تضمن الخطاب الملكي الذي ألقي بمناسبة الذكرى ال44 للمسيرة الخضراء إشارة إلى "ربط مراكشوأكادير بخط السكة الحديدية؛ في انتظار توسيعه إلى باقي الجهات الجنوبية". ولعل هذا القرار الملكي بإنشاء هذا الخط السككي يصحح وضعا "سككيا مختلا بقي المغرب يعاني منه لعدة عقود وكانت له نتائج سلبية على ديناميته الاقتصادية بسبب اعتبارات سياسية وتاريخية. قبل الاستقلال من المعروف أن الشبكة السككية كانت تستخدم كآلية للضبط والسيطرة من طرف الدول العصرية في عملية توسعها السياسي والاقتصادي. فالولايات المتحدة شرعت، منذ تحقيق وحدتها السياسة، بمد خطوط السكك الحديدية لتربط ولايات الشمال الأمريكي بولايات جنوبه مجندة لأجل ذلك جيوشا من العمال الآسيويين استقدموا خاصة من اليابان والصين وسخروا لمد آلاف الكيلومترات من سكة الحديد التي كانت تقام في مناطق تقتلع منها قبائل الهنود الحمر المتمردة، مما ساعد على ضمان وتوطيد الاندماج الاقتصادي والسياسي لدولة أصبحت منذ سقوط جدار برلين الإمبراطورية العظمى الوحيدة في عالم القرن21، كما أن "قضبان السكة الحديدية" قد استعملت في تحكم الإمبراطورية البريطانية في مستعمراتها خاصة في شبه الجزيرة الهندية، حيث استطاعت قوات الاحتلال البريطاني أن تقيم شبكة سككية ضخمة ربطت بين أرجاء بلاد الهند الممتدة، مما مكنها من استغلال ثرواتها والتحكم في سكانها. ولم تشذ فرنسا عن هذه القاعدة، فاحتلال هذه الدولة الاستعمارية للمغرب قد بدأ بسماح فرنسا لبعض شركاتها بإقامة خطوط سكك حديدية ابتداء من سنة 1916 لنقل خيرات البلاد، خاصة الفوسفاط، إلى ميناء الدارالبيضاء من ثمة تصديرها إلى الميتروبول. ولعل إحساس المغاربة الغريزي بخلفية هذا الاحتلال، هو الذي دفع سكان الدارالبيضاء وقبائل الشاوية إلى تخريب خطوط سكة الحديد الشيء الذي جر عليهم الانتقام العسكري لقوات الاحتلال الفرنسي. وقد تمكنت سلطات الحماية الفرنسية من التحكم في مناطق نفوذها من خلال مد خطوط الشبكة السككية عبر المفاتيح الاستراتيجية الرئيسة والتي تمتد من مراكش إلى فاس، فتازة إلى وجدة لترتبط بالشبكة السككية التي أقيمت في كل من الجزائر وتونس. في حين أن عدم وجود الفوسفاط في مناطق سوس والصويرة، ومناطق الأطلس الصغير، جعل فرنسا لا تفكر في إقامة أية شبكة سككية للربط بين هذه المناطق. كما أن هذا العامل، إضافة إلى وعورة المناطق الصحراوية، وتأخر الاستعمار الإسباني في اكتشاف ثروات الفوسفاط التي تزخر بها الأقاليم الجنوبية وتخلفه في استغلالها، هو الذي دفع هذا الأخير إلى عدم التفكير جديا في مد خطوط سكك حديدية تربط بين المدن الرئيسية للمنطقة مثل طانطان والعيون، والسمارة، وبوجدور. وقد ورث المغرب المستقل هذا الوضع الذي بقي يتأرجح بين البحث عن استكمال الوحدة السياسية وضعف الشبكة السككية. جنوب المغرب بخلاف دول المنطقة المغاربية التي استطاعت كلها أن تستكمل وحدتها السياسية بشكل مكثف وسريع، خاض المغرب مواجهات سياسية ودبلوماسية متعددة ومضنية لاستكمال وحدته السياسية. فبعد الاتفاق السياسي مع فرنسا تم استرجاع مناطق النفوذ الفرنسي، ثم منطقة طنجة الدولية، ليدخل المغرب من جديد في مفاوضات مع المستعمر الإسباني، حيث تم استرداد المناطق المغربية التي كانت تابعة له، باستثناء منطقتي سيدي إيفني وطرفاية اللتين لم يتم استرجاعهما إلا في سنتي 1957 و1958. في حين بقيت منطقتا الساقية الحمراء ووادي الذهب تحت السيطرة الإسبانية إضافة إلى مدينتي سبتة ومليلية ويمكن تفسير عسر وتعثر استرجاع المغرب لمختلف مناطقه المحتلة، بطبيعة التقسيم الاستعماري الثلاثي الذي خضع له المغرب، والسياسة المتدرجة التي تبناها القادة المغاربة لتحرير الأجزاء المحتلة من البلاد، إضافة إلى الصراع حول السلطة الذي احتدم بين مختلف الفرقاء السياسيين بعيد الاستقلال والخلاف الذي نشأ بينهم حول الطريقة الذي يمكن بها استرجاع المغرب لمختلف أقاليمه المحتلة. وقد أثرت مختلف هذه العوامل على عدم اهتمام الطبقة السياسية بمد خطوط السكك الحديدية على طول مساحة الحيز الوطني الذي تم استرجاعه. إذ على عكس التوافق الذي تم بين مكونات النخبة السياسية لبناء طريق الوحدة الذي ربط جزءا من مناطق الاحتلال الفرنسي مع شمال المغرب الذي كان تابعا للنفوذ الإسباني، لم يتم التفكير في الربط بين شمال المغرب مع جنوبه من خلال التفكير في مد خطوط السكك الحديدية لتخترق جبال الأطلس الكبير وتصل إلى مدن الجنوب المغربي مثل أكادير أو ورزازات وغيرها. إذ بدل ذلك تم الاكتفاء بالشبكة السككية التي تركتها الحماية الفرنسية، لاستخدامها في عملية شحن وتصدير الفوسفاط إلى الخارج، ونقل المسافرين بين مختلف مدن جهات شمال وشرق ووسط المملكة.إذ لم تتعد هذه الشبكة محاور الدارالبيضاء -خريبكة، والدارالبيضاء -فاس- سيدي قاسم – وجدة أو طنجة، أو الدارالبيضاء–سطات-مراكش. وهكذا بقي هذا الوضع السككي قائما حتى بعدما تم نقل ملكية خطوط هذه الشبكة السككية، التي كانت تستغل ثلاث شركات فرنسية خاصة منذ 1923، إلى المكتب الوطني للسكك الحديدية الذي تم إنشاؤه في سنة 1963 للعمل تحت وصاية وزارة النقل والملاحة التجارية، إذ أن هذا التحول في الملكية لم يمنع هذه المؤسسة الوطنية من مواصلة استعمال نفس العتاد والعربات التي خلفتها هذه الشركات في نقل السلع والمسافرين، واكتفت فقط بتطوير بعض وسائل استغلاله من صنع أو استجلاب قاطرات أو عربات للقطارات دون التفكير أو العمل على توسيع خطوط الشبكة السككية إلى المناطق الجنوبية، التي كانت تنتهي بتوقف قطاراته بدرجاتة الأربعة وغير المكيفة في محطة مدينة مراكش. وقد تجلى هذا الوضع، عندما تم الإعلان عن المسيرة الخضراء لاسترجاع الأقاليم الصحراوية حيث كان يتم نقل الأعداد الكبيرة من المتطوعين والمتطوعات بالقطارات إلى مراكش، ليتم بعد ذلك نقلهم بالحافلات والشاحنات إلى المناطق الجنوبية مع ما كان يكلف ذلك من مشاق وتكاليف في الطاقة والتنظيم وبطء في التحرك. تفعيل السكة الحديدية بعدما استعاد المغرب سيادته على أقاليمه الجنوبية، وبسط نفوذه الإداري على مختلف مدنها بمقتضى اتفاقية مدريد التي تم إبرامها مع كل من إسبانيا، وموريتانيا، وعبأ عدة تمويلات من أجل تنمية البنيات التحتية في هذه الأقاليم. وبعدما دخل في حرب عسكرية ضارية مع قوات البوليزاريو ممولة ومجهزة من القيادة الجزائرية، فإنه لم يتم التفكير في توسيع الشبكة السككية إلى جنوب البلاد لاستخدامها في نقل الجنود والسلع بدل اللجوء إلى الشاحنات والطيران الجوي. وكان هذا الظرف السياسي ملائما لمد خطوط سكك حديدية تمتد من مراكش إلى أكادير، ومن أكادير إلى طانطان، ومن طانطان إلى العيون ثم السمارة وبوجدور. فجو التعبئة الوطنية الذي خلقته قضية الصحراء والتضحيات البشرية الكبرى التي قدمتها مكونات الشعب المغربي (قرض الصحراء وضريبة التضامن الوطني)، والتكاليف المالية التي صرفت من أجل تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية والخدماتية لسكان الأقاليم الصحراوية كان من الممكن أن يوظف لإنجاز مشاريع مهمة في مجال إقامة هذه الشبكة. ولعل هذا ما تنبه له الملك الراحل الحسن الثاني عندما أعلن في خطاب ملكي في سنة 1984، عن ضرورة مد خطوط سكة حديدية انطلاقا من مراكش إلى حدود الصحراء ملمحا إلى الانعكاسات الاقتصادية التي ستنجم عن هذا المشروع خاصة من خلال فرص الشغل التي كان سيوفرها. لكن يبدو أن هذا القرار الملكي بقي حبرا على ورق، إذ بدل التفكير في الشروع في تنفيذ هذا المشروع، اهتم المكتب الوطني للسكك الحديدية بتطوير أسطول عرباته وقاطراته، إذ تم في هذه السنة استيراد عدد من القطارات السريعة التي أصبحت تربط بين الدارالبيضاء والقنيطرة تتحرك بالطاقة الكهربائية. كما تم العمل على تجديد مجموعة من محطات القطار في بعض المدن منها الرباطوالدارالبيضاء، ومراكشوطنجة وغيرها، بالإضافة إلى تثنية بعض الخطوط السككية، مع الاستغناء عن العربات الخشبية للدرجة الرابعة. أما بالنسبة إلى مناطق جنوب المملكة، فقد اكتفى المكتب بوضع حافلات تابعة له لنقل المسافرين من مدينة مراكش إلى كل من أكادير، وتزنيت، وطانطانوالسمارة، وبوجدور، والعيون، والداخلة ... وبالتالي، فإن إعلان الملك في خطابه، بمناسبة الذكرى ال44 لانطلاق المسيرة، عن التفكير في ربط مدينة مراكشبأكادير بشبكة خطوط السكك الحديدية الوطنية ما هو في حقيقة الأمر سوى تفعيل للقرار المتخذ من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، في منتصف الثمانينات من القرن الماضي من أجل مد السكك الحديدية من مراكش إلى مختلف مدن الجنوب بما فيها مدن الأقاليم الصحراوية. وهكذا فبعد أكثر من ثلاثة عقود، يقرر الملك محمد السادس انطلاقا من منظور جيوسياسي، ومنظور تنموي، وثالث جيوستراتيجي تفعيل قرار والده بهذا الشأن. فمن منظور جيوسياسي يرى الملك محمد السادس أن المسيرة قد "غيرت خريطة المملكة؛ وأن الرباط صارت في أقصى الشمال، وأكادير هي الوسط الحقيقي للبلاد، فالمسافة بين أكاديروطنجة، هي تقريبا المسافة نفسها، التي تفصلها عن الأقاليم الصحراوية، وليس من المعقول أن تكون جهة سوس ماسة في وسط المغرب، وبعض البنيات التحتية الأساسية، تتوقف في مراكش، رغم ما تتوفر عليه المنطقة من طاقات وإمكانات". ومن منظور تنموي يرى أنه "سيساهم هذا الخط، بدعم شبكة الطرق، التي نعمل على تعزيزها بالطريق السريع، بين أكادير والداخلة، في فك العزلة عن هذه المناطق، وفي النهوض بالتنمية، وتحريك الاقتصاد، لاسيما في مجال نقل الأشخاص والبضائع، ودعم التصدير والسياحة، وغيرها من الأنشطة الاقتصادية، كما سيشكل رافعة لخلق العديد من فرص الشغل، ليس فقط في جهة سوس، وإنما أيضا في جميع المناطق المجاورة. فجهة سوس - ماسة يجب أن تكون مركزا اقتصاديا، يربط شمال المغرب بجنوبه، من طنجة شمالا، ووجدة شرقا، إلى أقاليمنا الصحراوية". - ومن منظور جيوستراتيجي، فإن هذا الربط السككي سيساهم بلا شك في أن تصبح "الصحراء المغربية تشكل بوابة المغرب نحو إفريقيا جنوب الصحراء". ولعل هذا ما تعكسه سياسة العاهل المغربي الإفريقية بهذا الصدد، بإشارته ضمن هذا الخطاب إلى ما يلي "فقد جعلنا قارتنا، منذ اعتلائنا العرش، في صلب سياستنا الخارجية. فقمنا بالعديد من الزيارات لمختلف دولها، وتم التوقيع على حوالي ألف اتفاقية تشمل كل مجالات التعاون. وقد كان لذلك أثر ملموس على مستوى مكانة المغرب الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية داخل القارة. وإننا عازمون على جعل المغرب فاعلا أساسيا في بناء إفريقيا المستقبل. كما نطمح للرفع من مستوى المبادلات التجارية، ومن الاستثمارات المغربية في القارة، وإطلاق مرحلة جديدة، عمادها المنفعة المشتركة. ويتوقف تحقيق هذه الأهداف على وفاء المغرب بالتزاماته، وعلى مواصلة ترسيخ حضوره في إفريقيا". وعموما، فإن مد وتوسيع الشبكة السككية إلى مناطق الجنوب يعتبر تكريسا للوحدة السياسية التي لا تستقيم دون وحدة سككية. إذ أنه من المتعارف عليه سياسيا أن ترسيخ رموز الدولة العصرية في أذهان مواطنيها لا يتم فقط من خلال الأعلام الوطنية التي توضع فوق البنايات العمومية وداخل مكاتب بالمرافق العمومية، ولا من خلال تلقين التعليم الرسمي، أو من خلال خلق قنوات إذاعية وفضائية، بل أيضا من خلال مد شبكات النقل البرية والجوية، والبحرية، وخاصة السككية. فقضبان السكك الحديدية لا تسهل فقط نقل الأشخاص والبضائع، بل ترسخ أيضا الامتداد المجالي والرمزي للدولة، وتزيد من توثيق الانتماء السياسي للمواطنين بدولتهم خاصة إذا كان هؤلاء المواطنين حديثي الاندماج بوطنهم.