ديربي إفريقيا.. تكثر الأسماء وتتعدد التوصيفات، ويبقى المسمى واحدا: كازابلانكا أو الدارالبيضاء، المدينة/ المنشأ لواحد من العشرة ديربيات الأكثر شعبية وجماهيرية عبر العالم. مدينة تعد "أم الحواضر" المغربية ولا ينازعها في ذلك أحد، بين أحضانها حكاية زواج طوباوي بين "عبق تاريخ"، تحضر تفاصيله بين الدروب والأزقة والطقوس والعادات والمعمار متعدد المستويات، و"أريج جغرافيا"، تشكل مرآة عاكسة لمجتمع مغربي مصغر، يتقاسم بساطه البيضاوي والرباطي والمراكشي والفاسي والمكناسي والطنجاوي والشاوي والدكالي والعبدي والسوسي والشمالي والريفي والجبلي والصحراوي... في صورة فسيفسائية تجعلنا نجازف بالقول إن الدارالبيضاء جمعت بين عوالمها ما تفرق في غيرها من المدن والأرياف المغربية، بشكل يجعلها صورة مصغرة لمغرب القرن الواحد والعشرين، بكل ما يعرفه من تحولات وديناميات تنموية متعددة الزوايا، وما يعكر صفوه من كبوات ومشاهد التناقضات.. لكن بعيدا عن صخب الحياة بهذه المدينةالبيضاء، ودون الخوض في تفاصيل وجزئيات المعيش اليومي للبيضاويين، فالدارالبيضاء ليست اقتصادا ولا مالا ولا أعمال، وليست فقط أسواقا تجارية وصل صداها الآفاق، من قبيل "درب عمر" و"درب غلف" و"كراج علال" و"لقريعة" و"الحبوس"، ولا معمارا عاكسا لمدينتها القديمة الموغلة في القدم، ولمدينتها العصرية التي تعكس أنفاس الحقبة الكولونيالية.. الدارالبيضاء هي أيضا كرة قدم، هي "رجاء الشعب" و"وداد الأمة"، هي قصة عشق وهيام قسمت مدينة "سيدي بليوط" إلى شطرين اثنين لا ثالث لهما: شطر يتقاسمه عشاق الرجاء العالمي، وشطر ثان يعكس نبض جماهير عريضة وهبت قلوبها وأفئدتها قربانا لفريق اسمه "وداد الأمة".. جماهير عريضة في المغرب كما في الخارج، بقلوب محبة حد الجنون، بقدر حبها تتباهى بالألقاب، وبقدر عشقها تحيى على الأمجاد، وبقدر هيامها تتوق إلى هزم "الغريم التقليدي" وإحراجه أداء ونتيجة. وبين الأخضر الرجاوي والأحمر الودادي انبعث "الديربي"، وانبعثت معه حكاية لا كالحكايات، حكاية لها بدايات بلا نهايات ومقدمات بدون خواتم وخلاصات. حكاية تختزل تاريخا طويلا تمتد جدوره الأولى إلى خمسينيات القرن الماضي، وفي التاريخ تحضر نوستالجيا حبلى بمعاني الفخر والاعتزاز والأمجاد والبطولات، تفترض استحضار رجالات (مؤسسون، مسيرون، لاعبون، جماهير، معجبون) رسموا جميعا قصة نجاح "ديربي" خرج من صلب مدرسة الوطنية والنضال، وحبا كما يحبو الرضيع، واشتد عوده عبر السنوات إلى أن تحول ليس فقط إلى أيقونة كرة القدم المغربية وقوتها الضاربة والدافعة، بل صار واحدا من الديربيات الأكثر جماهيرية عبر العالم. هي كلمات مبعثرة في "ديربي" تجاوز عقده السادس، وصورة محتشمة من ألبوم حدث جماهيري، تجاوز صداه حدود رقعة الميدان، وامتد ويمتد بانسياب إلى المنازل والشوارع والأزقة واللقاءات والمقاهي والمكاتب والأسواق والمحلات التجارية، فاتحا مساحات رحبة لاستحضار الذكريات والأمجاد والأهداف والمهارات، متيحا الإمكانية للعشاق والمتيمين والمعجبين للنقاش والتباهي والرهان، والخوض في الممكن واللاممكن في "ديربي" خارج مفردات الحساب والتكهن والرهان. ننزل على مضض من صهوة النوستالجيا بما يعتريها من بطولات وإخفاقات وكبوات، ونترك جانبا لغة الأرقام والإحصائيات لنتوقف عند الحدث: "ثمن نهائي كأس محمد السادس للأندية الأبطال" بين الغريمين التقليديين الرجاء والوداد.. "ديربي" لم يخرج عن نطاق سابقيه، حضرت فيه المتعة والسحر والجمال والهيام، والخضرة والحمرة والوجه الحسن، في مباراة ليست كمثيلاتها، وصفها البعض بأم الديربيات، ووصفها البعض الآخر بنهاية قبل الأوان. وسواء تعلق الأمر بالتوصيف الأول أو الثاني أو هما معا، فما هو مؤكد أن "قدر القرعة" نقل "الديربي" البيضاوي من بعده الوطني الضيق إلى دائرة الإشعاع الكروي العربي الإفريقي، في أول نزال من نوعه بين الفريقين خارج الحدود وفي منافسة رسمية. "ديربي" مغربي بألوان عربية، حظي بتغطية شاملة لمدة أسبوع من طرف "قنوات أبوظبي الرياضية"، التي سخرت ما لديها من إمكانيات ووسائل لوجستية وموارد بشرية (صحافيون، مراسلون، محللون، معلقون..) لتقريب المشاهد العربي من جزئيات وتفاصيل "الديربي" المغربي العربي، وهي تغطية إعلامية مميزة، نجحت إلى أبعد مدى، ليس فقط في التعريف ب"الديربي" وإحاطته بما يستحقه من إشعاع عربي ودولي، ولكنها نجحت أيضا في الانتصار للعلم الوطني الذي زين "استوديو التغطية اليومية" بأبوظبي، وللموروث الحضاري المغربي البيضاوي، من خلال رصد مختلف معالم الدارالبيضاء، وما تزخر به من موروث ثقافي يغري بالزيارة والاستطلاع، وللمنتوج الكروي المغربي. وفي هذا الصدد، بقدر ما نثمن تغطية القناة الإماراتية ل"الديربي" المغربي بقدر ما نسجل احتشام تعامل الإعلام الرياضي الوطني مع هذا الحدث الرياضي البارز، الذي يحمل اسم "الملك محمد السادس"، نصره الله، خاصة الإعلام البصري (القنوات التلفزية ومنها القناة الرياضية). وهذا الاحتشام يسائل القائمين على الشأن الإعلامي الوطني، ويفرض عليهم إحاطة القطاع بما يستحقه من دعم وتحفيز ووسائل وتقنيات من أجل التأسيس لإعلام تنافسي، قادر على الإشعاع والتأثير. وحتى لا نتيه في الميدان أو نقع في فخ الشرود ونحن ننبش في حفريات "الديربي" البيضاوي، لا يسعنا إلا أن ننفلت من سحر النوستالجيا على مضض، لنؤكد أن سحر "الديربي" نسج بساطه، مساء اليوم، بالأقدام على أرضية الميدان، في امتحان يعز فيه الفريق أو يهان، وفي مدرجات "ستاد دونور"، حيث حيكت قصة الهيام بأنامل وأصوات وشعارات الحمقى من المتيمين والمعجبين من جماهير الفريقين، الذين وصلوا إلى نشوة الخلق والإبداع لحظات رفع "التيفوهات"، التي اختزلت وحدها حكاية عشق لا يوازيه عشق، ووفاء لا يضاهيه وفاء وإخلاص، وعكست سرا من أسرار "ديربي" انطلق من المحلية إلى العالمية.. ولا سر أقوى من سر "مدينة كبرى" قلوب ساكنتها مقسمة بين حب الرجاء وعشق الوداد، ومن سر "ملعب " اختفت فيه ألوان الطيف جميعها، إلا "الأخضر" الرجاوي و"الأحمر" الودادي، في مشهد كروي ساحر، ازداد سحرا طيلة أطوار المباراة، بشعارات و"تيفوهات" جذابة، انحنت أمام وصفها القوافي والأبيات، وتشجيعات جماهيرية بالأصوات والأهازيج والشعارات، رسمت لوحات فنية جذابة، سلبت العيون وسرقت الجفون، ورسمت في قلوب المشاهدين والمتتبعين أحاسيس الرعب والانبهار والسحر والجمال.. وعلى أرضية الميدان حضرت كالعادة مفردات الحماسة والتشويق والتحدي والحيطة والحذر، موازاة مع عرس المدرجات، فاهتزت شباك الرجاء في الشوط الأول بهدف مباغت للوداد، وعاد الرجاء في الشوط الثاني ليوقع هدف التعادل في مرمى الوداد، لينتهي المشهد الأول من المباراة بالتعادل، ويبقى مسلسل التشويق والإثارة متواصلا، في انتظار المشهد الثاني (الإياب) للحسم في الفريق الذي سيواصل التباري على "كأس محمد السادس للأندية الأبطال". وفي انتظار ذلك، ننوه مرة أخرى، بالطريقة الحرفية التي تخللت تغطية "الديربي" المغربي عبر "قنوات أبوظبي الرياضية". ولا شك أن التغطية الإعلامية ستتواصل، في انتظار مباراة الإياب يوم 23 من الشهر الجاري، التي ستحسم الفريق الذي سيواصل مسار التباري، وهي تغطية بقدر ما أضافت إشعاعا ملفتا إلى "الديربي" المغربي، بقدر ما قوت الإحساس بالانتماء إلى وطن عربي، ما أحوجه اليوم إلى نبذ الخلافات الهدامة والنعرات السامة، من أجل توحيد الصفوف وتسخير القدرات والإمكانيات المتاحة، لمد جسور التعاون الاقتصادي والثقافي والإعلامي والرياضي في اتجاه كسب رهانات التنمية البشرية المستدامة، والاستجابة لتطلعات وانتظارات المواطن العربي من الخليج إلى المحيط. وعلى المستوى الرياضي، هي فرصة أمام الاتحاد العربي لكرة القدم لدعم والارتقاء بمسابقة دوري أبطال العرب بشكل يجعلها تضاهي كبريات المنافسات العالمية، ولم لا التفكير في خلق منافسات كروية من قبيل: "كأس العرب للأمم". ونختم بالقول إن المباراة في مشهدها الأول وفت بالعهود والوعود، وقدمت للجماهير العربية "ديربي" مغربيا بلباس عربي ونفس إفريقي، من توقيع لاعبين قدموا ما في جعبتهم ما استطاعوا، وجماهير ساحرة أبدعت، فأحسنت الإبداع وأجادت صنع "جمال".. الصمت في حضرته جمال.. [email protected]