الجزء I مقدمة: تعتبر مَسْألة الأمْن إحدى القضايا الجوهرية التي أوْلتها الأنظمة البشرية اهتمامًا مميزًّا وخاصا، فضْلاً عن كونها من الحاجات الأساسية التي يبدو أن استمرار الكائنات بمعزل عنها أمر صعب المنال، فإذا نُظِرَ إليها من زاوية الكائن الإنساني، سيتم الاتفاق فيما بين التوجهات الفكرية أن توفره يُخلّف من الآثار الايجابية ما يخدم الصالح العام ويحقق الاستقرار الاجتماعي داخل العلاقات الإنسانية، كما يوطد وشائج المحبة وقِيَّم التضامن والتعاون. وهكذا أصبحت تيمة الأمْن تحظى بمكانة معرفية وعلمية في مختلف الدراسات والأبحاث الرصينة ليس فقط تلك المهتمة بالمجال الأمني والاستراتيجي الخالص، بل أيضا ضمن تلك المهتمة بالمجال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ إذ استأثرت في الآونة الأخيرة باهتمام الباحثين والمهتمين بالشأن الاجتماعي حتى أصبحت تأخذ شكل الموضوع المستقل بفضل مجهودات مختلف الفاعلين واقتناعهم بدور الأمن في تعبيد المسار نحو تحقيق السلم الاجتماعي وسيادة مبادئ الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان. وفي خضم التحولات التي شهدها العالم أواسط القرن الماضي، نشأت توجهات حكومية هنا وهناك بين الفينة والأخرى، وبادرت إلى ضرورة إيلاء أهمية قصوى لمكانة الأمن وإعادة تصحيح نظرة الشعوب والأمم لمفهومه ومقوماته الأساسية. لكن بالرغم من هذه الدعوة الصريحة يبقى تعريف الأمن المجتمعي من المسائل التي اتسمت بوجهات نظر متعددة في تحديدها ومختلفة في المقومات والأسس التي تنبني عليها، ومع ذلك سيلاحظ الدارس أن مقاصد وغايات هذه الاختلافات تبقى موحدة إلى حد بعيد، حيث تتجسد القواسم المشتركة بين هذه التعاريف في السعي إلى نشر ثقافة التسامح والتضامن بين أعضاء التجمعات في ذاتها وفي محيطها، فضلا عن رفض الصفات المذمومة ونبذ الانحراف والتشتت الأسري والاجتماعي، والعمل على تذليل مسببات الحروب الأهلية والاثنية بين عناصر وفئات هذه المجتمعات. ولموضوع الأمن المجتمعي دستوريا أهميته البالغة من ناحيتين؛ تتجلى الأولى في ارتباطاته بمختلف حقول المعرفة، خاصة منها الاجتماعية بحكم نسبية هذه العلوم وقابليتها لتأويلات مختلفة، وهو ما ينتج عنه اختلاف في التحديد الدقيق لمفهومه كما جاء في الفكرة السابقة، في حين تتجلى الناحية الثانية في أن الأنظمة السياسية الحديثة أصبحت تخصص له حيزا رئيسيا في خطاباتها وتقاريرها بين الفينة والأخرى ولو ضمنيا عبر رصد تجليات ومظاهر هذا الأمن إذا سلمنا بأن غالبية هذه الدعوات والتقارير لا تعبر عن مفردة الأمن المجتمعي بالتحديد. أما الهدف الذي من أجله جاءت فكرة البحث في هذا الموضوع فهو ينبع من القناعة السليمة بضرورة مقارعة بعض الأفكار النظرية والفلسفية التي تناولت هذا المفهوم القديم في ظهوره الحديث من حيث تجلياته، كما تبرز الغاية في الكشف عن الإجابات التي قدمتها الدساتير العالمية فيما يخص الأمن المجتمعي كمبدأ عام، وإسهامات المقتضيات الدستورية بالخصوص في تكريسه وتعزيز تجلياته بالمغرب. ومن الأجدر حصر مجال هذا البحث وتحديد بعض الأسئلة الرئيسية عند الحدود التالية بالخصوص: ما هو الإطار المفاهيمي للأمن المجتمعي؟ أية علاقة تجمع الأمن المجتمعي بالدستور؟ أين تتجلى مكانة الأمن المجتمعي في ضوء الدساتير المقارنة؟ ما هي مظاهر الأمن المجتمعي في الدستور المغربي؟ إن الإجابة على مجمل هذه الأسئلة تستلزم مقاربة مفهوم الأمن المجتمعي بمنهجية علمية تتركز بداية في رصد أهم الاختلافات المفاهيمية للأمن المجتمعي، والوقوف من جانب ثان على مكانته ضمن الدساتير المقارنة عبر استعراض مختلف المقتضيات التي تشكل وتخدم هذا الأمن، وتنتهي بقراءة فلسفة المشرع الدستوري بالمغرب من وراء إقراره بالتوجه المنادي بضرورة سيادة مقومات الأمن المجتمعي في ضوء مختلف الدساتير التي توالت على المسار الإصلاحي للمملكة المغربية. يتبع في الجزء II *باحث بسلك الدكتوراه بجامعة الحسن الثاني الدار البيضاء