بين النص القانوني وإشكالية الممارسة الديمقراطية بالمغرب شغل مطلب مأسسة إشراك المجتمع المدني في مسلسل اتخاذ القرار المحلي جزءا مهما من عملية ترافع الجمعيات المدنية والحقوقية المغربية منذ تسعينيات القرن الماضي، خاصة بعد كسب رهان اللامركزية بتنصيص دستوري صريح على إحداث الجهات في دستور 1996؛ إلا أن مطلب المشاركة المواطنة في صنع القرار العمومي لم يتم دسترته إلا بعد أن اكتسحت الاحتجاجات مدن المغرب وجزءا من قراها، في إطار ما يعرف بالربيع العربي أو الربيع الديمقراطي، حيث صارت المشاركة المواطنة مرتكزا أساسا للدولة المغربية الحديثة إلى جانب الديمقراطية التمثيلية (ف 1 من الدستور)، ومكونا رئيسا في إعداد القرارات والمشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية (ف 12 من الدستور)، ووضعت الفصول 13 و14 و15 و139 من الدستور والقوانين التنظيمية الثلاثة التي صدرت سنة 2015 الآليات والفضاءات والإطارات العامة الكفيلة بضمان مشاركة فاعلة للمواطنين والمواطنات وفعاليات المجتمع المدني في صناعة القرار الديمقراطي والتنموي المحلي. وقد هدف المشرع إلى تأطير مطالب المحتجين في شوارع أكثر من 100 مدينة مغربية، داخل هيئات تشاورية محلية ووطنية، وإلى ضمان إيصال آراء ومقترحات ومطالب المجتمع الى الفاعليين السياسيين داخل المؤسسات المنتخبة والمؤسسات العمومية، وبالخصوص مطالب الفئات التي عانت من التهميش والإقصاء والتي شكلت عصب المظاهرات ووقودها، من قبيل الشباب الذي يشكلون 34%من عدد سكان المغرب، والنساء اللائي فاق عددهن عدد الرجال حسب التعداد السكاني لسنة 2014، والأشخاص في وضعية إعاقة... لقد انصب الهدف الأساس من مأسسة آليات الديمقراطية التشاركية والسعي إلى تفعيل أدوارها حول ضمان جودة ونجاعة وفعالية القرار المحلي، وجعله أكثر استجابة لاحتياجات الشباب والنساء والأشخاص في وضعية إعاقة، إضافة إلى خدمة الساكنة المحلية بكل سماتها ومميزاتها، عبر الجماعات الترابية والمصالح الممركزة للحكومة. إن تحقيق هذا الهدف ظل بعيد المنال، حسب المؤشرات الكمية والنوعية لاستعمال هذه الآليات بالمغرب والمستندة إلى بعض المحاولات الأولى لتقييم التراكم الحاصل في مجال الديمقراطية التشاركية، سواء من خلال العرائض المحلية المقدمة للمجالس الترابية أو الملتمسات المرفوعة، أو من خلال تقييم عمل الهيئات التشاورية المحدثة لدى مجالس الجهات والجماعات والعمالات والأقاليم. وتعتبر المجالس والهيئات التشاورية المحدثة بالجماعات الترابية من الآليات المهمة التي كان يعول عليها لتأطير ونحت مفهوم المشاركة المواطنة ومأسسة الديمقراطية التشاركية بالمغرب، من خلال الآراء الاستشارية التي تضمن سن سياسات عمومية دامجة لجل الفئات المجتمعية ومحققة لحكامة ترابية تشاركية. إن الوقوف عند المؤشرات الدالة على مدى عافية استنبات هاته النبة في حقل الديمقراطية المغربي، سواء من خلال ما سبق وأنتجته مخرجات الندوة الوطنية حول "الديمقراطية التشاركية الواقع والآفاق" التي نظمها مركز ابن بطوطة للدراسات وأبحاث التنمية المحلية يوم 19 يونيو 2019، أو من خلال أشغال "الملتقى الوطني للهيئات التشاورية لمجالس الجهات" المنظم من طرف جهة طنجةتطوانوالحسيمة بمعية برنامج تشارك يوم 26 أكتوبر 2019، يكشف أن فهم الديمقراطية التشاركية وممارستها ببلادنا لا تزال بعيدة كل البعد عن فلسفة الديمقراطية التشاركية كما تم تطويرها في الغرب والدالة على التعاون بين المنتخب والفاعل المدني والتكامل في أدوارهما. إن مخرجات الندوة الوطنية حول الديمقراطية التشاركية واللقاء الوطني للهيئات التشاركية حسمت الأمر بأننا لم نعرف الطريق إلى الديمقراطية التشاركية بعد، فما زلنا إزاء تمرين ديمقراطي لفهم معنى الديمقراطية الحقة ومداخلها وآلياتها ومبادئها وقيمها؛ فلا المجتمع المدني استوعب آليات الفعل المدني واستطاع أن يتملك المداخل الدستورية للديمقراطية التشاركية، ولا الفاعل السياسي التزم بمشروعية الديمقراطية التشاركية من أجل تثبيت مشروعية الديمقراطية التمثيلية إزاء التحكم الإداري المركزي، ولا الفاعل الإداري يرغب في التطبيع مع أي دور ديمقراطي حقيقي للفاعل المدني، والذي ينظر إليه كمدخل لاستيعاب المجتمع وامتصاص إمكانات الغضب فيه، أو كأصوات انتخابية محتملة أكثر مما يعده شريكا حقيقيا في بناء الوطن من خلال فعل ديمقراطي وتنموي مكتمل الأركان. ومن خلال النظر في المؤشرات النوعية والكمية التي جرى رصدها في إطار تتبع الفعل المدني المرتبط بتنزيل الديمقراطية التشاركية بالمغرب، يتضح بأن الجمعيات لم ترفع إلى حدود شهر دجنبر 2018 إلا 71 عريضة؛ 4 منها على مستوى الجهات، و5 على مستوى العمالات والأقاليم، و62 على مستوى الجماعات، حسب تقرير للمديرية العامة للجماعات المحلية، وهي حصيلة مرشحة للارتفاع قليلا إذا أضيفت الأرقام المسجلة سنة 2019، حيث تم وضع هذه السنة-مثلا- 12 عريضة بجماعة طنجة. أما بالنسبة للعرائض الوطنية، فلم تودع إلا5 عرائض فقط، تمثلت في : - عريضة من أجل إقامة منشأة مائية على واد "شق الأرض" بدائرة أوطاط الحاج، إقليم بولمان. - عريضة من أجل مراجعة كيفية تنزيل مشروع تهيئة ضفتي واد مرتيل بولاية جهة طنجةتطوانالحسيمة. - عريضة متعلقة بتفعيل الطابع الرسمي والسيادي للغة العربية. - عريضة متعلقة بطلب تكييف الساعة الإضافية (GMT+1) في قطاع التعليم وفي جميع الإدارات والمصالح العمومية. - عريضة ساكنة مدينة طرفاية متعلقة بطلب إلزام شركة أرماس بإزالة حطام سفينة (الخردة) جنحت بسواحل طرفاية منذ 30 أبريل 2008. وقد جرى رفض العرائض الوطنية الأربع الأولى، ولم ترفع إلا العريضة الخامسة إلى السلطات العمومية المعنية. وعلى مستوى الملتمسات، والتي كانت مدخلا محتملا لإشراك الجمعيات في مجال التشريع، فما زالت معطلة إلى الآن، حيث لم يتم رفع أي ملتمس إلى البرلمان المغربي بسبب المعيقات التي وجدها الفاعل المدني في تلابيب القانون المنظم لتنزيل هذا الحق الدستوري. كما أن آليات تنظيم التشاور العمومي ما زالت إلى اليوم خارج أي تأطير قانوني، الأمر الذي يعطل هذه الآلية ويضيع على الجمعيات والفاعليين المدنيين والمواطنين جزءا مهما من حقهم الدستوري في المساهمة في بلورة وتتبع وتقييم السياسات العمومية. أما مشاركة الهيئات التشاورية، التي تم إحداثها وفق المقتضيات القانونية للجماعات الترابية الثلاث، فتظل دون مستوى التطلعات لأسباب متعددة، يتعلق بعضها بطريقة إحداثها التي تحكمت في أغلب تجاربه معايير مصلحية أو علائقية أو حزبية، ويتعلق بعضها الآخر باختصاصات هذه الهيئات التي تم تقزيمها وحصرها بكيفية تجعلها أبعد أن تكون هيئات للمراقبة والنزاهة والشفافية. أما الفاعل المدني في معظم هذه الهيئات فقد ظل عاجزا عن تطوير قدراته من أجل ممارسة الاختصاصات الدستورية والقانونية الموكولة إليه، حيث ظل ينتظر الفاعل المنتخب ليأخذ بيده، بحكم تحكمه في الموارد الممنوحة وفق القانون المنظم للجماعات الترابية، وهو ما لم يحدث مع ثلثي الهيئات التشاورية المحدثة منذ 2015 التي ما زالت إلى الآن في حالة من الضبابية والانتظارية. وتتمثل أبرز الإشكالات والتحديات التي تعوق تطور آليات الديمقراطية التشاركية بالمغرب، فيتواجد بنيات متحكمة في الفعل المدني، يمكن إجمالها في: البنية الثقافية والسياسية : لا يزال مفهوم الديمقراطية، في بعديها التمثيلي والتشاركي، من المفاهيم التي تطرح غموضا بالنسبة إلى المواطن العادي، حيث يعتبرها استمرارا للبنية التقليدية في الحكم التي لا يثق فيها ولا في مخرجاتها، ويفضل مقاطعتها والعيش على هامش الفعل الديمقراطي، الذي يقاطع فيه ثلثا الساكنة التي لها حق الانتخاب العملية الديمقراطية، ولا ينتمي فيه إلا 1 في المائة من الشباب للأحزاب السياسية وينخرط منهم 8 في المائة فقط في جمعيات المجتمع المدني. كما أن عدم تمرس المجتمع المدني على آليات الديمقراطية التمثيلية وعدم استيعابه المطلوب من الديمقراطية التشاركية حصرا أقصى أهدافه في المساهمة في اتخاذ القرار عبر آليتي العرائض والآراء الاستشارية، ولم يتجاوزها إلى المشاركة في إصدار القرار بصفة مباشرة، فصار الجمود يتسرب إلى الهيئات التشاورية بمجرد تقديم تقرير أو رفع رأي استشاري لم يؤخذ به من طرف رئيس المجلس، ناهيك عن الخلط بين الثقافة السياسية والثقافة المدنية في الممارسة التشاركية بالمغرب. الأولى تعمل على التدافع المحموم للوصول إلى السلطة سواء عبر طرق مشروعة أو أخرى قد تنهل من أدبيات "كتاب الأمير" لميكيافيلي، وتتمحور الثانية على تقديم الدعم اللازم والمشورة للأطراف المنتخبة لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع لا غير؛ إلا أن الملاحظ أن الكثير من المنتخبين الذين فشلوا في المواقع الانتخابية يصيرون فاعلين مدنيين داخل هذه الهيئات بعقلية السياسي الخصم بدل روح المدني التواق للتنمية والعيش الكريم، بغض النظر عما يموج ويروج في العلبة السياسية السوداء. البنية القانونية والتنظيمية على الرغم من النفس الإيجابي للدستور المغربي لسنة 2011، الذي سعى إلى تأطير احتجاجات المواطن الناقم على مؤسسات الوساطة التي لم تنجح في ضمان تمتعه بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية، والذي كان فرصة لإعادة ترميم البناء الديمقراطي المغربي بما يتيح للمواطن المغربي المساهمة في بناء الوطن والتمتع بخيراته بشكل متساوٍ وعادل وفق آليات للفعل الديمقراطي والتنموي تحددها فصول دستورية جاءت مفعمة بروح خطاب 9 مارس 2011. إن القوانين التنظيمية، التي صدرت سنة 2015، حادت عن المحافظة على الروح الإيجابية للدستور، وصيغت بنفس تراجعي حضر فيه مبتغى الأحداث عوض مبتغى إنجاح هذه المقاربة التشاركية المستجدة على الحقل الديمقراطي الوطني؛ فجاءت ضعيفة المحتوى على مستوى تكريس أدوات وآليات ضامنة للتنزيل الإيجابي لتلك الآليات التشاركية التي تؤسس لموقع دستوري جديد للفاعل المدني، وهو ما ينكشف في المستويات التالية: اعتماد التعيين في الهيئات التشاورية التي تم إحداثها، سواء على المستوى المحلي أو الوطني، الأمر الذي أفرغها من الفاعليين المدنيين المستقلين سياسيا، بعد ضمان كوطا للأحزاب المسيرة للمجالس؛ وهو ما جعل العمل التشاركي مرتهنا للمعطى السياسي أقرب منه للفعل المدني. - توجه المشرع المغربي إلى الاهتمام بالشكل عوض المضمون، حيث تم تعطيل العديد من هذه الآليات التشاركية بسبب التشدد في الشكليات والشروط من قبيل الإحالة غير المبررة على القانون 57.11 المنظم للشروط التسجيل في اللوائح الانتخابية بالنسبة إلى العرائض المرفوعة من المواطنين والمواطنات، وفرض عدد مبالغ فيه من الموقعين على الملتمسات، فكانت النتيجة أن لا ملتمس تم تقديمه إلى الآن. وشواهد أخرى عديدة في الموضوع، مما يوضح أن البرلماني المغربي بتشريعه للقوانين التنظيمية للجماعات الترابية انتصر للمدرسة التقليدية المتحكمة في زمام العملية الديمقراطية المغربية، عوض الانتصار للمقاربة التشاركية والمساهمة في مأسسة الفعل المدني من داخل العملية الديمقراطية التمثيلية نفسها. - الغموض والفراغ في النص القانوني المنظم لآليات الديمقراطية التشاركية جعل تنزيل هذه الآليات رهينا بأهواء المنتخب وحساباته، بدل أن تكون أداة لإدماج حقيقي للفاعل المدني في مسلسل اتخاذ القرار العمومي. عموما، نعتقد جازمين بأن المرحلة السابقة، التي امتدت منذ التنصيص الدستوري سنة 2011 ثم التنزيل القانوني لآليات الديمقراطية التشاركية عبر القوانين المنظم للجماعات الترابية الثلاثة سنة 2015، كانت مرحلة للتطبيع مع الأدوار الجديدة للمجتمع المدني الذي انتقل حسب الوثيقة الدستورية وطبيعة التعاقدات التي أفرزتها من ممارسة أدوار تقليدية متمثلة في تعزيز التضامن بين فئات المجتمع إلى أدوار ثقافية وتربوية دفع إليها دفعا في فترة الحماية الفرنسية والإسبانية، وبالأخص مع صدور الظهير البربري سنة 1930، إلى الترافع حول الحقوق والحريات ابتداء من تسعينيات القرن الماضي، إلى ممارسة أدوار تنموية مع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005، ليلج المجتمع المدني المغربي أخيرا مرحلة متميزة، تقتضي تموقعه كفاعل مؤسساتي يساهم في بلورة وتتبع وتقييم السياسات العمومية، حيث أضحى مدرسة مواطنة لتخريج الكفاءات وتقديم الاستشارات وفضاء حقيقيا لإنتاج الأفكار والتوجهات. وإن لم يستطع المجتمع المدني في هاته الفترة أن يخترق البنيات التقليدية للممارسة الديمقراطية بالمغرب سواء بأشخاصها أو مؤسساتها، إلا أنه فرض نفسه كمكون مهم وفاعل يقدم رؤى وأطروحات جديدة في تدبير الحكم في البلاد، سواء على المستوى الوطني أو المحلي؛ وذلك في تربة ديمقراطية يصعب فيها استنبات تعاون وتكامل حقيقيين بين الفاعلين السياسي والمدني في ظل هيمنة نظام إداري قوي، تطور لأكثر من 400 سنة، وتحكمه في مفاصل القرار بالبلاد. لقد وضع المجتمع المدني رجله اليمنى داخل قاعة صنع القرار، ولا ينقصه إلا الثقة في نفسه وثقة باقي الفاعلين فيه، من أجل تطوير الممارسة الديمقراطية بالمغرب، وتحقيق الأهداف التنموية والديمقراطية المنشودة. * باحث في مجال الحكامة والتنمية المحلية، رئيس مركز ابن بطوطة للدراسات وابحاث التنمية المحلية.