ما إن فتحتُ الباب حتى وجدتُ نفسي أمام فوضى عارمة، كان قد أحدثَها الرجال الثلاثة الذين شاء قدري أن أُقاسمهم مسكني. هول الصدمة جعلني أتخيل أنني ولجتُ منزلا آخر غير ذلك الذي أخبرُ كل تفاصيله. بدا لي وكأن لعنةً قد حلَّت به في غيابي، فما بين الملابس الملقاة أرضاً وغرفة المعيشة التي ما زالت مائدتُها تفترش بعض صحون وجبة الغداء، مروراً بالمطبخ الذي يصدحُ كل ما فيه بنداء استغاثة كي أعيد له نظامه، والحمَّام الذي لم أتجرأ على إلقاء نظرة عليه، ووصولا في آخر المطاف لغرفِ النوم التي تبدو وكأن عاصفة هوجاء قد ضربتها... باختصار نايضة قربالة في الدار .. أمام هذا المنظر المريع، تبادرت لذهني فكرة غريبة مفادها أنني إن ألَّفْت يوماً كتاباً عن هذه الفوضى الهائلة قد أفوق أحلام مستغانمي في رقم مبيعات فوضى حوَّاسها... استندْتُ إلى مائدة الطعام، عساني أستجمع أنفاسي التي استقطعها غياب النظام في كل ما يحيط بي. فبعد تعب وعناء يوم طويل من العمل، وجدتُني مجبرةً على إعادة ترتيب البيت وإصلاح ما عاث فيه الثلاثة فسادا. شدَدْت أزْري واسْتجْمعت همَّتي لأبدأ حربي ضد كل هذه الفوضى... من شدة غضبي تساءلت في قرارة نفسي: وا عباد الله مْنين غادي نبْدا هاذ الرْوينة؟ وأجبتُني في صمت: قولي بسم الله، ومنين ما ضْربتي هذا القْرع غا يْسيل دمُّو.. إذ أنه لا يهُم من أين نبدأ بقدر ما يهم أن نتخذ قرار البدء في حد ذاته... هذا ما كنت أخاطب به دواخلي التي تستشيط غضبا وأنا أبحث عن نقطة البداية. صرت أمسح وأكنس وأشتم وأوضب وأرتب وأسب وأطوي وأتوعد وأغسل وأتذمر وأطبخ وأهدد بما لا يحمد عقباه... وأزيز الغسالة يزيد من عصبيتي وتوتري، يؤازره في ذلك صوت الغلاية وطنجرة الضغط وكأن ما بي لا يكفيني!!! مجدَّداً تملَّكتني فكرة أخرى، مفادها أن دارجتنا العامية أبلغُ من لغتنا الفصحى في توصيف عناء ورتابة ما نعيشه نحن النساء كل يوم خلال تدبير أمور المنزل، إذ نسمي قضاء أشغال البيت ب"الشقا" . أشفقتُ على نفسي وعلى كل النساء اللواتي تعوَّدن أن يردِّدن في أحاديثهن على سبيل المواساة: الشْقا اللِّي ديريه اليوم تْعاوْديه غدَّا... صوت التلفاز كان مؤنسي في تجاوز ذلك الشقاء. عمدت إلى رفعه قدر الإمكان، علَّني أتخلص من صوت شيطاني الذي ما انفك يوسوس لي بأن انتفض وأن أثور ضد هؤلاء الذين ابتُليت بهم تباعاً منذ زمن. يصِرُّ عليَّ بشدةٍ، منذ أن بدأت حملة النظافة، أن أنقُض عهد الهدنة ما بيني وبين شركائي في المسكن فور التحاقهم بي هذا المساء. فقد كان اتفاقنا أن نقتسم أمور توضيب البيت، كل حسب استطاعته، خصوصا بعد مغادرة السيِّدة التي كانت تُعنَى بذلك. كظمت غيظي وتوعَّدت أن أفجر قنبلة غضبي فور حضور أوَّلِهم. هذه المرة سأكون أو لا أكون... اليوم غادي نفركع هاذ الرمانة معاهم... بعد أن استطعت أن أعيد للمنزل طمأنينته، سمعتُ صوت خطواتٍ متسارعةٍ تلتهم الأدراج، فصِرت أستعد بجسارةٍ وإقدامٍ لتنفيذ ما نويت عليه. ما إن فُتح الباب، حتى ارتمى ابني البِكر في حُضني مبشراً بالعلامات الجيدة التي تحصَّل عليها. أثنيتُ عليه، مغرقةً إياه بسيل جارف من العناق والقُبل... تبِعه صغيري الآخر في تثاقل بسبب وزن محفظته التي تكبُره حجما، معلنا دون أن يتخلَّص من تمْتمته، أنه تمكَّن من اقتلاع ضرس بمفرده في المدرسة. كان ذلك بالنسبة إليه من أكبر إنجازاته، فقد تجاوز بذلك خوفه من التعامل مع أمور صحة فمه...كيف لا وهو الذي كان يرفض البتة فتح فمِه في حضرة طبيب الأسنان؟ حضنته وشجَّعته ورفعت من معنوياته وذكرته بالحرص على نظافة أسنانِه... في غمرة كل هذا وذاك، التحق بنا زوجي وقد بدت على محيَّاه علامات التعب من جراء كثرة مشاغله طيلة اليوم. قبل أن يلقي التحية نبهنا لارتفاع أصواتنا التي ترامت إلى أسماعه منذ أن وطئت قدماه مدخل العمارة، ثم سارع بالإعلان عن أن الجوع نال منه بقدر ما عاناه من التعب. دعوتهم إذن للالتحاق بغرفة المعيشة والتففنا بحميمية من جديد حول المائدة التي أصبحت شاهدة على فرح وإنجاز وتعب كل واحد من رجالاتي بعد أن كانت منذ برهة تواسيني في غضبي منهم وعليهم.