عانت الكثير من الشعوب الأصلية في بقاع شتى عبر العالم من محاولات ممنهجة لطمس هويتها الحضارية. واتخذت هذه المحاولات أشكالا مختلفة منذ انطلاق الحملات الاستعمارية، وامتدت حتى بداية القرن العشرين، غير أنها باءت في جزء كبير منها بالفشل بفعل انغراس المقومات الحضارية للشعوب الأصيلة في التربة التي أنتجتها، وبفضل تجذرها في الوجدان والعقل الجمعي للمجموعات البشرية التي توارثتها جيلا بعد جيل. وشكلت الصحوة الحقوقية المتنامية التي شهدتها البشرية، خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فرصة مواتية لنشر ثقافة حقوق الإنسان على نطاق واسع، إذ أصبحت هذه الحقوق مع مرور الزمن ذات بعد كوني، وأضحى بالتالي مطلب حماية الخصوصيات الثقافية والحضارية لعدد من الشعوب الأصلية والأقليات العرقية عبر العالم يفرض نفسه، ما أفضى إلى مصادقة منظمة الأممالمتحدة في شهر شتنبر 2007 على "الإعلان العالمي لحماية حقوق الشعوب الأصيلة". وإذا كانت محاولات طمس هويات بعض الشعوب الأصيلة قد حظيت باهتمام كبير لدواعي سياسية أو إيديولوجية أو دينية أو غيرها،(الهنود الحمر، وشعوب منطقة التيبت، والبلقان...)، فإن شعوبا أصلية أخرى كانت أقل حظا في الاهتمام بأوضاعها رغم توفرها على ما يكفي من المقومات الحضارية التي تؤهلها لتصنف ضمن فسيفساء الأقليات العرقية التي تتشكل منها الشعوب الأصيلة عبر العالم، والتي يقدر تعداد أفرادها بحوالي 370 مليون نسمة، ومن ضمنها شعب "الغوانش" (لوس غوانتشيس باللغة الإسبانية)، وهم السكان الأصليون لجزر الكناري، المحاذية للشاطئ الغربي للمغرب. وإذا كان قرب المسافة بين أرخبيل الكناري والتراب المغربي يفسر إلى حد كبير التشابه في التركيبة الجيولوجية لهاذين المجالين الجغرافيين اللذين تفصل بينهما بضع كيلومترات من مياه المحيط الأطلسي، فإن هذا القرب أيضا يدعو إلى التساؤل عما إذا كانت لشعب "الغوانش" صلة ما بالشعوب القديمة التي استوطنت المغرب، ومنطقة شمال غرب إفريقيا عموما، وفي مقدمتها الأمازيغ، السكان الأصليون لهذه المنطقة. وبهذا الخصوص، تشير المصادر التاريخية القديمة، والمدعمة بالأبحاث الأركيولوجية الحديثة، إلى أن "الغوانش" ينحدرون من أصول أمازيغية، وقد حلوا بأرخبيل الكناري في الفترة ما بين السنة الألف والسنة المائة قبل الميلاد، وذلك إثر حملة تهجير قسرية أقدم عليها الاحتلال الروماني الذي لقي مقاومة شرسة من طرف الأمازيغ بعد وصوله إلى شمال غرب إفريقيا، حيث حمل المهاجرون الأمازيغ معهم إلى الأرخبيل بعض رؤوس الماعز كي يقتاتوا من ألبانها ولحومها، وهذا ما أورده واحد من أهم وأشهر المؤرخين القدامى، وهو بيطليموس. ويؤكد الأكاديمي الإسباني أنطونيو بيريس غارسيا، وهو من المؤرخين المعاصرين، رواية بيطليموس بشأن الأصول الأمازيغية للسكان الأصليين لجزر الكناري، الذين يصفهم بيريس غارسيا ب"السكان ما قبل الإسبانيين" للأرخبيل، الذي شهد بعد خضوعه لسلطة العرش القشتالي الإسباني في القرن 15 عملية استيطان واسعة. كما تم إكراه السكان الأصليين "الغوانش" على اعتناق الديانة المسيحية، وأجبروا على التحدث باللغة الإسبانية، وفقا لنتائج الأبحاث التي توصل إليها مؤرخ إسباني معاصر آخر، وهو خوصي دي لاروزا فاروخيا. وبالموازاة مع ما أوردته الأبحاث التاريخية بخصوص انحدار السكان الأصليين لجزر الكناري من أصول أمازيغية، فإن الوقوف على بعض المعطيات الدالة على هذه الحقيقة في أرض الواقع تبقى في المتناول، كما يتجلى ذلك من خلال عدد من المؤشرات التي أمكن الوقوف عليها في منطقة سوس، وتأكد من خلال التحقيق الميداني وجود نظير لها في مناطق مختلفة بجزر الكناري، بل يصل مدى التشابه بين البعض من هذه المؤشرات درجة التطابق. وقبل الشروع في سرد بعض أوجه الشبه والتطابق بين تجليات وآثار حضارة السكان الأصليين لجزر الكناري من جهة، وأصولها الأمازيغية في شمال غرب إفريقيا، وبالذات في منطقة سوس من جهة ثانية، لا بد من تسجيل فارق شكلي مؤداه أن انتقال الغوانش للأرخبيل تم عن طريق مغامرة بحرية غير مأمونة من ناحية العواقب انطلقت منذ مئات السنين، ولم يعرف كم استغرقت من الزمن. ومقابل ذلك يأتي اقتفاء هذه التجليات الحضارية من خلال تحقيق صحافي قبل بضع شهور عن طريق رحلة جوية مأمونة من ناحية السلامة، ومحدودة في مدتها الزمنية. هذه المؤشرات التي تعطي الدليل المادي القاطع على الأصول الأمازيغية للسكان الأصليين لجزر الكناري تتخذ تجليات اجتماعية ولغوية وثقافية، كما تعكسها بعض الطقوس والتقاليد المتوارثة منذ قرون خلت، وكذلك الشأن بالنسبة لأسماء بعض المواقع الجغرافية التي لازالت إلى حد الساعة محافظة على أسمائها الأصلية الضاربة في القدم. ففي جزر الكناري، لازال إلى حد اليوم يوجد موقع يسمى "ألموكارين بينطايغا"، وهو موقع كان السكان الأصليون للأرخبيل يلتقون فيه على قمة الجبل لتقديم القرابين من أجل تكاثر قطعان الماعز أو طلب الغيث. وكلمة "ألموكارين" أو "ألموكار" لازالت متداولة في القاموس الأمازيغي وتعني "الموسم" أو "الملتقى". كما أن جزيرة "لانزاروتي" التي تشكل واحدة من أهم جزر أرخبيل الكناري لازال ينظم فيها إلى اليوم مهرجان للرعاة يقام فيه استعراض لمختلف أنواع الماشية، خاصة الماعز، وتشارك فيه عربات تركبها فتيات يلقين بكريات مصنوعة من صنف من الدقيق معروف عند الأمازيغ ب"توميت"، وهو دقيق "الزوميطة". وتشهد أسماء بعض الأماكن في جزر الكناري على هذا الارتباط التاريخي والعرقي بين الأرخبيل وشمال غرب إفريقيا. ومن ضمن أشهر هذه الأسماء مدينة "تيلضي" في جزر الكناري، وهو الاسم نفسه الذي كانت ولازالت تحمله قرية توجد شرق موقع "أكادير أوفلا" الشهير. كما أن هناك مدينة كنارية أخرى تحمل اسم "تافيطانا"، والذي يقابله لفظ "تافضنا"، وهو اسم قرية تقع على بعد حوالي 70 كلم شمال مدينة أكادير. أما على المستوى اللغوي فأوجه التشابه والتطابق بين اللغتين الغوانشية والأمازيغية تبقى تجلياتها كثيرة ومتنوعة، كما تعكس ذلك العديد من المصطلحات والتعابير التي أفلتت من عمليات الطمس التي طالت لغة الغوانش الكنارية. كما أن البعض من هذه المفردات لحقها بعض التحريف، والذي يرجح أن يعود سببه إلى عدم دراية من تولوا عملية التدوين باللغة الأمازيغية، لاسيما عدم الإلمام بمخارج حروفها، كما يؤكد ذلك الأكاديمي المغربي الدكتور أحمد صابر، المتخصص في اللسانيات الإسبانية، والباحث في التراث والحضارة الأمازيغية. وأوضح الدكتور أحمد صابر، في تصريحات أدلى بها لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن من بين هذه التعابير التي تم تدوينها كلمة "أهو"، التي تعني عند الغوانش "اللبن"، ومقابلها عند الأمازيغ "أغو". وكلمة "ييردان" التي تعني القمح، وهو "إيردن" بالأمازيغية، ثم هناك مفردة "أهمان"، التي يقصد بها الغوانش الماء، ومقابلها بالأمازيغية هو "أمان"، و"أكوران" التي تعني السيد أو القائد، ومقابلها بالأمازيغية "أمقران"...وغيرها من الكلمات الأخرى. وأضاف المتحدث أن جزر الكناري "ظلت منذ الفترة الممتدة ما بين القرنين الأول والثالث قبل الميلاد إلى حدود القرن 15 الميلادي أمازيغية ثقافيا ولغويا"، مشيرا إلى أن هذه الحقيقة لها تجليات عدة على مستوى عدد من المواقع الجغرافية، ومؤسسات للبحث العلمي في الأرخبيل تحظى بمصداقية كبيرة، كما هو الشأن مثلا بالنسبة ل"معهد الدراسات الأفريقية" بجزر الكناري. وبعدما كان الحديث عن "أمازيغية "في جزر الكناري يثير تحفظا في أوساط الباحثين والأكاديميين الإسبان إلى حدود فترة حكم الجنرال فرانكو، فقد أصبح اليوم متاحا لأي باحث أو صحافي أن يقف خلال زيارته لجزر الكناري على دلائل واضحة للأصول الأمازيغية للسكان الأصليين لجزر الكناري، ومن هذه الدلائل الكتابات الصخرية باللغة الأمازيغية "تيفيناغ" التي اكتشفت منذ سنة 1752 من طرف الحاكم العسكري الإسباني للأرخبيل، إلى جانب المعروضات المتنوعة المتواجدة في "متحف التراث " بمدينة فوينتي فينتورا، ثم النقوش الصخرية في غابة "لاأوري سيلبا" التي اكتشفها عالم الآثار دييكو ريبوتشي. وكنتيجة لتنامي الاهتمام بالبحث العلمي في الأصول الأفريقية الأمازيغية للسكان الأصليين لجزر الكناري، تنامى الإحساس أيضا بالصحوة القومية في صفوف "الغوانش" الذين انخرطوا بقوة في هذه الدينامية التي اتخذت تجليات مختلفة، من ضمنها على سبيل المثال لا الحصر مطالبتهم السلطات المركزية الإسبانية بإحداث "الأكاديمية الكنارية للغة" على شاكلة "الأكاديمية الملكية الاسبانية"، من أجل الحفاظ على الخصوصيات اللغوية والثقافية للأرخبيل وتطويرها. وقد تنامى الاهتمام بالحضارة القديمة لجزر الكناري خلال السنين الأخيرة، إلى درجة أن الاهتمام بهذا الموضوع، سواء من طرف الأشخاص ذوي الأصول "الغوانشية" أو الباحثين بمختلف أصولهم وجنسياتهم، لم يبق حبيس المؤسسات الكنارية المهتمة، بل تجاوز حدود الأرخبيل ليصبح موضوعا للتداول في ملتقيات أكاديمية في دول متعددة ومن ضمنها المغرب، حيث يرتبط عدد من الأساتذة الباحثين من جامعة ابن زهر أكادير، إلى جانب مراكز للبحث في جهة سوس ماسة، بعلاقات علمية وثيقة مع مؤسسات كنارية مماثلة، من بينها جامعة لاس بالماس، وجامعة تينيريفي في كناريا الكبرى. وأثمرت هذه الشراكة العلمية إطلاق ماستر بكلية الآداب بأكادير يؤطره أساتذة مغاربة وكناريون. ومن نتائج هذا الاهتمام المتنامي بالشعوب الأصلية لجزر الكناري أيضا ما كشف عنه الباحث في سلك الدكتوراه بجامعة لاس بالماس، الأستاذ سوزا مارتين، وهو مواطن إسباني كناري ينحدر من أصول غوانشية، خلال مشاركته في أشغال الندوة الأكاديمية ل"الجامعة الصيفية " بأكادير في دورتها لسنة 2017، والتي كشف فيها عن وجود ألواح مكتوبة تحمل أسماء المئات من السكان الأصليين لأرخبيل الكناري، الذين تم بيعهم كعبيد في أسواق النخاسة بمدينتي أشبيلية وبلنسية خلال القرن 15. وقد أفضى النقاش الذي تناوله الأخصائيون في علوم اللسانيات والتاريخ والانتربولوجيا... المشاركون في أشغال هذه الدورة من الجامعة الصيفية، إلى وجود احتمال كبير لتهجير العديد من هؤلاء "الغوانش" إلى بلدان أمريكا اللاتينية أثناء عمليات الاستيطان التي شهدتها هذه الدول خلال فترة الاحتلال الإسباني لها، ما يترك الباب مشرعا للتنقيب عن إمكانيات انتقال بعض مظاهر الحضارية الغوانشية للقارة الأمريكية وتلاقحها مع حضارة الشعوب الأصلية لهذه الرقعة من العالم، خاصة منها شعب ""المايا"، وشعب "الازتيك". *و.م.ع