بالنسبة لسكان منطقة وادي البربر الجبلية النائية الواقعة قرب الحدود الجزائرية، لم تحدث الديمقراطية التونسية الناشئة أي تغيير يذكر في حياتهم حيث مازال يتعين عليهم بعد ثمانية أعوام من الثورة التونسية قطع أميال كل يوم على ظهر حمار لجلب المياه إلى منازلهم. قرب العيون التي ملأوا منها براميل متوسطة الحجم من الماء من نفس الأحواض الأسمنتية التي كانت حيواناتهم تشرب منها، أوضح أغلب من تحدثت رويترز إليهم أنهم لا ينوون التصويت في الانتخابات المقبلة، ولا يعتقدون أصلا أن تغيير الحكام سيؤثر على حياتهم بأي شكل. يتنافس 26 مرشحا للفوز بالرئاسة في الدورة الأولى التي تجري يوم الأحد، في حين تجري الانتخابات البرلمانية التي ستفرز رئيس الوزراء ورئيس البرلمان في السادس من أكتوبر تشرين الأول المقبل. بالنسبة للعديد من التونسيين الأكثر فقراً، قوض الفقر والبطالة وضعف الخدمات العامة الثقة بالسياسات الديمقراطية الجديدة لبلد برز باعتباره النجاح النسبي الوحيد لانتفاضات "الربيع العربي" التي انطلقت شرارتها من تونس في 2011. تقع منطقة وادي البربر النائية التي خلت من أي مرافق سوى أحواض اسمنتية ملوثة تصل إليها مياها غير معالجة من عيون على بعد نحو 25 كيلومترا من بلدة فرنانة التي تعتبر نقطة رئيسة لتزويد سكان المناطق المحاذية بما يحتاجونه. لكن فرنانة أيضا بلدة صغيرة ولا يحتاج الزائر وقتا طويلا فيها ليرى معاناة أهاليها من التهميش والفقر وانتشار البطالة. في وسط فرنانة كان يبدو واضحا غضب بعض الأهالي وهم يشاهدون حافلة حملة تتجول في البلدة عليها شعارات وملصقات أحد المرشحين الستة والعشرين للرئاسة. كان منذر الجوادي أحد سكان البلدة يلوح بيديه غاضبا بينما كانت امرأة اخرى تصيح موجهة الشتائم لفريق الحملة. ويتحدث الجوادي (45 عاما) لرويترز قائلا "الديمقراطية لا تعني لنا شيئا سوى أنها حديث يردده السياسيون عبر شاشات التلفزيون". ويضيف "أنا أعاني جاهدا من أجل إطعام أطفالي الثلاثة ولا أحد يهتم بنا. لماذا تذكرونا فجأة؟ أين حلولهم للمنطقة؟ هل سنأكل أو نشرب الديمقراطية؟" وتونس مهد انتفاضات "الربيع العربي" هي الدولة الوحيدة التي حققت انتقالا سلميا إلى الديمقراطية في أعقاب ثورات 2011 التي أزاحت حكاما مستبدين من السلطة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. لكن مع حلول الوقت لاختيار خلف لأول رئيس منتخب ديمقراطيا، الباجي قائد السبسي الذي توفي في يوليو تموز الماضي عن 92 عاما، أصبح كثير من الناخبين في حالة مزاجية غاضبة ومحبطين من الحكام والطبقة السياسية عموما لفشلهم في تحسين نوعية الحياة اليومية. ولاقت أول مناظرات رئاسية متلفزة في البلاد اهتماما واسعا نهاية الأسبوع على اعتبار أنها إشارة جديدة لتدعيم الديمقراطية الناشئة. لم يشر أحد ممن تحدثت اليهم رويترز في فرنانة أو في غيرها من مناطق أخرى إلى أنه مستاء من الحكم الديمقراطي بل إن الغضب كان يصب في أنهم يريدون أن يرافق ذلك تحسين وضعهم. ولم تتجاوز نسبة المشاركة في انتخابات البلديات العام الماضي 34 بالمئة. ويحذر السياسيون من أن الفشل في إظهار تقدم اقتصادي واجتماعي حقيقي قد يعرض المشروع الديمقراطي نفسه للخطر. وقال رئيس الوزراء يوسف الشاهد أحد المرشحين البارزين للرئاسة في مقابلة مع رويترز الشهر الماضي إن الفرص الاقتصادية يجب أن تتحسن حتى تلحق تونس بنادي الدول الديمقراطية القوية. ويعد مهدي جمعة رئيس الوزراء السابق بدوره بإنعاش الاقتصاد التونسي المنهار. وتنصب أغلب وعود بقية المترشحين أيضا على تحسين ظروف المعيشة الصعبة للتونسيين. * إضرابات وبطالة ونقص مياه صناعة السياحة، وهي مصدر رئيسي للعملة الأجنبية في البلاد، تعافت فقط هذا العام من أثار هجمات المتشددين قبل أربعة أعوام. وفي السنوات الماضية تم خفض الإنفاق العام بشكل حاد بهدف إصلاح المالية العمومية وخفض العجز، في حين أن النمو الاقتصادي لم يرتفع بسرعة كافية لامتصاص البطالة التي ظلت مرتفعة في حدود 15.2 بالمئة هذا العام مقارنة بنحو 12 بالمئة في 2010. ولا تخلو البلاد من إضرابات مستمرة في عديد القطاعات العامة للمطالبة برفع الأجور وتحسين ظروف العمل مما أدى في بعض الأحيان إلى احتجاجات مضادة. ويشكو التونسيون من سوء الخدمات العامة في أغلب المرافق مثل المستشفيات والنقل والإدارات العامة. وخارج أحد مكاتب البريد الكبيرة بالعاصمة التي أغلقت لأيام بسبب إضراب هذا الشهر، حاول محتجون غاضبون اقتحام المكتب للمطالبة باستئناف العمل حتى يتمكنوا من سحب أموال. واحتج أيضا مئات المتقاعدين ممن فشلوا في الحصول على معاشاتهم بسبب الإضراب. وقالت سهام بن سالم وهي تبكي خارج مكتب البريد "لا يمكنني سحب 50 دينارا (17 دولارا) لقضاء شؤون عاجلة". وأضافت "العصابات، سياسيون ونقابات، سيطروا على البلاد وأصبحوا يتصرفون كأنها ملك خاص. هم فقط من استفادوا من الثورة وبقينا نحن نعاني الويلات". في الريف والمناطق النائية التونسية، يبدو أن الصخب السياسي الذي يطغى على العاصمة بلا معنى هناك، فكل هم سكان هذه الجهات هو تخفيف المعاناة من أوضاعهم الصعبة وعزلتهم. وعلى بعد كيلومترات من فرنانة باتجاه الحدود الجزائرية، كان أهل وادي البربر يأملون في أن تجلب لهم الثورة المياه الصالحة للشرب وبقية مرافق الحياة الضرورية. لكن لسوء حظهم لا يزال يتعين عليهم ركوب الحمير لمدة ساعة كل يوم للوصول إلى البئر. وقالت نورة المشرقي (38 عاما) لرويترز بينما كانت بجانب عين تملأ منها الماء في أكياس هي وقرويون آخرون "أعرف أن الرئيس مات، لكنني لا أعرف من هو الرئيس الآن. لا أحد يأتي هنا. لا قبل الثورة ولا بعدها." تقطع نورة حوالي 10 كيلومترات يوميا على ظهر حمار لنقل أكياس من الماء. وتقول إن طموحاتها بسيطة هي أن توفر لابنها وابنتها ما يلزم لمواصلة الدراسة. وفي نفس المنطقة وعلى بعد كيلومترين فقط تقع ثلاثة أكواخ من الطين والقش، يسكنها ثلاثة أخوة من عائلة بن رباح مع زوجاتهم وأبنائهم في حياة تبدو معزولة تماما عن العالم وعن تونس وحتى عن فرنانة التي تقع على بعد 25 كيومترا فقط. هؤلاء يشربون مياها اختلطت بالتراب والحشرات وتنام كل أسرة منهم مكونة من ستة أفراد تحت سقف كوخ يكاد يسقط على رؤوسهم. الرجال عاطلون عن العمل يقضون يومهم في ملء المياه وزراعة بعض الخضروات والبقول ولا يجدون مالا لتعليم أطفالهم. لكن رغم كل ذلك يقول أحمد بن رباح (49 عاما) إنه سيصوت في الانتخابات المقبلة، مع أنه لا يعرف أسماء السياسيين ولابرامجهم. لذا سيسأل أحمد أهل القرية الذين يعرفون أكثر منه ليطلب رأيهم لمن سيصوت. مضيفا "سأصوت ولو كانت بارقة الأمل ضيئلة جدا..من يدري". يتحدث أحمد بمرارة لفريق رويترز قائلا "في المرات القليلة التي شاهدت فيه التلفزيون ، فهمت أن السياسيين لا يتحدثون عن أشخاص مثلنا". *رويترز