار الانفتاح والحوار لا يعني التساهل في مراقبة المتغيرات الدقيقة التي تجري في الصحراء ، والتي أدى الجهل بها إلى وضع المغرب أمام مفاجأة أحداث العيون التي داس فيها المتسللون على المطالب المشروعة لبعض الفئات من المجتمع الصحراوي لصالح مطالب انفصالية واضحة الملامح. إحدى أبرز تلك الأخطاء هو غياب الضبط والأجرأة في استقبال وفود العائدين من دون سياسة تمحيصية وإدماجية تحصن عملية العودة من التسلل والاختراق والتمييع. إننا أبدينا حتى الآن جانبا من الحس الوطني التسامحي في وجه العائدين، لكن وجب أن نواصل ذلك القياس لنقول بأن الوطن يرفض الخيانة. ولنفرز بين العائدين الهاربين من إرهاب المخيمات وبين المتسللين الذين يخربون النية التحتية للمواطنين المغاربة الصحراويين. لا يتعلق الأمر هنا بطبخة انفصالية صغيرة ، بل اتضح أن ثمة خطة محكمة ومتكاملة الأدوار بين جهات إقليمية ودولية ساهمت في استثمار هذه الأحداث إعلاميا . و يبدو أن الأطراف التي رعت هذا المخطط كان في نيتها أن المغرب سيتصرف تجاه هذا الحراك الانفصالي الغادر في قلب الوفود المحتجة على قضايا اجتماعية محض ، بكثير من الارتباك والقسوة حتى أنهم حضّروا تعاليق وأرقاما لعدد القتلى المفترضين قبل أن يصدمهم واقع الأرقام المؤلمة التي تتعلق بمقتل 12 أمني مقابل مدني. نقول هذا ونحن مغاربة ندرك أن قوات الأمن في الصحراء تحتاط جهدها في ممارسة العنف حتى أنه لم تصدر تعليمات لاستعمال القوة المفرطة. إننا ندرك أن قوات الأمن المغربي تتصرف في الداخل أقسى مما تفعل في الصحراء مما يحسس المغاربة في الشمال والوسط بأنهم ضحية شكل من التمييز العنصري. أي المنظمات الدولية ستتحدث عن أوضاع المواطنين المغاربة في الصحراء بينما يتمنى المغاربة غير الصحراويين لو تكون وضعيتهم التفضيلية شبيهة بتلك التي يتمتع بها إخوانهم في مدن الصحراء المغربية. ولا شيء يمنع من ذكر كبرى الأخطاء التي عرفها تدبير هذا الملف . فلقد فوّض المغرب مسألة التأطير للأعيان دون تجديد في أدائها التأطيري. فالمغرب الصحراوي كمغرب الداخل هو مغرب متجدد ومتطور باستمرار. والأساليب التقليدية في التأطير لا تفي بالغرض. لأنها كرست أبشع أشكال الانتهازية وغدّت غريزة المتاجرة بالأزمات. فالشباب الصحراوي يقع في منطقة تجاذب بين لغة الأعيان الخشبية ولغة المنظمة الانفصالية وشعاراتها. لا يهم هنا التغليط ، ولكنها سوسيولوجيا الخطاب الأكثر تحريضا وجاذبية لفئة وجيل من الصحراويين. تقدم المنظمة الانفصالية إغراءات من نوع آخر. أي إنها تشكل ملجأ رمزيا واحتياطيا لكل من لعب برأسه الاحتقان ضد المتنفذين المهيمنين على الكعكة . بدل أن تسود فيها ثقافة المواطنة والتثقيف الفعلي لجيل متعطش للإنصاف، سادت ثقافة الوجاهة والانتهازية والابتزاز و شراء الذمم. أخطر ما في سوق الصحراء أن ثمة دائما من يكون ضحية الندرة، وبالتالي التمرد الطبيعي والانتكاس والتظاهر بالانفصال كرد فعل على واقع تجارة الأزمات. لا يترك الاحتقان الاجتماعي مجالا للإقناع. فالجمهورية الخيالية لا تطعمهم من جوع ولا تؤمنهم من خوف؛ ولكنه الاحتقان. و هناك أخطاء أخرى تتعلق بإدارة الملف خارجيا. فلا زال المغرب يدفع ثمن الإعراض عن الدخول في نادي اللاعبين على وتر الاستراتيجيا الحساس في لعبة الأمم. ومن هنا تغيب المبادرة والبعد الاستراتيجي لأدائه في تدبير ملفاته الخارجية التي تأخذ في أبعد مدياتها وضعية الصفقات البسيطة التي لا تراكم الأوراق ولا تحتل موقعها في التعقيدات الإستراتيجية الدولية. يشتغل الساسة المغاربة على قضاياهم مثلما يشتغل الفلاح البسيط على قوته اليومي ولا يدخل في الحسبان الخطط البعيدة والمتوسطة المدى. شيء من الطيبة والكرم لا يزال يتحكم في إدارة الأزمات ويضع العقل الاستراتيجي المغربي باستمرار في وضعية حرجة. حالة التردد النزعة الشاتية حاكمة على أدائه في وضع يسود فيه المكر النزعة الذئبية في المعترك الدولي. أكاد أجزم أن المغرب في تدبير ملفاته ومصالحه الخارجية يلعب على عقيدة الشاة لا عقيدة الذئب. من هنا الارتجال والتخبط الذي يبدو واحدة من سمات الأداء الاستراتيجي لمغرب يعيش في السياسة كما في الاستراتيجيا على مفهوم البركة والقضاء والقدر والارتكان إلى قوة استقراره وقوة تاريخه. ولهذا السبب لا يزال المغرب مجهولا للمشرق العربي نفسه تاريخا وجغرافية. تصور أي إحساس سينتابك حينما يسألك متعلم مشرقي كما فعل صديقي ذات مرة حينما سألني: ليس هناك ما يميز المغرب في تاريخه ، لم نسمع عن ثورات تحريرية كالتي نسمعها عن الجزائر...؟ ومن حق هؤلاء أن يحاكموا هدوء المغاربة قياسا بحرارة دولة تبدو هشّة وتفتقد للاستقرار. ويبدو أننا أمام شكل من الجهل الطبيعي بمغرب تواطأت عليه عوامل كثيرة لكي تجعله غائبا عن المشهد. لا نحمل وزر هذا الجهل للأغراب كما يفعل الكثير ممن يتباكى على حظه العاثر ، بل المسؤولية ملقاة على أبنائه الذين تجاهلوا قيمة تاريخهم لأسباب قد يتعلق بعضها بالموقف الاحتجاجي الذي تختلط فيه المطالب المشروعة بالإساءة إلى وطن هو الأعرق في المنطقة. هناك حالة الزهد في الاستراتيجيا التي يظهرها ساسته حتى في أكثر قضاياهم حساسية. وهناك حالة الاستقرار التي تجعله لا يفكر أكثر فيما لا يعنيه. وهناك رزمة الأزمات التي حبكت حول وحدته الترابية شمالا وجنوبا وشرقا. ومع أن المغرب توالت على حكومته عوائل أهل فاس الذين ولعوا بالتجارة إلا أنهم لم يظهروا شطارتهم التجارية في تدبير القضايا المهمة لهذا البلد. فأهل فاس في التجارة ليسوا أقل شطارة من التجار الشاميين أو الأتراك أو الإيرانيين. أي خيمياء يجب أن نتوفر عليها لكي نجعل من التاجر الفاسي سياسيا بارعا واستراتيجيا محنكا كما يفعل في متاجره . ففي مغرب خرجت منه أهم نماذج لثورات التحرير في العالم مثل عبد الكريم الخطابي الذي ما كان للمشرق أن يتعرف عليه لولا منفاه الثاني في مصر، لكن أي مشرقي آخر يعرف عن موحا أو حمو الزياني أمير معركة الهري الشهيرة سنة 1914م الذي سبق عبد الكريم الخطابي في أسلوب حرب العصابات. فتاريخ المغرب زاخر بكل هذه النماذج ، غير أن مشكلة المشرق معه أنه يجهل أن هذا البلد عاش الاستقرار في تجربة قديمة لم يغير من ملامحها الاستعمار ولا كل هذه التحديات. ومثلما جهل المشرق العربي لعبة تاريخ المغرب وخلط كل الأوراق، جهل لعبة الأمم في صحرائه. وقد استطاعت القوى المعادية للمغرب أن تتواطأ للتآمر على وحدته الترابية في صمت عربي صنعته الأغلوطة الانفصالية. يبدو أننا كمغاربة لا نجد في أنفسنا ما يمنع من الاعتزاز بتاريخ الجزائر لا سيما المفصل التحريري الذي جعلها حقا بلد المليون شهيد. هذا التاريخ لا يجب أن يذكرنا به أحد بمن فيهم الجزائريون ؛ ذلك لأنه تاريخ صنع بأعيننا نحن المغاربة حيث كنا شركاء في هذا المصير واعتبرناه انتصارنا لأننا خضنا معركة "إسلي" ضد فرنسا التي فكرت في استعمارنا منذ تلك الحرب أيضا. لكن ما لا نفهمه حتى الآن هو هذا الموقف العدائي المستحكم من قضية الوحدة التربية المغربية؛ موقف يشكل ثغرة سوداء في تاريخ كنا نعتقد أن الجزائر في غنى عنه في تعزيز مكانتها في المنطقة. في قضية الصحراء المغربية تفقد الجزائر ذاكرتها وحسها التحرري والإسلامي والقومي حتى بات واضحا أنها مستعدة لكي تتعامل مع الشيطان فقط لإزعاج المغرب في صحرائه. كان أحرى أن تتصدى جحافل القومية العربية والقوى الإسلامية لهذا المشروع الانفصالي ، لأن لا أحد منهم يؤمن بمزيد من التجزئة للبلاد العربية والإسلامية. من هنا اعتقد البعض أننا قد أضعنا الكثير من الوقت حينما لم نمنح الفقيه البصري رحمه الله فرصة الدخول على خط الديبلوماسية الموازية باعتباره قادرا على حل المشكلة من جذورها الأيديولوجية. كان الفقيه البصري قد صمم على حل مشكلة الصحراء والتحرك لهذا الغرض. فهو صاحب علاقات مع قوى التحرر الوطني العربية والعالمية باعتباره من أبرز مؤسسي جيش التحرير المغربي. وسوء حظه أنه عاد متأخرا في زمن البصري المليء بالحساسية والريبة. هذا مع أنني أعتقد أن الجزائر لم تكن مستعدة لكي تنصت إلى أحد في هذا الموضوع، ومع أنها تدرك أن كل تيارات المغرب مجمعة على حق المغرب في صحرائه، إلا أنها لم توافق أحدا على ذلك. وقد كان عبد الكريم الخطيب من أصدقاء أعضاء جبهة التحرير وعلى الرغم من أصله الجزائري غير قادر على إقناع الجزائريين في موضوع الصحراء . فلا الذين كانوا رجال النظام المغربي ولا المعارضين استطاعوا التخفيف من الموقف الجزائري ذاك. ولا زلت أعتقد شخصيا أن حل مسألة الصحراء هو حل أيديولوجي أكثر مما هو سياسي. وكان أحرى بالمغرب أن يصبّ بكامل تياراته الإسلامية والقومية والاشتراكية وغيرها في هذه المنطقة حتى لا يبقى تنظيم البوليساريو هو التنظيم الأيديولوجي الوحيد الناشط في المنطقة. بتعبير آخر ، إننا لن نحصن ساكنة الصحراء من الاستقطابات الأيديولوجية التحريضية للبوليساريو بسياسة المهرجانات والسياسات التنشيطية وحدها. حكاية الانفصال تعيدنا إلى حرب 1963م التي جرت لأسباب تتعلق بالحدود المغربية الجزائرية. كان المغرب مساندا ومشاركا للشعب الجزائري في كفاحه التاريخي ضد الاحتلال. لنتذكر أن معركة "اسلي" التي تكبد فيها المغرب خسائر كبيرة جاءت بسبب هذا التهديد الذي مثله الدعم المغربي للمقاومة الجزائرية. ترى هل كان أولى أن يسلك المغرب نصيحة بعض وزرائه لكي يقبل عرضا من الجنرال ديغول يشأن التفاوض بين فرنسا والمغرب حول ترسيم الحدود؟! في تلك الأثناء رفض الملك محمد الخامس رحمه الله هذا العرض معتبرا أن مسألة الحدود بين المغرب والجزائر مسألة بين الإخوة المغاربة والجزائريين وسنحلها حينما تمنح الجزائر استقلالها. كانت فرنسا قد ضمت جزءا من التراب المغربي مثل بشار والقنادسة والعين و الصفراء ولحمر وغيرها إلى الجزائر الفرنسية بقوة الاحتلال. وكادت الأمور تنحل مع عباسفرحات الذي سيتم الانقلاب عليه وعلى كل الوعود التي أطلقهها مع المغرب بخصوص حل مشكلة الحدود بمجرد استقرار الوضع في الجزائر.غير أن الأمور خرجت عن حدها حينما حاول بن بلة أن يتنكر لهذا الموقف وأدار الظهر معتبرا أن الجزائر التاريخية هي هذه الجزائر كلها كما حددت حدودها فرنسا الاستعمارية غصبا. لم يكن هناك من خيار غير أن تعلن الحرب. دخل المغرب إلى الجزائر وكاد يصل إلى العاصمة. طلبالجنوال بن عمر الأمر بدخول تندوف لكن الرفض جاء من الرباط. استرجعهم الملك الراحل الحسن الثاني. كانت ثورة آيت أحمد على أشدها والجزائر لم تتفق على قيادتها التاريخية بعد. كانت حرب الرمال حربا مفروضة على المغرب لا على الجزائر التي حاول من خلالها بن بلّة أن يصدر الأزمة الداخلي إلى الخارج. لقد استثار عواطف الفرقاء الجزائريين المتخاصمين ضد المغرب من خلال شعار : أن المغاربة احتقرونا (حكرونا) . على الأقل ثمة من من يعترف بهذه الحقيقة من المسؤولين الجزائريين يكفي تصريح المجاهد جمال الدين حبيبي لصحيفة الخبر الأسبوعي الجزائرية وكذا تصريحات الضابط الجزائري والإعلامي أنور مالك منم خالال اطلاعه على وثائق سرية من داخل المؤسسة العسكرية تؤكد على ان حرب الرمال أفادت العناصر المتناحرة في الجزائر من توحيد صفوفها تحت القيادة الموجودة حينها. رفض المغرب أن يسترجع حدوده بالتوافق مباشرة مع إدارة الاستعمار حسب مقترح ديغول ، حيث اعتبروا ذلك نوعا من الغدر وطعنا في ظهر الإخوة الجزائريين. ورفضوا أن يستعيدوها في حرب 1963م التي لم تكن لتمثل أكثر من عملية جراحية سريعة بل تمادوا في احتلال أراضي مغربية مستغلين مسألة عدم ترسيم الحدود ومؤكّدين لدى الأهالي في المغرب الشرقي كما وقفنا على ذلك بأنفسنا، بأن الجزائر هي من يتبنى سلوكا توسعيا بخلاف ما تتحدث عنه الدعاية الجزائرية ضد المغرب في الخارج. في سياق هذه التداعيات لما بعد الحرب ، جاءت فكرة خلقت جبهة البوليساريو التي منحتها الجزائر كل اهتماماتها ومنحتها كل دعم سياسي ودبلوماسي بعد النجاح الكبير الذي حققته المسيرة الخضراء. فتحولت كل سفارات الجزائر إلى سفارات غير معلنة لجبهة البوليساريو وأصبحت مسألة الانفصال جزءا من الدبلوماسية الجزائرية النشطة. ولكي تكتمل الحكاية تم اغتيال الولي مصطفى السيد من قبل صناع هذه اللعبة لأنه وحدوي لا يروق لهم في لعبة الانفصال، ولأنه ثوري حقيقي وليس ثوروي وظيفي قابل للاستعمال في مخططات تفتيتية للمنطقة. في المشرق العربي ظن الكثيرون أننا أمام سياسة جزائرية ترعى مسألة التحرر الوطني وكأنها بالفعل تمثل ذاكرة وفيّة لحرب التحرير والمليون ونصف شهيد. لكننا نفاجأ بأننا أمام حالة غير مفهومة لأننا في العالم العربي نرفض التقسيم في السودان وفي العراق لكننا نقبله ولا نبالي حينما يجري التقسيم في المغرب. ولا يؤمل خير حتى اليوم في هذا الموضوع ، لأن السيد بوتفليقة نفسه الذي يبدو وكأنه المدني الوحيد داخل حصن الضباط الحصين عاش فترة طويلة في المبنى نفسه الذي عاش فيه عبد العزيز المراكشي بطرابلس وربطت بينهما علاقة خاصة يجهلها عموم الجزائريين والمغاربة. وقد يعجب المراقب حينما يجد الجزائر تدعم إسبانيا في احتلال سبتة ومليلية حتى أنه أعرب عن دعمه لاسبانيا في أحداث جزيرة ليلى غير البعيدة عن الشواطئ المغربية. حينما تتحالف الجزائر مع اسبانيا لابتزاز المغرب في وحدته الترابية ، وحينما يجوع الشعب الجزائري لتصرف خيراته وغازه على هذا النوع من الدبلوماسية القذرة ضد الوحدة الترابية المغربية ما الذي ننتظره من المغرب إذن؟ سياسة الجزائر تجاه المغرب تساهم في إبعاده من القضايا العربية والإسلامية بالقوة الرمزية التي يملكها. فحينما تسعى الجزائر لإقناع كل العرب وكل الأفارقة وغيرهم بشرعية الانفصال ، وحينما تستقبل على أرضها من يصف وجود المغرب في صحرائه بأنه شبيه بالاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين ، ماذا ننتظر من المغرب و كيف نقنع المغاربة بالوحدة العربية وهناك دول تتآمر على وحدته الترابية؟! تسعى الجزائر بلعبتها هذه إلى إدخال الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى المنطقة عنوة كما تسعى لإضعاف دولة عربية وإسلامية مهمة كالمغرب لا تسمح لها بأن تجعل القضية الفلسطينية وسائر القضايا الأخرى على سلم أولوياتها حينما تشغلها بمسألتها الترابية. وإشعال حرب في المنطقة إن كان هذا هو غاية الجزائر ماذا سيترك من قوة للقضية الفلسطينية وسائر القضايا العربية؟! لا يستطيع أحد أن يميز بين سياسة إسبانيا والجزائر في موضوع الوحدة الترابية المغربية. إننا في المغرب ليس لنا شريك استراتيجي حقيقي . فالتخندق في القضايا العربية ليس مسألة شعارات لا يزال يرعى عليها بعض الضباط المهيمنين على المشهد السياسي الجزائري ، بل التخندق في القضايا العربية يقتضي دعما لوحدة المغرب والاتحاد المغاربي وهذا كله متوقف بسبب السياسة الجزائرية تجاه المغرب. يبدو أن الجزائر باتت تخشى إن هي غيّرت سياستها من المغرب سيكون ذلك خطرا على أمنها الداخلي. وهذا ما يؤكد على شذوذ هذه السياسة رأسا. وما لا يعلمه النظام الجزائري أن كل يوم يحصد كراهية الشعب المغربي والمحرومين المغاربة بسبب مشكلة الصحراء. إن الكثير من فصول السياسة الاجتماعية في المغرب ضاعت بسبب صرف ريع الغاز الجزائري على ملف لا أفق له. ندرك أن الحرب بين المغرب والجزائر أمرا مستبعدا لأنه لا مصلحة فيه للجزائر قبل المغرب. فتاريخ المنطقة شاهد على أن كل حروب المغرب يربحها المغرب كما لو كانت قاعدة ثابتة. فالمغرب حينما يحارب يحارب بتاريخه وجغرافيته ورمزيته ووحدته. المغاربة مجاذيب لا يخضعون للامتحان. وهذا أمر يعرفه خصوم وحدتنا الترابية. تكفي المغربوفويبا كمرض جزائري وإسباني دليلا على ذلك. ولكن لمصلحة من نمدد السنين الكبيسة التي نحصد منها إفقارا اجتماعيا للشعبين المغربي والجزائري بسبب الإنفاق على قضية الصحراء ، ونجمد مشروع الاتحاد المغاربي وقضايا هي أنفع لشعوبنا جميعا. فهل يمكننا القول أن الصحراء تحولت إلى مسألة هوس لعبي لدى الإخوة في الجزائر ، أم أنهم غير قادرين على إحداث التغيير في صميم سياساتهم والانفتاح على العالم والفطام عن رهانات زمن الحرب البادرة والمحاور والأحلاف التي أضرّت بالمنطقة ولم تطلق حتى اليوم سراحها من سجونها. هناك إذن طبخات استراتيجية تصنع في المنطقة بين الولاياتالمتحدة الأمريكة والجزائر ضمن صوناتراك الجزائرية التي تستثمر في كل اتجاه ولليمين المحافظ الأمريكي الكثير من امتيازات الشراكة في شركات تمتلك فيها صوناتراك أغلبية الأسهم مثل براون أند روث كوندور بنسبة 51 فيما 49 من الأسهم تعود إلى شركة هاليبيرتون وهي شركة توجد بها أسهم لديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش ويظفر فيها جيمس بكر منصب مسير إداري. ويضعنا التدبير غير الشفاف لملف الغاز الجزائري أمام مفارقات تجعلنا ندرك العلاقة الدقيقة بين الجزائر والجهات المتنفذة داخل أروقة القرار الأمريكي . ليس معنى هذا أن ثمة تناقضا كبيرا بين الشعارات والواقع الذي يدار بعناية فائقة تلعب فيها أوراق التجارة النفطية لعبتها القذرة أحيانا ، بل كان أحرى بالجزائر أن تستغل نفوذها وعلاقاتها الغازية مع أصحاب القرار في الولاياتالمتحدةالأمريكية في الضغط على الإدارة الأمريكية لإيقاف الاستيطان والضغط على إسرائيل بدل أن تستعمل نفوذها في الضغط على الموظفين لدى شركاتها في موضوع الصحراء المغربية والنزاع العربي الإسرائيلي. لكن ما يدعو للدهشة هو حصول شركة باتمان ليتوين على صفقة حقل رورد النوس جنوبالجزائر ، لصاحبها بيني ستينميتز المستقر في إسرائيل وصديق ليبرمان كما تؤكد المصادر. مرة أخرى هي حكاية الغاز الذي يلعب لعبته القذرة للتمكين للأمريكيين في المنطقة وخلق فزّاعة إرهاب القاعدة في منطقة الساحل وبدء توافد عناصر من الجزائر للتدريب على مكافحة الإرهاب إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية والسعي إلى عدم إدخال المغرب في مجموع الدول المعنية بمكافحة الإرهاب. رائحة الغاز تفوح في المنطقة من خلال سياسات غير واضحة وغير مفهومة. لا يحجب هذا أن اللعبة اليوم بدأت تكبر أكثر من أي وقت مضى. وهذا أمر يجب الاعتراف به. لقد أصبح للمغرب مبادرات في ملف الصحراء نقل التحدي إلى المعسكر الآخر. وفي مقدمة تلك المبادرات مشروع الحكم الذاتي الذي يمثل حلاّ مناسبا ومنطقيا مع التوجه الدولي ولا يزعج المغرب باعتباره منفتحا على الجهوية ؛ وقد يبادر إن لم يخط الطرف الآخر خطوة جدية باتجاه الحكم الذاتي إلى شكل من الجهوية الموسعة التي تفرض على الطرف الآخر . بل المطلوب اليوم من المغرب أن يعمل على تنفيذ مشروع الجهوية الموسعة لاستغلال هذا الجزء الحيوي بدل أن يستمر على تعطيله والصرف عليه من مخزون الدولة غير القادر على تغطية كل الحاجيات التي تتطلبها المنطقة، كما وجب أن يمنح فرصة لمكونات أخرى من داخل الصحراء من غير الانفصاليين الذين حتى اليوم لا يتمتعون بأي صفة تمثيلية لأهل الصحراء. إنهم فئة مرتبطة بمصالح أجنبية ولا علاقة لها بالصحراء. فكل قيادي في تلك الجهة يقابله أحد من آبائه أو إخوانه أو من عائلته في الجهة الداخلية. فما المائز إذن، وما أهمية المراكشي أن يكون قائدا لجبهة الانفصال ووالده يؤمن بالوحدة الترابية وبعارض ابنه العاق وما قيمة أسماء أخرى لا نريد ذكرها توجد في عواصم أجنبية بينما أقاربها من المناضلين من أجل الوحدة الترابية يوجدون في بلدهم؟! لا أحد منح أولئك صفة تمثيلية. فهل الأمر يتعلق إذن بالعمليات الميدانية؟ هنا يمكن للمغرب أن يجند مقابلهم ميليشيات تواجههم في عقر دارهم أم هي الحرب! فالحرب إن فرضت على المغرب فقد لا تكلفه أكثر مما يخسره اليوم على الصحراء في السلم وفي ظل سياسة الاستنزاف الذي جعلت من خصوم الوحدة الترابية المغربية خصوما للشعب المغربي الذي يعتبر ذلك عدوانا ضد قوته اليومي ومعاشه. تدرك البوليساريو اليوم ووراءها الجزائر أن خيارات الحرب معدومة ولا يمكن تصورها ، لا سيما في منطقة مفتوحة على مخاطر الإرهاب والتهديد الخطير لمنطقة تربض فوق الضفة الجنوبية للمتوسط. ويدركون أيضا أن خيار الحكم الذاتي أخرجهم من منطق الانفصال التقليدي الذي غدا دعوى متهالكة بعد أن دعم المنتظم الدولي خيار الحكم الذاتي الذي تبناه المغرب كما يبدو ذلك واضحا أيضا من مسلسل التراجع عن الاعتراف بالجمهورية الصحراوية الوهمية من قبل الكثير من الدول في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. ويدركون أن نهاية تفكك معسكر المخيمات في تندوف مسألة وشيكة لا يطيل من أمدها سوى عامل قسر المغاربة المحتجزين داخل الأراضي الجزائرية في أسوأ وضعية لن يطول أمامها صمت العالم. وعلى هذا الأساس تفتعل الأطراف المناوئة للوحدة الترابية المغربية على مسايرة الخيار المغرب وتمييع مفهوم الوحدة بإدخال الكثير من عملائهم ومرتزقتهم من الدول الأفريقية إلى الصحراء ، وهو ما أظهرته بوضوح أحداث مدينة العيون ومخيم كديك أوزيك . لنتذكر أن أي تظاهرة لو حصلت في الجزائر يكون مصيرها القمع والإبادة. ولنتذكر إن انتفاضة الأهالي في سبتة ومليلية لأسباب اجتماعية قوبلت من قبل الإسبان بالحديد والنار . وفي عمليات التخريب في العيون لم تطلق رصاصة واحدة حيث راح إثنا عشرة من شهداء الأمن الوطني الذين احترموا الأوامر بعدم إطلاق الرصاص. ثمة جانب مؤلم من أحداث العيون التي اعتبرت غدرا بالمغرب واستغلالا لسياسته المرنة والمنفتحة في منطقة الصحراء ، وهو موضوع نقذ للأداء الذي تم تداركه بخطط استعجالية بعد خروج الوضع عن السيطرة ؛ غير أن الايجابي في هذا أن الجزائرواسبانيا والبوليساريو لم تحقق تدويل القضية ولا نجحت في تصدير صورة الإبادة التي كانوا يبحثون عنها من خلال حركة الاستفزاز المدبرة التي ساهمت فيها عناصر من الاستخبارات الجزائرية وأعضاء من البوليساريو وآخرين من المرتزقة و المتسللين إلى صفوف العائدين إلى وطنهم. خصوم الوحدة الترابية المغربية لا ينامون. وهم يخططون ليل نهار للإيقاع بالمغرب وسمعته وصورته في المشهد الدولي. يشعر المغرب أنه قوي بمنطق التسامي عن الاستفزاز وبمنطق الواقع كونه في صحرائه. غير أن هذا لا يكفي؛ شيء واحد يمكن أن يخرج السياسة المغربية الخارجية من حالة الاحتقان والارتجال والتردد وعدم الوضوح : عليه أن يقتحم لعبة الأمم المعقدة وإجادة اللعب بكل الأوراق. انه إن فعل لن يتخذ مواقف غير مفهومة عند الكثيرين. وعليه أن يشرح بالدليل المقنع للعالم ما هي خطوطه الحمراء التي يتحول فيها المغاربة إلى أسود الأطلس الحقيقيين ، فالعالم الوسيط جرب الكثير من غضبة المغاربة لكن يبدو أن هناك من يستغل نومة الأسود حتى الآن. عدم وضوح خطوط المغرب الحمراء بالنسبة لكثير من الدول هو السبب وراء ما يبدو ارتجالا في القرارات . لم يبدل المغرب جهدا حقيقيا لشرح وجهة نظره لدى الدول التي كان يعتبرها بعيدة عن هذه القضية ولا تشكل تهديدا لوحدته الترابية. لكن الديبلوماسية الجزائرية قربت البعيد وجعلته مؤثرا. إن وجود المغرب في صحرائه لا يكفي. وتوضيح الواضحات للشعب الذي لا يختلف عن خطورة الوحدة الترابية لا يكفي. لقد حاول المغرب في مرات عديدة أن يعبر عن أهمية الصحراء بالنسبة إليه في كثير من المواقف دون أن يضع اليد فيها على الجرح. هذا سبب قراراته قطع علاقاته الديلوماسية مع دول مهمة وفي سياق حرج. لا تظهر الجزائر على مسرح الأحداث في موضوع الدعم اللامحدود للبوليساريو الذين فاق وضعهم أن يكونوا مجرد لاجئين في الجزائر بل أصبحوا جزءا من استراتيجيا قومية للجزائر. الجزائر لا تظهر في المسرح لكنها تفعل كل شيء حتى أن ما يبدو مفاوضات بين المغرب والبوليساريو إن هي إلا مفاوضات غير مباشرة بين المغرب والجزائر. ستبقى أحداث العيون محطة فاصلة في تاريخ النزاع بين المغرب والجزائر وفي تاريخ تدبير هذا الملف. ليس مطلوبا من المغرب أن يستدرج لسياسة التشديد والمقاربة الأمنية في هذه المنطقة. لكن تظل السياسة اليوم في هذه المنطقة هي سياسة الاعتدال التي تعني لا إفراط ولا تفريط ؛ حكمة علي بن أبي طالب: لا تكن خشنا فتكسر ولا ليّنا فتعصر. فثمة ظاهرة المتاجرة في الأزمات التي تجعل المغرب يدع ثقته في المتملقين الذين يقايضون في مواقف الولاء بمواقع ومناصب ومصالح حتى تحولت مواقع المسؤولية في الصحراء إلى صك المتاجرة بالإبل والاغتناء. يحتاج المغرب إلى مناضلين أيديولوجيين وسياسيين غير فاسدين يوضعون في المواقع المناسبة لتدبير الشأن اليومي في صحراء تتطلب مزيدا من العناية والإنصات لساكنتها من المجتمع الصحراوي الطيب الذي زاده أباطرة وتجار الأزمات تهميشا حتى جعله عرضة لاندساس الأغراب واستغلالا من قبل المخربين. فالاحتجاجات التي قام بها بعض أهالي العيون مشروعة وصحيحة وكان يفترض أن تعالج في وقتها. لكن المراكمة والتأخير وحالة الانتظارية سهلت المهمة على المخربين. يمكن أن تصبح أحداث العيون درسا مهما للمستقبل حتى لا تنام الأعين عما يجري في زواريب المدن الصحراوية. سكرة بوقطاية على نخب تتويج المراكشي اثار انتباهي ذلك الاحتفال الذي أقامته صحيفة الشروق تكريما لزعيم البوليساريو ، وليتها لم تفعل. الملفت للنظر هنا أنهم يكرمون زعيما اصطنعوه وبدا أنه حقق هدفا يستحق كل هذا التكريم. وعلينا أن لا نتشبت بوجهة نظرنا فقط في هذه المعركة. إذ يمكن أن نصيغ رأيا مختلفا عن الطريقة الوحشية التي قامت بها عناصر من البوليساريو المتسللة داخل وفود العائدين. وقد يكون من مصاديق معنى الشذوذ في الموقف التي أوحى بها الخطاب الملكي ويبدو أنها أثارت الإخوة في الجزائر الذين يحصون علينا الأنفاس؛ أن نملك القدرة السياسة والأخلاقية بعد أحداث العيون بإن نكرم زعيما ذبح رجاله عناصر الأمن المجردة من السلاح ورجال الإطفاء والتمثيل بجثتهم والتبول فوقها. هذا ما يؤكد أننا أمام مرتزقة أكدوا على أن ثقافتهم ليست عربية أو أمازيغية أو إسلامية ، لأن لا أحد من هؤلاء يفعل ذلك بقتلاه حتى في ساحة المعركة. وما يلفت حقا إلى هذه التظاهرة التي أظهرت ضعفا وهشاشة في قراءة المشهد الصحراوي حتى أنها أعادتنا إلى جانب آخر من الضحالة في تمثل الشعارات الثوروية بشكل يوحي بأن الإخوة في هذا البلد الشقيق لم تهب بعد عليهم رياح المتغيرات الجديدة وثقافة جيل على الأقل يميز بين الثوروية الجادة والثورية الوظيفية. حاول النائب والسياسي بوقطاية أن يسيء إلى المغرب ورموزه بصورة فجّة وغير مسؤولة. صور الأحداث بطريقة مليئة بالمغالطات. تحدث عن وجود طائرات مخيفة كما لو أن وجود مروحية فوق سماء مشهد تخريبي مثل الذي عرفته مدينة العيون هو أمر يدعو حقا للدهشة. ولو كان الأخ بوقطايا يشاهد الأفلام الهوليودية لاكتشف بنفسه أن المروحية مثل السيارة من إجراءات الأمن التي تستعملها قوات الأمن في الدولة الأكثر ديمقراطية في مطاردة شخص واحد خارج عن القانون في مخالفة جنحية وليس عن معسكر كامل من التخريبيين. وقد اتضح أن تلك المروحية هي التي نقلت صورا عن فضيحة القتل والتخريب التي قامت بها عصائب البوليساريو في الداخل. حتى الهسليكبتر كانت في مهمة تصويرية إن شئت داخل صنف آخر من المعارك: المعركة الإعلامية التي أحبطت المؤامرة. وما لا أفهمه من الأخ بوقطايا هو أنه يعتبر المغرب يستقوي بفرنسا في موضوع الصحراء. وكأن الإخوة في الجزائر لا يكفيهم كم استطاعوا أن يقنعوا من دولة في العالم بالمغالطات في موضوع الصحراء دون جدوى. اليوم تصطف الجزائر إلى جانب إسبانيا التي تلعب دورا مهما في إقناع باقي أعضاء الاتحاد الأوربي للضغط على المغرب بخصوص ملف الصحراء. ترى من يقف إلى جانب القوى الغربية في هذا الموضوع؟ وينسى الأخ بوقطايا أن فرنسا كانت وراء هذا المأزق التأريخي للنزاع حول الصحراء الذي هو في الأصل ملف مفتعل لإلهاء المغرب عن حقه في استرجاع الأراضي المغربية التي تحتلها الجزائر. هناك تواطؤ ضمني بين اسبانياوالجزائر لسبب واضح جدا: أنهما معا يستوليان على قطعة من التراب المغربي. وطبعا لا نتحدث عن احتلال الجزائر لها ، وإنما نتحدث عن أن الجزائر بعد الجلاء حافظت على الجغرافيا الكولونيالية للجزائر ، باعتبار أن ما استدخل من أراضي مغربية كانت قد قامت به فرنسا. حينما ضمت فرنسا مناطق مغربية، اعتبرت ذلك بمثابة ضمّ لأراضي مستعمرة إلى الجزائر بوصفها جزءا من التراب الفرنسي. والحكاية طويلة وهي ما كان وراء اندلاع حرب الرمال. لقد أظهر بوقطايا عداؤه السافر للمغرب واستهتاره بوموزه وشعبه قبل الدولة. لأنه يدرك تماما أن مسألة الصحراء هي موضوع إجماع المغاربة وإن اختلفوا في التدبير وفي الرأي. ومع أنه لم يوفر تهديداته أو بالأحرى رسائله التهديدية للمغرب ، نسي أن يقرأ تاريخ المغرب الذي يبدو أكثر بعدا في التاريخ ، بأن المغرب لم يخض حربا وخسرها في الأعم الأغلب. فحينما يأتي سياسي شبه ناطق رسمي باسم الحكومة ويحرض ويهدد ، نقف على صورة الهشاشة في سياسة الأشقاء الذين لا نؤيد أي حرب ضدهم ، وإن كانوا لا يملكون تخويف المغرب. يملك المغرب أن يقول ردا على مثل هذا الخطاب التحريضي للسي بوقطايا بالقول بدل أن تدعو المغرب إلى أن يتقدم أبعد من ذلك لإعلان الحرب على الجزائر ، أن ندعو الجزائر أن تخرج المغرب من صحرائه التي يوجد فيها. وفي تقديري إن هستريا التحريض لا يمكن أن تكون إلا هوسا لمن لا يهتم بمصلحة البلدين ومستقبل استقرار وتنمية مجتمعاته. فالجزائر لا تخيف المغرب كما أن المغرب لا يهدد الجزائر ، فلم أصبح قدر المنطقة أن تعيش على هذه الكراهية التي يبدو لي أن الإخوة في الجزائر حريصون على الاحتفاظ بها ، لأنني لا أجد في المغرب أي إحساس من هذا القبيل تجاه الأشقاء الجزائريين. إلاّ أن يقال أن الجزائريين لا يهمهم حلّ مشكلة الصحراء ، لأنهم يعتقدون أن المغرب متى انتهى منها فحتما سينازلهم في ما اقتطعته فرنسا من المغرب لصالح الجزائر الفرنسية أنذاك. وهذا يعزز قناعتنا بأن مشكلة الجزائر لا تكمن في الرغبة في أن يكون لها ممر إلى المحيط الأطلسي . فهي تدرك أن المغرب تعامل مع الجزائر دائما بمنطق الكرم والأخوة حتى أنه لا يثير مسألة الحدرد بين المغرب والجزائر. فممر للمحيط الأطلسي لن يتم عبر الجمهورية الخيالية إذ بإمكان المغرب أن يصبح كله ممرا للجزائر إلى الأطلسي إن هي تخلت عن ثقافة الكراهية وأطلقت سراح الاتحاد المغاربي وفكرت بحسّ قومي ووحدوي ويمنطق حسن الجوار. وعلى عكس ذلك ، يبدو لي أن المسألة تتعلق بخوف مزمن للجزائر تجاه المغرب : فإلهاء المغرب في الصحراء يمنعها من إثارة مسألة الأراضي المغربية داخل الحدود الجزائرية كما قلنا. وحتما إن كانوا وحدهم يتصورون وجود مغرب بدون صحرائه ، فهذا كان أحرى أن يلهمهم خوفا مضاعفا. إن مغربا متخيلا من دون صحرائه سيمنحه فرصة وإصرارا أقوى للتعويض بانتزاع أراضيه الشرقية والشمالية. وهذا ما يؤكد أن الجزائر لا تسعى إلى حل مشكلة الصحراء حتى لصالح جبهة البوليساريو التابعة للاستخبارات الجزائرية؛ إنها تريده ملفا مفتوحا لاستنزاف المغرب إلى يوم الدين. وهذا كافي ليدفع المغرب إلى سحب البساط من تحت الجزائر التي أدمنت لعبة الحرب الباردة، من خلال الإقدام على مبادرات جريئة ومتابعة وتكريس الجهوية الموسعة ونسيان أن هناك من يمثل الصحراويين في الخارج ومواصلة البناء والتعمير والتنمية والمضي في المسار الديمقراطي : إن مغربا حرّا مفتوحا تنمويا وحده يكفي لإحباط مؤامرات خصوم الوحدة الترابية المغربية؛ لا سيما إذا كانوا لا يتقنون من تلك المؤامرات إلاّ ما كان قد تجاوزته رياح التغيير الدولية.