كان جابر طالبا بالقسم الأدبي في المرحلة الثانوية ويساعد والدهأحيانا في جني الزيتون في قريته النائية قرب الحدود مع الجزائر. أما رفيقه فكان أيضا شابا في مقتبل العمر يعيش في العاصمة تونس وكان يبدو أنيقا ومفعما بالحياة والحيوية ويعشق ارتداء أفخم الملابس المستوردة. جابر الخشناوي وياسين العبيدي شابان ينحدران من عائلتين من الطبقة الوسطى وحصلا على تعليم جيد ولم يظهر عليهما إلا النذر اليسير من ملامح التشدد الديني.
وفي شهر مارس آذار الماضي هاجم الخشناوي والعبيدي متحف باردو بالعاصمة تونس. وخلال الهجوم الذي استمر ثلاث ساعات واحتجزا خلاله رهائن تمكنا من قتل شرطي و21 سائحا من فرنسا وإيطاليا واليابان وروسيا واسبانيا وكولومبيا.
واقتحمت القوات الخاصة المتحف وقتلت المهاجمين لتنهي واحدا من أكثر الهجمات دموية في تاريخ البلاد.
الشابان عاشا حياة كانت تبدو عادية ولكن في شهر ديسمبر كانون الأول الماضي أمضيا أوقاتا في معسكرات تدريب يشرف عليها جهاديون في ليبيا وفقا لمسؤولين في وزارة الداخلية قبل أن يعودا إلى تونس بفكر أكثر تشددا وتدريب عسكري وقتالي مكتمل.
ومثلما غادرا تونس عبر مسالك تهريب عادا إليها عبر نفس الطريق بمساعدة مهربين عبر الحدود الشاسعة بين البلدين.
تظهر قصة الشابين كيف أصبحت مهمة تونس شائكة ومعقدة في وقف مثل هذه الرحلات.
وفتحت مجزرة باردو باب الجدل من جديد حول كيفية تعزيز الأمن والاستقرار مع المحافظة على الحريات الناشئة التي أتاحتها الانتفاضة التي أطاحت بزين العابدين بن علي من الحكم قبل أكثر من أربع سنوات.
وتونس واحدة من أكثر الدول العربية علمانية. وحصدت إشادة واسعة مع إكمال انتقالها الديمقراطي بنجاح بانتخابات حرة ودستور جديد وتوافق سياسي بين الإسلاميين والعلمانيين.
ولكن في الوقت نفسه أصبحت تونس أكبر مصدر للمقاتلين الأجانب في سوريا والعراق ضمن تنظيم الدولة الإسلامية بحوالي ثلاثة آلاف مقاتل حسب ما أكده مسؤولون حكوميون.
ولكن هذا ليس كل شيء. فالتونسيون أصبحوا يحتلون مواقع متقدمة في صفوف هذه الجماعات في سوريا وليبيا ومنهم من يشرف على معسكرات تدريب في ليبيا وآخرون يقومون بذبح رهائن.
ويقول رفيق الشلي المسؤول بوزارة الداخلية إن عدد المقاتلين التونسيين في ليبيا فقط يصل إلى نحو 800 مقاتل منهم الاثنان اللذان عادا لتنفيذ هجوم باردو الدامي.
وفي مزرعة صغيرة في منطقة إبراهيم الزهار بقرية السبيبة النائية التابعة لمحافظة القصرين قال عز الدين الخشناوي والد جابر أحد مهاجمي متحف باردو لرويترز إنه لا يدري كيف اعتنق ابنه هذا الفكر العنيف.
وأضاف بنبرة امتزج فيها الألم والمرارة بالحيرة "هل هي المساجد¿ هل هي شبكات تجنيد¿ لا أعرف حقا. لكن ما أعرفه جيدا أني ربيت ابني بشكل لائق."
ومضى قائلا لرويترز "ابني خسر حياته في مقتبل العمر ولكنه أزهق أيضا أرواح ناس أبرياء أتقدم لهم بالتعازي وأطلب من عائلاتهم العفو لأنهم قتلوا بلا ذنب."
وقال مسؤول أمني كبير تحدث لرويترز إن المهاجمين هما منتوج التحول السياسي الكبير في تونس منذ انتفاضات الربيع العربي.
وأضاف "الأمر يشبه قدرا كان يغلي بقوة ثم انفجر بعد فتحه. الشبان الذين يسافرون للقتال هم قنابل موقوتة قد تنفجر في أي وقت عند عودتهم لبلدهم."
وبالفعل عاد إلى تونس حوالي 500 مقاتل كانوا في سوريا اعتقل عدد منهم بينما يخضع آخرون لمراقبة أمنية مشددة.
وكشف وزير الداخلية محمد ناجم الغرسلي أن تونس منعت في السنوات الأخيرة حوالي 12 ألف شاب من السفر للالتحاق بساحات القتال في سوريا وليبيا.
يقع بيت جابر الخشناوي على سهل من أشجار الزيتون ومزارع فاكهة في قرية السبيبة التي تضم حوالي ستة آلاف نسمة.
وتشتهر السبيبة بإنتاج التفاح عالي الجودة. ولكن على طول طريق هذه القرية تنتشر أيضا أكواخ لبيع أوعية البنزين المهرب من الجزائر المجاورة الغنية بالنفط والغاز.
والسبيبة قرية معزولة تكاد تكون الفرص الحقيقية لشبانها معدومة بل إنها قد توفر أرضية خصبة للاحتقان والسخط.
وفي سيدي بوزيد التي لا يباعد بينها وبين السبيبة سوى 80 كيلومترا تقريبا أقدم بائع خضر وفواكه محبط قبل أربع سنوات ونصف السنة على إحراق نفسه بعد أن صادرت الشرطة عربته الخشبية مفجرا انتفاضة عارمة انتهت بالإطاحة بالرئيس السابق وألهمت شعوب المنطقة.
ولكن جابر الخشناوي ذا الواحد والعشرين عاما لم يكن أميا ولا فقيرا ولا عاطلا بل كانت ظروفه عادية وكان يحصل على مصروفاته اليومية من مساعدة والده في الاعتناء بالمزرعة ومن جني التفاح خلال العطلات الدراسية.
وينتمي جابر لعائلة تضم ثلاثة أعمام مدرسين وأختا تدرس في شعبة الآداب في الجامعة.
تقول عائلته التي تحدثت إليها لرويترز إن جابر لم يظهر تغييرا كبيرا في البيت حتى يتحول من شاب عادي إلى جهادي متشدد يخلف القتلى والدمار واللوعة في نفوس عائلته وعائلات ضحاياه.
جابر كان يركب الحافلة يوميا في ساعة مبكرة ليصل إلى معهده بعد رحلة طولها 18 كيلومترا.
ويقول والده عز الدين إن ابنه كان يجتمع مع العائلة ويناقش معها كل مواضيع البرامج التلفزيونية وإنه كان لا يستفزه إلا صور القتل والدمار في سوريا أو صور النساء العاريات التي تجبره على الخروج من البيت احتراما للعادات الاجتماعية.
وإذا كانت حياة جابر تبدو عادية في البيت مع العائلة فإن التحول الذي عاشه في المعهد كان قويا حسب زملائه ومدرسيه في منتصف 2014.
ويقول عبد اللطيف الخشيني رئيس بلدية السبيبة إنه في 2012 و2013 نصب سلفيون متشددون خياما دعوية في ساحة واسعة أمام المعهد لبث الخطب الدينية وحث الطالبات على ارتداء الحجاب وإقامة الصلاة.
ويضيف أن المسجد الرئيسي في السبيبة كان في نفس الوقت تحت سيطرة سلفيين وإمام متشدد يلقي خطبا تدعو لنصرة المعارضين للرئيس السوري بشار الأسد.
وبعد أن عانى الإسلاميون من القمع والسجن طيلة عقود حكم بن علي وظلوا بعيدا عن السياسة برزت الجماعات الإسلامية بقوة بعد انتفاضة 2011.
وبينما اختارت جماعات سلفية العمل السياسي وكونت أحزابا معترفا بها مثل حزب التحرير اختارت أخرى مواجهة حكام تونس ووصفتهم بالكفار العلمانيين خصوصا مع رفض إقرار الشريعة كمصدر تشريع في الدستور الجديد.
وجماعة أنصار الشريعة هي أبرز الجماعات التي برزت بعد انتفاضة 2011. وألقت الحكومة باللوم على هذه الجماعة بقيادة أبي عياض -وهو مقاتل سابق في أفغانستان- في هجمات استهدفت قاعات سينما ورسم وفي هجوم على السفارة الأمريكية في 2013.
واستفاد المتشددون من مناخ الحرية بعد الانتفاضة وسيطروا على مئات المساجد في البلاد وأقاموا خياما دعوية في الأماكن العامة وأمام المدراس.
وبدأت الحكومة منتصف 2013 حملات واسعة لاسترجاع نفوذها على المساجد لكن المعركة لم تكن سهلة. ولا يزال متشددون يسيطرون على عدد قليل من المساجد حتى الآن.
وأمام معهد السبيبة قال شاب اسمه أمين "كانوا يقميون خياما دعوية ويبثون خطبا عن الصلاة وضرورة ارتداء الحجاب وعن الجهاد."
أما الخشيني -وهو أيضا مدرس فلسفة في معهد السبيبة- فيرى أن جابر سقط ببطء فريسة في أيدي المتشددين. فبعد أن كان طالبا عاديا مثل بقية أقرانه بدأ في التحول منتصف العام الدراسي وأصبح يؤم زملاءه في الصلاة بالمعهد.
ويروي كيف أنه صار أكثر حدة في النقاش خصوصا في درس الفلسفة ويختار مرات مقاطعة النقاش والانزواء في مكان في آخر الفصل ليكتفي بالسخرية عندما يكون الدرس عن الأنا والآخر أو الحرية والدين والسياسة.
وفي ديسمبر كانون الأول الماضي اختفى جابر فجأة قبل أن يتصل بعائلته من رقم هاتف ليبي ويخبر والده بأنه يعتزم الذهاب للعراق. ويقول الأب إنه ألح عليه بالرجوع للبيت ولكنه رفض قائلا "أنا بخير في أرض الله ولا يمكنني العودة."
ويقول رئيس بلدية السبيبة إن أكثر من 20 شابا من بينهم مدرسون وصيدلي من السبيبة سافروا للقتال في سوريا وليبيا ضمن تنظيمات متشددة خلال العامين الماضيين.
ولكن منذ بداية 2014 وعلى غرار أغلب المدن التونسية حظرت السلطات المحلية في السبيبة إقامة الخيام الدعوية ووجد إمام المسجد نفسه مضطرا لتغيير الخطب على حد تعبير الخشيني.
ويضيف رئيس البلدية لرويترز "حقيقة لا توجد أي وسيلة للترفيه هنا. ليس هناك إلا المساجد والمقاهي في السبيبة. المدينة ظلت مهمشة ومنسية منذ وقت طويل ولكن للأسف لما عرفت اليوم سيرتبط اسمها للأبد بالإرهاب وبمجزرة بادرو."
أما ياسين العبيدي ذو السبعة والعشرين عاما والذي شارك الخشناوي في الهجوم على المتحف فينحدر أيضا من عائلة تنتمي للطبقة الوسطى. وكان العبيدي مقبلا على الحياة مهتما بآخر صيحات الموضة ويرتدي أفخم الملابس المستوردة.
لم يظهر هذا الشاب الذي يقطن مع عائلته بيتا مكونا من طابقين في منطقة كرش الغابة بالعاصمة تونس علامات التشدد الديني بل كان يراقص الفتيات في حفلات العائلة ولا يرفض أن يرى خاله يشرب الخمر في البيت وفقا لما ذكره أقاربه.
ولكن ياسين بدأ العام الماضي في التردد على جامع التوبة بالحي الذي يسكنه والذي يسيطر عليه سلفيون منذ انتفاضة 2011. وكان يلتقي مع شبان آخرين يتبادلون الأفكار بشأن الدين ويستمعون لدروس دينية في المسجد ويتحدثون عن الوضع في سوريا وليبيا.
وفي ديسمبر كانون الأول 2014 غادر ياسين بيته حيث كان يقيم مع أمه وأبيه وأخته وأخبر عائلته أنه ذهب لمدينة صفاقس جنوبي العاصمة للبحث عن عمل ليتضح لاحقا أنه التحق بمعسكر لتدريب الجهاديين في ليبيا حيث تلقى تدريبات مع الخشناوي ليعودا لتونس مثلما غادراها على متن سيارات تهريب عبر الحدود الشاسعة مع ليبيا وفقا لما ذكره مسؤولون.
ولكن ياسين العبيدي عاد لبيته من جديد وكأن شيئا لم يكن وتسلم عملا مع أخته في وكالة للسفر والسياحة. لا شيء كان يبدو غير عادي في حياته حتى يوم الهجوم على متحف باردو. تناول ياسين فطوره ثم ذهب لعمله ليطلب بعد ذلك مهلة صغيرة ويلتقي بجابر الخشناوي ليشرعا في تنفيذ هجوم مروع كان صدمة قوية للحكومة والشعب التونسي.
الهجوم خلف تضامنا عالميا واسعا مع تونس ولكنه أظهر أن الديمقراطية الناشئة في مهد انتفاضات الربيع العربي أصبحت مهددة بقوة من الجماعات المتشددة خصوصا مع تزايد الفوضى في الجارة ليبيا وتوسع نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية هناك.
وسارعت الولاياتالمتحدة عقب الهجوم بإعلان زيادة المساعدات العسكرية لتونس لثلاثة أمثالها واعتزامها تدريب الجيش التونسي لأول مرة.
وخلال مقابلات كثيرة أجراها فريق رويترز روت أكثر من ست عائلات قصصا مشابهة. كلها من مستوى اجتماعي عادي تضم مدرسين ورياضيين وحاصلين على شهادات جامعية غادر أبناؤها للقتال في سوريا وليبيا.
وفي سوسة المنتجع السياحي المعروف وربما إحدى أكثر المدن ليبرالية وانفتاحا في تونس توجد عائلة نضال السالمي -وهو لاعب كرة قدم محترف في النجم الساحلي ومنتخب بلاده- التي فقدت ابنها بعد أن ترك ميادين الكرة وانضم إلى ميادين القتال في سوريا. عن رويترز