على مدار ساعة من الزّمن، باحَت أسوار قصبة الأوداية في العاصمة الرّباط بتاريخ المدينة، منذ فجر التأسيس الذي تشهد عليه نقوشُ ورسوم الجدران وصولا إلى عهد الملك محمد السادس. وتتبَّع متفرِّجون تحوّلات وتطوّرات الرّباط عبر محطات تاريخية، في عرض سمّي ب"مشاهد"، استقبَلَته أسوار قصبة "الأوداية"، في فضاء برجامة، على ضفّة وادِي أبي رقراق بالعاصمة، في تعاون تضافرت فيه جهود فاعلَيْن من القطاعَين العامِّ والخاصّ هما: مؤسّسة أكاديمية المملكة المغربية للتّعاون الثّقافي، ومؤسّسة المكتب الشّريف للفوسفاط. ووضّح عبد الجليل لحجمري، أمين السّرّ الدّائم لأكاديمية المملكة المغربية، أنّ هذه المبادرة تندَرِجُ في إطار "الرّباط مدينة الأنوار عاصمة المغرب الثّقافية"، وأضاف أن الجمهور سيرى "تاريخ مدينة الرّباط في حلّة جديدة، هي "أنوارٌ وصوت"، حتى يتعرّف على تاريخها منذ أوائلِه، إلى يومنا هذا". وبيّن الحجمري، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن هذه الطريقة الجديدة، التي تجلب المُشاهِدَ وتُبقي في ذاكرته "المَشاهد" التي يراها، ستُعمَّم عند نجاحها على مُدن مغربيّة أخرى؛ مثل: فاس وطنجة ومرّاكش، "حتّى يتعرّف الجمهور على تاريخ مدينتِه، وتاريخ بلده". "مشاهد" انطلق العَرض من مياه المحيط الأطلسي، باقتباسات شعريّة وشهادات عن تاريخ الرّباط باللّغات العربية والأمازيغية والفرنسية، وأشعار بدارجةِ الملحونِ الرّاقية، قبل أن يَخرُجَ من قَلب الماء كتابٌ يحكي في صفحاته الأولى قصّة رسومات ما قبل التّاريخ والنّقوش التي "أضاءت تاريخ الأمازيغ بأياديهِم". وبعد توقُّفٍ عند الرّسوم والنّقوش الأولى، والطبيعة الغنيّة العذراء بوحوشها التي كانت تحومُ غير بعيدٍ عن أوطان النّاس، انتقل هذا "العَرض البصريّ" أو هاته "القصيدة البصريّة" إلى الفترة التي عرفت فيها شواطئ المغرب نشاطا وحرَكَة مع قدوم من يمارسون التّجارة والمقايَضة؛ وهو ما أثرى البلد بجلودِ الحيوانات والزّواحف والرّوائح الشّرقيّة والخشب الإفريقيّ والخزَف. وفي تكامل بين النّصوص المكتوبة باللُّغَتين العربية والفرنسيّة، تحدّث عرض "مشاهد" عن النّصوص اليونانية والرّومانية التي أضاءت تاريخ الملوك الموريّينَ ولباسهم وفروسيّتهم، وسلّط الضّوء على معرفة الملك "جوبا الثّاني" الذي كُتِبَ أنّه "أفضل مؤرّخٍ بين الملوك"، وزواجه بابنة كيليوباترا التي أنجب معها ابنه بطليموس الذي خلَفَه على العرش. وعلى ألحان تثير الترقّب والخشية، قُتِلَ بطليموس أمام أعين المتفرّجين، ل"غيرة الإمبراطور كاليغولا منه"؛ وهو ما دفع عبدَه إيديمون إلى تحريض شعوب "مملكة موريطَنْيَة" للثّأر له، معطيا بذلك انطلاقة ثورة دامت سبعَ سنوات. تاريخ جديد وتحكي "مشاهد" قصّة "التّاريخ الجديد لهذه الأرض بعد الفتح الإسلامي"، مستحضرة، على صوت الأذان، عقبة بن نافع وبناءه المساجد والصّوامع أنّا حلَّ وارتحل، ورغبته في توحيد الشّرق والغرب على كلمة الله، لولا مياه البحر التي أوقفته، لتَنتَقِلَ بعد ذلك إلى الأدارسة والبورغواطيّين وتِجارَتِهم التي وصلَتِ الأندلس. وعلى صوت أهازيج أمازيغية أطلَسيّة، رأى المشاهدون غنى الزّرابي الأمازيغية والنّقوش الإسلامية على الخشب، ليحكي "العرض" بعد ذلك قصّة محاربَة المرابطين للبرغواطيّين إلى أن دمَّروهم لاعتبارِهِم هراطقة، فقصّة ملثَّمي قبائل صنهاجة المرابطيّة التي سيطَرَت على طرق الذّهب الصّحراوية. وتوالَت المشاهد؛ فمن الملحمة التي بدأت بحلم، إلى توحيد الأندلس والمغرب، وبيعة الأندلسيين بجانب قصبة الأوداية، فتأسيسِ رباط الفتح في عهد الموحّدين، ثمّ تحصينها بالأسْوار والأبواب وبناء صومعة حسّان، إلى أن استقبلت أوّل مهاجرينَ من الأندلس. وتحدّث "العرض" عن بداية النّزاعات على التّراب المغربي، والتّهديد المسيحيّ للمغرب، ليرى المشاهد بعد ذلك بحرا محمرّا، وسفنا تتبادل مدافعها الطَّلَقات، ليشير بعد ذلك إلى الفترة التي أنهى فيها المولى سليمان أنشطة القراصنة، فينتقلُ بالمشاهدِ بعد ذلك إلى "الزّمَن المُصوَّر"، فيرى قصبة الأوداية في مطلع القرن العشرين قبل دخول "الحماية الفرنسيّة"، وإعلان الرّباط عاصمة للمغرب. "مغرب اليوم" يبدأ عرض "مشاهد" فترة الملك محمد الخامس مع عودته من منفاه، والحمايةُ الفرنسيّة لا تزال قائمة، ثم ينتقل إلى فترة حكم الملك الحسن الثاني والمسيرة الخضراء التي استعاد معها المغرب حدوده الصّحراوية ب350 ألف مغربيّ قدموا من جهاتِ المغربِ الأربع. ويتوقّف عرض "مشاهد" عند "تعزُّز المغرب الديمقراطي الحداثي" مع "تأسيس الملك محمدّ السادس تعدّدية غنيّة وخصبة للأمّة"، كان من بين مظاهرها "قانون الأسرة الجديد المبنيُّ على ثقافة المواطَنة، الذي أسّس حقبة جديدة للمساواة بين المرأة والرّجل". مستحضرا نصَّ دستورِ البلاد سنةَ 2011 أنّ: "المملكة المغربية دولة إسلاميّة ذاتُ سيادة كاملة، متشبّثَة بوَحدَتِها الوطنيّة والتّرابية، وبصيانَة تلاحُم وتنوُّع مقوّمات هويَّتِها الوطنيّة، الموحّدة بانصهار كلّ مكوِّناتِها العربية الإسلامية، والأمازيغية، والصّحراويّة الحسّانية، والغنيّة بروافدها الإفريقية، والأندلسية، والعبريّة، والمتوسّطيّة". وبعد توالي الصّفحات التي تدّخرُ مكنونات تاريخ الرباط وقصّة المغرب، وتعرض الآثار واللُّقى والنُّقوش الشّاهدة على قِدَم المدينة وعراقَتها، توقّفَ "الكتابُ المُشاهَد" عند تاريخٍ با يزال يُكتَب، مع مجموعة من المعالم المعاصرة للعاصمة: من "قنطرة الحسن الثاني"، و"المسرح الكبير" الذي يجاورها، إلى "جسر الملك محمد السّادس" الذي يهَيمن بزرقته على أسوار "الأوداية"؛ مخلّفًا عند المشاهدين صورةً عن الملامحِ الجديدةِ ل"عاصمة الأنوار".