بعد "الجيل الأول" أو "الموجة الأولى" والثانية للتراخيص التي منحتها الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري سنتي 2006 و 2009، منحت هذه الأخيرة يوم 12 نونبر الجاري 2019، ترخيصا جديدا لخدمة إذاعية موضوعاتية تحمل اسم "صول راديو"، و تتمحور برمجتها حول الموسيقى والترفيه، وتبث عبر الشبكة الهرتزية الأرضية بالتشكيل الترددي إف.إم. بعد أن منحت السنة الماضية 2018 ترخيصا آخر لخدمة إذاعية موضوعاتية موسيقية تحمل اسم "أزوان"، تبث هي الأخرى عبر الشبكة الأرضية. وقبل ذلك وفي نفس السنة 2018 تم الترخيص لبعض الخدمات التلفزية التي تبث بواسطة الأقمار الاصطناعية، ويتعلق الأمر بكل من: الخدمة التلفزية "تيلي جونيس" المخصصة للشباب وتتمحور حول التربية والترفيه و"تيلي ديكوفيرت" المخصصة لصنف الوثائقي وتتمحور حول البرامج التربوية والترفيهية، في يوليوز 2018، وكلاهما لنفس الشركة "هييت راديو" لصاحبها يونس بومهدي صاحب المحطة الإذاعة "هييت راديو" التي حصلت على الترخيص منذ 2006. إضافة إلى الخدمة التلفزية "شدى تيفي" التي تتمحور حول ما أطلق عيه الترفيه الثقافي، الفن والموسيقى، لصاحبها رشيد الحايك صاحب شركة "شدى راديو" التي حصلت هي الأخرى على ترخيص الخدمة الإذاعية "شدى راديو" منذ 2006. ويلاحظ أن كل هذه التراخيص التي منحت مؤخرا اعتمدت مسطرة التراضي في منحها بدل الإعلان عن المنافسة وجلها تتمحور حول الموسيقى والترفيه، وهذا يطرح علامات استفهام كثيرة حول هذا الاختيار أو التوجه، ومفروض على الهيئة العليا أن تقدم حججها وتعليلها أو على الأقل مبرراتها لهذا الاختيار والتوجه، وهنا نسجل غياب أية معلومات أو تواصل في هذا الجانب اللهم بلاغات يتيمة حول منح التراخيص. وفي هذا السياق يجب التأكيد على أن مهمة منح التراخيص والأذون ليست مجرد عمل تقني إجرائي صرف بدون خلفية، ولكنها في الواقع عمل استراتيجي له أهداف محددة سياسيا واقتصاديا وسوسيو_ثقافيا.... ، فسلطة منح التراخيص، تجديدها، تعديلها أو إلغاؤها، سواء تعلق الأمر بإحداث واستغلال الخدمات السمعية البصرية، أو باستعمال الترددات الراديو كهربائية المخصصة للاتصال السمعي البصري والتي منح المشرع للهيئة العليا سلطة تعيينها، تسمح لها بضبط القطاع وتفعيل السياسة المحددة من طرف السلطات العمومية، والتي تدخل ضمن المهام الأساسية لهيئة الضبط كما تنص عليها النصوص المؤطرة لمهامها واختصاصاتها، والقانون 77.03 المتعلق بالاتصال السمعي البصري. لذلك نثير الانتباه إلى أن التوجهات الإستراتيجية والخطوط الكبرى لتدبير قطاع الاتصال السمعي البصري، كسياسة عمومية، تم تحديدها من طرف السلطات العمومية من خلال القانون 77.03. إلا أن المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري بحكم الاختصاصات الممنوحة له بمقتضى القانون والمتمثلة في سلطة منح التراخيص، يعمل على تصريف هذه الإستراتيجية من خلال مجموعة من القواعد والمساطر التي تم وضعها من أجل تقييم الطلبات والمشاريع وشكليات اتخاذ القرار وكيفية تتبع التراخيص والأذون التي يتم استغلالها. ومن المفروض على الهيئة العليا أن تستعين في عملها بمجموعة من المقاربات منها ما هو قانوني (تفحص شروط قبول الملفات والطلبات، إعداد دفاتر التحملات...إلخ)، وما هو تقني (التدبير المعقلن لطيف الترددات الراديو كهربائية، جودة تجهيزات الإنتاج و البث...إلخ)، ما هو مالي (التوزانات المالية الأساسية للمشاريع، مردوديتها، الهيكلة والتركيبة المالية...إلخ) وما هو اقتصادي (تحديد مبلغ المقابل المالي، حجم إحداث مناصب الشغل والثروة، التأثير على الجهة...إلخ)، وما هو سيوسيو ثقافي وتواصلي (مضمون البرامج المقترحة...إلخ). وفي هذا السياق لابد من التذكير بأن من بين المبادئ الأساسية التي تبناها أول مجلس أعلى للاتصال السمعي البصري الذي كان يترأسه الأستاذ أحمد الغزلي هو اعتماد الخيار الذي ينبني على مهمة الضبط "الديناميكية" والتي تتعارض مع منطق الضبط من نوع "الشباك السلبي guichet passif"، ويعتبر هذا الاختيار ترجمة لرغبة المجلس الأعلى ،في صيغته الأولى، في عدم جعل الهيئة العليا مؤسسة تتلاءم وتتكيف فقط مع الطلب المعبر عنه من طرف السوق بل من خلال جعل عملها يستجيب لرؤية وإستراتيجية تتطلب البحث عن تحقيق أهداف كبرى. ومن بين الأهداف التي أعلنت الهيئة العليا،أنذاك، عن رغبتها في تحقيقها في إطار تصورها وإستراتيجيتها لضبط قطاع الاتصال السمعي البصري هو توفير مشهد بصري إذاعي يتميز بمايلي: 1- التنوع، والتنوع هنا سواء فيما يتعلق بتنوع المتعهدين أو تنوع البرامج. 2- التكاملية، من خلال نوع التغطية (وطنية كانت، جهوية أو محلية)، وموضوع وطبيعة الخدمة( عامة أو موضوعاتية)، ومن خلال البرمجة، وأيضا التكاملية من حيث الطبيعة و التوجه. 3- التوازن، سواء من الناحية الترابية وتنوع البرامج. وكل هذا من خلال تبنيها لمقاربة تدريجية. لذلك يطرح السؤال هل نجحت الهيئة العليا في تحقيق أهدافها وتصورها الاستراتيجي؟ وهل مازالت الهيئة، مع المجلس الأعلى الحالي، ترمي إلى تحقيق نفس الأهداف أم أنها رسمت أهداف جديدة وتصورا بديلا ؟ إن المتتبع العادي لتجربة هيئة الضبط المغربية سيلاحظ أن تجربة أول مجلس أعلى للاتصال السمعي البصري، التي ترأسها ذ.أحمد الغزلي (2003-2012) كانت متميزة ومؤسسة في كل الجوانب، رغم كل الملاحظات التي يمكن تسجيلها والانتقادات التي يمكن توجيهها لهذه التجربة، (تسوية الوضعية القانونية للمتعهدين، إعداد ووضع أدوات ووسائل الضبط من مساطر إجراءات، منح تراخيص إذاعية بما لها وما عليها، تفعيل بعض المهام الضبطية للهيئة، إصدار قرارات ذات طبيعة معيارية كالقرار المتعلق بتدبير التعددية السياسية وقياس نسب المشاهدة والاستماع وقرارات ذات هدف بيداغوجي ....). في مقابل ذلك كانت تجربة المجلس الأعلى الثاني الذي ترأسته ذة أمينة الوهابي المريني( من ماي 2012 إلى دجنبر 2018) ، بشكل عام، تجربة لم تترك أي شيء يذكر ولم تقدم أية قيمة مضافة في مسار تجربة الضبط على كافة المستويات، بصريح العبارة كانت تجربة ضعيفة ولم تحقق شيئا يذكر. أما اليوم ونحن أمام تجربة ثالثة لهيئة الضبط مع تعيين المجلس الأعلى في صيغته الجديدة منذ دجنبر 2018، والذي تترأسه ذة.لطيفة أخرباش، فإن هناك ترقب وانتظار لتظهر ملامح المسار الذي ستأخذه تجربة هيئة الضبط وهل سيكون هناك استمرار في نفس التصور الاستراتيجي الذي وضعه أول مجلس أعلى، أم أن هناك رؤية وتصور جديد لقطاع الاتصال السمعي البصري الذي ينتظر منه الشيء الكثير وبالخصوص مع التحولات الكبرى التي تعرفها بلادنا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتكنولوجيا، وكذا مشروع الجهوية المتقدمة الذي من المفروض أن يكون الإعلام السمعي البصري أحد رافعات إنجاحه، فلا يمكن أن نتصور جهوية متقدمة بدون إعلام قرب حقيقي جهوي تعددي وجدي ومهني مواكب لتنزيل الجهوية. لذلك فنحن محتاجون اليوم لتقييم موضوعي لتجربة مايقارب 14 سنة من فتح المبادرة أمام القطاع الخاص، ولتجربة ثلاث مجالس عليا للاتصال السمعي البصري لنخرج ببعض الخلاصات الموضوعية حول واقع ومآل ضبط قطاع الاتصال السمعي البصري، وبناء عليه تطرح عدة أسئلة من قبيل هل السياق السياسي والاجتماعي الذي يعرفه المغرب يحتاج فقط إلى إذاعات ترفيهية وموسيقية؟ وهل مازالت الهيئة وفية للتصور الاستراتيجي الذي وضعه أول مجلس أعلى عندما بدأ تحرير المشهد الإذاعي عمليا في ماي 2006، أم أن هناك انحرافا عن ذلك التصور الاستراتيجي، أو أن هنالك تصورا آخر بديل؟ أي أفق لتحرير المشهد السمعي البصري في إطار مشروع الجهوية المتقدمة الذي من المفروض أين يكون الإعلام السمعي البصري أحد مرتكزاته؟ لماذا أصبحت الهيئة تلجأ فقط إلى مسطرة التراضي في منح التراخيص؟ هل هناك تقييم موضوعي لواقع ومآلات المشهد السمعي البصري الوطني بعد "التحرير"، بشكل عام، وأية قيمة مضافة للمشهد الإذاعي الحالي؟ ولماذا لم يتم، إلى حدود اليوم، تحرير الخدمات التلفزية....؟ *أستاذ جامعي.باحث في سياسات وقوانين الاتصال السمعي البصري