كنا قد تطرقنا في مقال سابق إلى كل من الثقة والكفاءة باعتبارهما مفتاحين أساسيين لتحقيق إقلاع تنموي حقيقي، تطرق إليهما الخطاب الملكي لعيد العرش لهذه السنة (2019) إلى جانب مفتاحين آخرين، الذي لم يكتف بوضع تشخيص للأعطاب بل سعى إلى توجيه الذات الجماعية، كل من موقعه، من نخب وفاعلين سياسيين واقتصاديين واجتماعيين ومواطنين لإيجاد حلول وبدائل حقيقية، عبر الإقرار بضرورة اعتماد نموذج تنموي جديد يمكّن من تسطير سياسات عمومية مندمجة ومتناسقة قابلة للتحقيق والتنفيذ، من خلال إرادة جماعية لمؤسسات ناجعة، تكرّس لمفهوم فعلي لربط المسؤولية والمحاسبة، ومن طرف مواطنين يجعلون من المواطنة الحقّة أولوية تترجمها ممارساتهم اليومية، وتكون الوطنية حافزا لهم لتحقيق ذلك. ومن خلال مقالنا هذا، وتتمة لما أشرنا إليه سابقا، ومن أجل المساهمة في التفكير الجماعي للقطع مع ما تم هدره من كلفة وما تم استنفاده من زمن، دون أن يتحقق شرط معالجة الفوارق الاجتماعية بالأساس، ودون أن يتأتى إرساء دعائم حكامة فعلية، نتطرق إلى المفتاحين المتبقيين، بالنظر إلى أن المفاتيح الأربعة التي جاءت في الخطاب الملكي تمثلت في الثقة والكفاءة، ثم التكوين الجيد والمحفزات الحقيقية لتسريع النمو الاقتصادي. إن المفتاح الثالث له أهمية قصوى لا تقل عن باقي المفاتيح، لأن فشل مجموعة من المؤسسات التكوينية يرجع إلى غياب تعليم أساسي فعّال، يمكّن من وضع اللبنة الأساسية لاستقبال المعرفة، وتعليم إعدادي وثانوي يسهم في تحضير العقول، حتى يتسنى إنتاج شخصيات مكونة، مسؤولة ومنتجة، وهو ما يتطلب إعادة نظر جذرية في النظام التعليمي، سواء تعلق الأمر بالمناهج والآليات أو الموارد البشرية، هاته الأخيرة التي يجب تحفيزها، فتحصين نساء ورجال التعليم ماديا هو خطوة ضرورية لأن رجل التعليم بات اليوم مصنفا ضمن خانة الطبقة الفقيرة، وهو ما يعني إمكانيات محدودة، وبالتالي فالآفاق لن تكون بالضرورة إلا محدودة هي الأخرى، أخذا بعين الاعتبار اعتماد معايير جديدة في اختيار المرشحين لهذه المهمة، وعلى رأسها التجربة والتراكم من أجل مردودية أفضل، دون إغفال الشق المتعلق ببنيات التكوين أيضا. إن المفتاح المتعلق بالتكوين الجيد يحيلنا بالضرورة على المفتاح الرابع المتعلق بالمحفزات الحقيقية لتسريع النمو الاقتصادي، هذا الأخير الذي يواجه تحديات كبرى للنهوض بمجموعة من المجالات، من بينها المجال الصناعي، الفلاحي، التجاري، والخدماتي، مما سيؤثر إيجابا، إذا تحققت الشروط، على خلق فرص الشغل وتحقيق التوازن الاجتماعي. وتتمثل المحفزات في عوامل غير مباشرة، هي التي وقفنا عندها في تحليلنا للمفتاح الثالث المتمثلة في التكوين الجيد، ثم عوامل مباشرة من قبيل خفض الضريبة، تقليص الفائدة عن القروض، مما سيمكن بالضرورة من تشجيع الاستثمار الاقتصادي، إلى جانب عامل أساسي هو تبني التكنولوجيات الحديثة، كما هو الشأن بالنسبة للرقمنة التي ستحقّق الشفافية، وبالتالي محاربة الرشوة، وربح الوقت لتحقيق المشاريع والقيمة المضافة، وحفظ المعلومات التي ستسمح بتحسين مردودية المصالح والمؤسسات، وتصحيح الأخطاء المرتكبة سابقا. إن تسريع تطور الاقتصاد هو بوابة كل تقدم مجتمعي ويمكن لاعتماد الرقمنة في خدمات المؤسسات العمومية التي لها علاقة مباشرة بالاستثمار الاقتصادي والمقاولات تحقيق هذا المبتغى، من خلال وضع خطة واضحة تشمل مشاريع القوانين وإعداد البرامج المعلوماتية الملائمة لكل مؤسسة عمومية، وتوفير الميزانية الضرورية، إلى جانب تحديد المسؤوليات لتحقيق هذه الخطة، مع تحديد الهامش الزمني لهذا المشروع الطموح، وهو ما قد يؤكد الحاجة إلى تفعيل مقترح تغيير اسم وزارة تحديث القطاعات إلى وزارة التكنولوجيات الحديثة وتحديث القطاعات، بإسناد مهمة البحث ومواكبة التقنيات الحديثة إليها باعتبارها وسيلة لتحديث القطاعات. إن المجال الفلاحي، على سبيل المثال لا الحصر، هو أحد المجالات التي ساهمت التقنيات الحديثة في أن تحدث فيه طفرة نوعية، بالاعتماد على أجهزة متطورة للزيادة في الإنتاج والمردودية، كما هو الشأن بالنسبة لجهاز استشعار النتروجين وجهاز اختباره وغيرها، التي تعد تقنيات يتم ربطها بجهاز الرقمنة لاستقبال جميع المعلومات الخاصة بالبقع الأرضية التي تمكن من توفير السلامة البيئية، وتحقق رفاهية العمل، وشفافية المعلومات، وتدفع الفلاح إلى الانضباط واستعمال الكمية المناسبة للأسمدة في المكان والوقت المناسبين، وهو ما سيسمح بشكل كبير بترشيد استعمال الماء وحسن تدبيره، على سبيل المثال لا الحصر، وما لذلك من قيمة كبرى في ظل التغيرات المناخية التي يشهدها العالم اليوم، والندرة في المياه التي تتهدد العديد من الدول. إن المغرب يعتبر من البلدان الرائدة في إنتاج الطاقات المتجددة، لكنه في حاجة إلى تكنولوجيات جديدة لتخزين الطاقة الإضافية لأن من شأن ذلك تزويد مناطق نائية بالكهرباء، ما سيساهم في تطوير البنية التحتية من مؤسسات تعليمية ومستشفيات ومرافق أخرى، وهو ما يتطلب تشجيع الشراكات لصناعة الألواح المنتجة للطاقة الشمسية والاستثمار في إنتاج الطاقة المتجددة من الرياح والمياه والكتل الحية، مع العمل على البحث وتطوير تقنيات جديدة لتخزين الطاقة لاستعمالها في تزويد المناطق النائية بالكهرباء ولم لا استعمالها في النقل العمومي عبر تشجيع استعمال الحافلات الكهربائية وغيرها... وفي السياق نفسه، يمكننا أن نقف عند وجه آخر من أوجه التكنولوجيات الحديثة، المتعلق بالتداوي بالخلايا الجذعية، التي تشكل نموذجا في الميدان الطبي، فالمغرب يعد رائدا إفريقيا في هذا المجال الذي يمكّن من علاج أمراض مزمنة كالسكري والتهاب المفاصل والحروق والزهايمر وأمراض أخرى مستعصية. إن نجاح هذه التجربة على المستوين القانوني والتقني سيجعل المغرب قادرا على تبني التقنيات الحديثة في جميع المجالات للنهوض بالقطاع الاقتصادي. وبالتوازي مع هذا المحور المتعلق بالتقنيات الحديثة، يجب تطوير البحث العلمي الذي يعرف فقرا شديدا، وهو ما يترجمه العدد الضئيل للأبحاث المنجزة في مختلف القطاعات، علما بأن جميع الدول المتقدمة حققت التنمية عن طريق البحث العلمي، الأمر الذي يستوجب وبشكل ملح وضع رؤية واضحة لتشجيعه في المغرب، واختيار المجالات التي تشكل أولويات، كما هو الحال بالنسبة للفلاحة والطاقات المتجددة، والعمل على الرفع من الميزانية المخصصة له إلى 2.5 في المائة، وخلق براءات الاعتراف، مع إبرام شراكات وتوقيع توأمات مع جامعات عالمية لها تجربتها في المجال، وتنظيم دورات تكوينية لأساتذة قطاع التعليم العالي، فضلا عن خلق أرضية للتبادل التجاري والمعلومات بين المقاولات والجامعات المغربية. إنها رؤية متواضع لكيفية بلورة المفاتيح الأربعة التي جاء بها الخطاب الملكي، باعتبارها مفاتيح للمستقبل، تمنح فرصة لتجاوز الاختلالات والنقائص، إذا ما تم التعامل معها إيجابيا وبكيفية جادة من طرف كل الجهات المعنية بمضامينها، لأنها لم تقف عند حدود تشخيص الأعطاب وإنما قدمت وصفات وحلولا للانتقال إلى مغرب آخر ببعد تنموي قادر على تحقيق إيجابيات شتى للوطن وللمواطنين. *عضو رابطة الاقتصاديين الاستقلاليين