سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الجنرال أوفقير كان رجل فرنسا بالمغرب ودافع عن بقاء القواعد الأمريكية الجنرال القباج شعر أن هناك شبهة ما حول تحليق طائرات للخفر إلى جانب الطائرة الملكية
كان الحسن الثاني يثق ثقة كبيرة في مجموعة من جنرالاته، الذين كانوا على رأس العديد من الأجهزة العسكرية والأمنية، بل كان يسمح لقلة منهم بزيارته في مخدع نومه دليلا على الثقة الكبيرة التي كان يضعها فيهم، وجمعته بأغلبهم علاقات أسرية حيث كان أبناؤهم وزوجاتهم يدخلون القصر الملكي بشكل اعتيادي، لكن ما لم يكن يدور بخلد الحسن الثاني هو أن يتحول بعض هؤلاء الجنرالات إلى أشد أعدائه، بل يتجاوزون ذلك إلى محاولة تصفيته جسديا. في هذه السلسلة نحاول أن نرصد مسار أهم هؤلاء الجنرالات وعلاقتهم بالأحداث التي غيرت وجه المغرب السياسي في العقود القليلة الماضية. لم يكن الجنرال محمد أوفقير يقبل بأقل من سيناريوهين أو ثلاثة قبل الإقدام على تنفيذ أي عملية، فقد كان الهاجس العسكري يسيطر عليه، كأنه يخوض حروبا طويلة النفس. ولعل أبرز ما يدل على هذا النوع من التفكير أنه خلال ذهابه إلى باريس في الثلاثين من أكتوبر 1965، ضمن ملاحقته للزعيم التاريخي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية المهدي بن بركة، مهد لذلك بأكثر من سيناريو. من ذلك أنه غادر باريس في اليوم الموالي لزيارة زوجته في جنيف، بالرغم من أنهما كانا قد افترقا قبل ذلك، وقد زعم أوفقير أن الطلاق لا يلغي زيارة الأبناء الذين كانوا برفقتها، عدا أنه سيعود للارتباط بها مجددا بعد تطليق زوجته الثانية فاطمة التافراوتية التي تذهب بعض الأوساط إلى أن الحسن الثاني كان قد اقترح عليه الزواج منها بعد تردي علاقته مع زوجته الأولى. من بين السيناريوهات التي لم تكن غائبة عن ذهن الجنرال أوفقير أنه سيبرر عودته ثانية إلى باريس قادما إليها من جنيف، لحضور حفل تخرج رجال سلطة مغاربة كانوا تلقوا تداريب مهنية في فرنسا، ولم يكن واردا لدى أي من المسؤولين الفرنسيين في الاستخبارات والداخلية أن يشككوا في ظروف تلك العودة التي لا شك أنها أخفت وقائع فصل آخر في وضع المسالك التي أضاعت طريق البحث أمام الأمن الفرنسي، الذي لا ينكر أحد أنه تلكأ طويلا في بدء التحقيق في قضية اختفاء المعارض المهدي بن بركة من وسط عاصمة النور باريس. فقد كان يريد إيهام أصدقائه الفرنسيين بأن لا يد له في الموضوع، لكن حوارا تسرب بين وزير الداخلية الفرنسي آنذاك ومسؤول في الاستخبارات، خلال الحفل الذي أقامته السفارة المغربية في باريس، طرحت فيه قضية اللجوء إلى اعتقال أوفقير والتحقيق معه، ويبدو أن بعض الأطراف القريبة إليه وضعته في صورة ذلك الحوار، ما حذا به إلى مغادرة فرنسا في اليوم الموالي، لتنطلق بعد ذلك عاصفة من الانتقاد وردود الأفعال، عبر عنها بوضوح الرئيس الفرنسي الجنرال شارل دوغول، الذي أعلن رفضه تصفية أي حسابات سياسية داخل التراب الفرنسي، ومن يومها لم تطأ قدما أوفقير أرض فرنسا التي ظل يفاخر بأنه قدم لها المزيد من الخدمات، لكنها تنكرت له عند المنعطف، ولعلها المرة الأولى التي فطن فيها الجنرال إلى أن السيناريوهات التي كان يخرجها للالتفاف على الأحداث، لم تساعده هذه المرة في النجاة من توجيه أصابع الاتهام له. نفس المنطق ساور الجنرال أوفقير وهو يبدو أقل حذرا واهتماما بما كان يخطط له الجنرال المذبوح في صيف 1971، فقد أفادت تحريات غير متداولة أنه أبدى يوما شكوكه حيال ولاء أطراف عدة في المشهد السياسي، وحين استفسره الحسن الثاني عما يعنيه تحديدا من خلال تلك الشكوك، ركز انتقاداته على أحزاب المعارضة، وتحديدا على نشطاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بيد أنه كشف، يوما، أن تحركات بعض هؤلاء لم تكن بعيدة عن عيونه المبثوثة في كل اتجاه، ما يفسر كيف أنه كان يحاول استقطاب متعاونين من داخل الدائرة الضيقة لمناهضي النظام، عبر الضغط عليهم أو الزج بهم في المعتقلات، عبر تلفيق التهم، ولم ينفع أسلوبه هذا في إخماد حركة المعارضة. كان الحسن الثاني يعي جيدا أن خلافاته مع المهدي بن بركة زادت اتساعا منذ اكتشاف عملية حجاج الذي كان يعتزم اغتياله وهو ولي للعهد، وكان يعرف أن الإطاحة بحكومة رئيس الوزراء عبد الله إبراهيم لا يمكن أن تمر دون مضاعفات، لكن ما عمق الهوة أكثر هو الموقف من دستور 1962، حين اعتبر رفضه إعلانا صريحا بالدخول في مواجهات مفتوحة، وبحكم تأثير هذه التطورات، لم يشأ أن يمعن كثيرا في إخلاص وزيره في الداخلية، الذي صرح أمامه مرات عديدة بأن الشكوك تنتابه حيال إمكان تعرض النظام إلى مخاطر، فقد كان الأمر واردا في إطار صراعات سياسية استخدمت فيها كل الوسائل، غير أن الشكوك لم تتجه نحو بعض القادة العسكريين، مثل الجنرال محمد المذبوح الذي كانت رفقته للملك تتعدى المشاركة في لعبة الغولف نحو ممارسة رياضات أخرى. من الصدف أن تكون إحدى تلك الرياضات التي همت ركوب الخيل تمارس بدورها غير بعيد عن مسالك الغولف في غابة صغيرة مجاورة، ستمتد لاحقا لتصبح متنفسا للعاصمة الرباط ضمن ما يعرف بالحزام الأخضر الذي أقيم بعد مرور سنوات ليفصل الرباط عن امتداداتها الجنوبية، فقد كان المذبوح وجنرالات آخرون يمارسون نفس الرياضة إلى جانب الملك في المكان ذاته. وربما فكر أوفقير في أن انتقاد بعض الشخصيات العسكرية، وعلى رأسها الجنرال المذبوح، سيفتح عليه أبوابا يريدها أن تبقى مغلقة إلى الأبد مثل الأسرار. كان أوفقير رجل فرنسا بامتياز، لكن علاقاته لم تكن متوترة مع الأمريكيين، فقد ظل من أبرز المدافعين عن بقاء القواعد الأمريكية في البلاد. وكان طرفا محوريا في البدايات الأولى لربط الاتصالات مع الكيان الإسرائيلي إلى درجة أنه المسؤول المغربي الذي قام بأكبر عدد ممكن من الزيارات السرية لإسرائيل. لكنه لم يكن مرتاحا للعلاقات التي أقامها المذبوح مع بعض الأوساط الأمريكية، وربما لهذا السبب ظل يردد أن المذبوح ذو نزعة قومية، في إشارة إلى ثورة الضباط الأحرار في مصر. بل إن الملك الراحل الحسن الثاني لم يغضب لشيء أكثر من ردود الفعل المصرية التي جاءت بعد المحاولة الانقلابية الأولى في الصخيرات، حين كتبت صحيفة «الأهرام» المصرية التي كان يرأس تحريرها الكاتب محمد حسنين هيكل، مساندة تلك المحاولة. غير أن السيناريو الذي سيخرجه أوفقير من جعبته، سيربط بين موقف صحيفة «الأهرام» واسعة الانتشار وقتذاك، وتداعيات حرب الرمال بين القوات المغربية والجيش الشعبي الجزائري، خصوصا حين أعلن الرئيس جمال عبد الناصر وقوفه إلى جانب الثورة الجزائرية، فيما سيحتفظ أوفقير بالموقف الذي اتخذه المعارض المهدي بن بركة حيال تلك الحرب كمبرر للدعوة إلى تصفيته، في ضوء صدور حكم بإعدامه بتهمة مساندة قوى خارجية ضد بلاده. أما لماذا لم يذهب أوفقير بعيدا في تقصي ما كان يخطط له المذبوح، فالمسألة في غاية البساطة، ذلك أن منطقه في النظر إلى الأشياء يكمن في مقولة واحدة: إذا أفلح في تنفيذ الخطة، فإن ذلك سيكون لفائدة أوفقير، وإذا فشل فإن الموت غير الرحيم سيكون في انتظاره. وهذا ما يتجلى بوضوح في المشهد المثير لغياب الجنرال أوفقير عن الوقائع الأولى لحادث الصخيرات، ذلك أنه لم يظهر إلا بعد أن استتب الوضع إلى حد ما. حين عهد إليه الحسن الثاني بكل الصلاحيات لإعادة الأمور إلى نصابها. وإنها لمفارقة أن يكون الرجل الذي حارب في ساحات الميدان تراجع إلى الخلف أمام هول المشهد، ليس من أجل حماية نفسه، ولكن من أجل حماية ما كان يخطط له. ليس مفهوما أن يكون الجنرال أوفقير وقد شرع في تنفيذ مشروعه الذي رهنه بالسادس عشر من غشت 1972، انتظر إلى حين هدوء العاصفة ليتوجه إلى القصر الملكي في الصخيرات. وليس مفهوما أن يكون اطمأن إلى سيناريو واحد في عملية يكتنفها المزيد من التعقيد فقد عرف عنه أنه يضع المزيد من السيناريوهات حتى إذا أخفق واحد أخرج من تحت قبعته سيناريو بديلا ثانيا وثالثا. كما آلت المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات إلى إعدام جنرالات وضباط بسرعة لافتة، لإعطاء درس قاس لكل من سولت له نفسه تكرار العملية، فإن قطع رؤوس الضباط المشاركين مباشرة في حادث الطائرة أمثال العقيدين امقران وكويرة لم يكن مستبعدا إذا أخفقت التقديرات في الإلمام بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة. غير أن هذا القرار الذي كان يضعه أوفقير في جيبه، ليس هو كل شيء، فثمة سيناريوهات أخرى يجوز التخمين أنها ظلت تراوده منذ أن ركب الحسن الثاني طائرته القادمة من باريس في اتجاه الرباط، وربما كانت المفاجأة أن الرحلة توقفت في مدريد على غير ما كان متوقعا ومقررا في الرحلة الأصلية التي كان أوفقير يرصد أدق تفاصيلها، ما أحدث بعض الارتباك في توقيت الانطلاق الطائرات المغيرة التي اتخذت من شعار خفر الطائرة الملكية لدى دخولها الأجواء المغربية أسلوبا للتمويه. وربما، وهذا هو الأهم، أن أوفقير لم يكن واردا في خطته أن تتمكن الطائرة الملكية أصلا من الوصول إلى وجهتها المرسومة بعد الإقلاع. فثمة حكاية غيبت عن أي تداول، كانت فصولها تدور بين باريس والرباط قبل أن تتمكن الطائرة من دخول الأجواء المغربية. روى أحد شهود المرحلة أنه لم يعاين إصرار الجنرال محمد أوفقير على تتبع التفاصيل الدقيقة للرحلة الملكية، كما حدث في السادس عشر من غشت 1972. فقد جرت العادة أن يكون الرجل في صورة موعد إقلاع أي طائرة. لكن من دون الغوص في جزئيات الرحلة، وما فعله أوفقير يوما أو يومين قبل عودة الملك الحسن الثاني من رحلته الخاصة إلى باريس، التي دامت بضعة أسابيع، أنه كان يسعى لمعرفة أي شيء عن ظروف تلك العودة، فهل كان الأمر يتعلق بخطة بديلة أعدها رفقة شركاء آخرين محتملين أم أنه القلق إزاء الخطة الأصلية، كان يدفعه إلى التأكد أكثر من كل السيناريوهات التي رسمها. لعل الدمعة التي نزلت على خد الجنرال أوفقير وهو يحضر مراسيم توديع الملك في تلك الرحلة التي انطلقت من محطة القطار في العاصمة الرباط، في الطريق إلى طنجة التي أقل منها باخرة نقلته إلى فرنسا، كانت تشي ببعض ملامح تلك الخطة، ربما كانت تلك طريقته لتوديع الملك للمرة الأخيرة، كما تصورها الجنرال العنيد الذي لم يكن قلبه يلين لأي مشهد، وربما لأنه كان يغالب نفسه بين الطموح الأهوج والإذعان لما تصوره نهاية للنظام، غير أن بعض الوقائع التي سبقت تلك الرحلة ستكشف في الآتي من الزمن أن أوفقير أقر العزم على أن تكون بداية النهاية متناسيا أن الأقدار كانت في طريقها لإحباط محاولته على خلاف كل التوقعات والاستقراءات. هنا أيضا سيظهر دور آخر لجنرال آخر اسمه محمد القباج، كان أول من استفسر الملك الحسن الثاني وهو على متن الطائرة إن كان أصدر أمرا بتحليق طائرات خفر تحيط بالطائرة الملكية لدى دخولها الأجواء المغربية. وقد فهم الجنرال القباج لدى تيقنه من أن ذلك لم يحدث أن في الأمر شبهة فوق كل الشبهات فثمة جنرالات من عيار آخر سيختارون أن يكونوا باستمرار إلى جانب الشرعية، كما في أي صراع لا يدور بين العسكريين والمدنيين فقط، ولكن بين العسكريين أنفسهم، ستتجلى مظاهره في معارك لا تدور في ساحة القتال، وإنما في دهاليز مظلمة، بعيدا عن الأضواء وعن التداول، بل وحتى عن التفكير.