الموضة ذلك الغول الذي طرق أبوابنا جميعا، وفتحنا له بوعي أو دون وعي، واستقبلناه بحفاوة حتى قيدنا جميعا وصرنا عبيدا لمافيا تستغل تغيُّرَ المواسم لترمي إلينا بما جادت به من عري ومسخ ثقافي لطمس هوياتنا وقتل معتقداتنا. وقد كانت المرأة المستهدف الأول، فيكفي أن تتأثر واحدة حتى يعم البلاء في كل المجتمع. الجلباب المغربي والحذاء الرياضي كان الجلباب المغربي لا يلبس إلا مع حذاء بكعب عال أو بلغة تقليدية تعكس أنوثة المرأة، لكن أصبح اليوم يلبس مع حذاء رياضي. وكان هذا الشكل أول ما ظهر منبوذا لأنه ارتبط بنساء التهريب المعيشي على باب سبتة ومليلية منذ وقت طويل، وذلك لتسهيل حركتهن حسب ما يتطلبه هذا العمل الشاق من حركة خفيفة. غير أنه انتشر بشكل لافت بعد أن دخل سنة 2018 -أو قبلها بقليل- باب الموضة فأصبحت تلبسه الشابة والعجوز على حد سواء وأصبحت تختاره وتنتقيه كما يختار للجلباب خياطته وألوانه وجواهره وكل ما يتطلبه من زينة، غير أن الحذاء الرياضي مع الجلباب أخفى في المرأة مشيتها الرزينة الهادئة، والاتزان النفسي الذي يوحي به الجلباب، فأصبحت تهرول كرجل يسابق الزمن على شيء. السراويل الممزقة جاءت موضة السراويل الممزقة التي تفضح من الجسد أكثر مما تستره، فاشترك الموسر مع الفقير في الثوب الممزق، ولم يعد يتحرّج أحد من ثيابه الممزقة إناثا وذكورا بل يُدخل عليها تحسينات لتناسب ما جاء في سوق الموضة. والذي جاء بهذا المسخ كان ذكيا جدا فبدأ بتمزيق الركب كأنه يجس نبض الشارع ومدى تقبله لهذا الشكل الجديد، ولما وجد هذا الإقبال والتنافس عليه عاد ليعري الأفخاذ والأكمام والبطن والأكتاف حتى لم يُبقِ في الجسد عورة، فأصبح الشارع أنفاسا ممزقة والجسد فيه سلعة مشاعة. ومثل الثوب الممزق موجة الأثواب الشفافة التي تكشف ما تحتها حتى أصبحت الفتيات يتنافسن في تنسيق ما تحت الشفاف وإظهاره بعناية. ولم يكن الرجل بعيدا عن هذه الموضة بل شارك المرأة في هذا، فتعمّد إظهار لباسه الداخلي دون حرج بالتركيز على ماركة المنتوج والكشف عن صدره العاري في كل مناسبة. عمليات النفخ والشفط هذه الموجة التي أخذت وقتا طويلا ولازالت، ولعلها ستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، موجة لم يسلم منها الغني والفقير، والرجال والنساء كل يغير ما كره فيه ويصنع من نفسه مخلوقا جديدا. فتنافسوا على المتخصصين للتصغير والتكبير، والتعديل والتبديل، بالجراحة والوصفات الطبية والشعبية بل حتى بالقدور. قصات الشعر ولأن الشعر هو الجزء المهم عند المرأة وبه يتغير شكل الوجه، فقد تفننت المرأة في قصاته لتبدو كل موسم بإطلالة جديدة. فمن موضة التطويل إلى موضة التقصير حتى وصلنا إلى قصة الشعر العجيبة وهي حلق جزء من الرأس الأيمن أو الأيسر مع بقاء الجانب الآخر، أما أجرأ موضة فهي الحلق الكلي للشعر. وبالمقابل هناك من فضلت أن تجعل من شعرها مكنسة شعثة متجهة نحو الأعلى، أو غابة أدغال إفريقية، لا يهم قلق الآخرين وخوفهم المهم مواكبة الموضة. التاتو كل شيء يهون من أجل عيون الموضة، ومن أجلها فقط يغيَّب الدين والمرجع العقدي فيسمح بكل شيء، والوشم هذا الدخيل الخبيث بدأ حييا في أوساط النساء. انتقل من وشم بالحناء الحمراء والحناء السوداء إلى طابع في شكل ملصقات تجميلية، لينتهي وشما حقيقيا بوسائله المعروفة جراحة أو لايزر. فتتعمّد المرأة إلى إظهار الوشم بشتى الطرق فلا حرمة للجسد أمام محراب الجمال. هكذا جعلت الموضة من الناس خلقا جديدا لا هوية ولا دين لهم، خاصة المرأة التي توشك أن تلتحي باسم الموضة والتقدّم فلا شيء ضد الموضة وكل شيء لعيونها يهون. ويكفي أن يظهر أحد المشاهير من السينما أو الرياضة بشيء غريب حتى ينتشر في الأوساط الاجتماعية كالنار في الهشيم . لقد أحكمت الموضة بقبضتها على مجتمعاتنا، وجعلتها سوقا كبيرا لتسويق منتجاتها المادّية والفكرية حتى انصهر كل ضعيف أمامها، وأصبح مقيدا بسلاسل الماركة ينتظر كل موسم ما جد في الساحة، حتى يكون أول من يظهر بها كأنه الأصل وكل من سيأتي بعده تقليد لا أكثر. ولا تلام الشركات الكبرى التي التهمت الأسواق العربية التهاما بقدر ما يلام العقل العربي الذي غيّب الثقافة العربية والإسلامية التي لا يناسبها كثير من صور الموضة اليوم. لكل واحد وجهة نظر ولكل منا قناعاته، لكن الانسلاخ من الثقافة مسخ، والتعري من الأخلاق تفسُّخ، والابتعاد عن الدين خسران مبين، ولا غرابة إذا خسف بنا التاريخ في قعر الحضارة. *باحثة