على الرغم من مرور ما يقرب من عقدين من الزمن على مقالة كتبتها تحت عنوان: « التنمية مطلوب لا يلحق »، أجدني اليوم، وأنا أفكر في واقع المجتمعات العربية والإسلامية، أصدر عن القناعة نفسها المتضمنة في عنوان هذه المقالة. وكيف يحيد المرأ عن هذه القناعة والواقع المنظور يجلي لنا عالما عربيا ممزقا، منقسما على ذاته، تَعِبا وكأن شعوبه تخرج من حرب خلفت « صَرْعى نَوْؤُها مُتَخَاذِل » كما يقول الشاعر، أي لا يقوى من يقوى منهم على النهوض إلا بجَهد ومشقة! إلا أن هناك فرقا في منطلقات التفكير في موضوع التنمية بين الأمس واليوم. فقبل عشرين سنة، كانت صدورنا تتسع للحديث عن المفاهيم والمصطلحات، تحصيلا وترجمة وتأصيلا، كما كان يحلو لنا أن نردد؛ كما كان الذوق العام يستسيغ ضروبا من النزوع نحو الفكر المثالي المجرد عن الواقع؛ حيث لم يكن المرأ يجد أدنى حرج في استدعاء أفكار « هونري دايفيد ثورو » (Henri David Thoreau) من أمريكا القرن التاسع عشر، أو أفكار « كينيث وايث » ( Kenneth White ) الجيو-شاعرية (Géo-poétiques)، وغيرهم كثير. أما اليوم فنشعر وكأن الخناق الذي يشتد على المجتمعات العربية يُضيِّق ساحة التفلسف، بل ساحة التنفس؛ لذلك تجد الكثير منا، تحت ضغط الواقع المرير، يصرفون هممهم وعقولهم للتفكير في حيل عملية وحلول واقعية تجنب المجتمعات العربية مزيدا من الإفلاس، بعيدا عن كل أنواع التضخم الإيديولوجي والمناظرات العقيمة حول نموذج التنمية الأمثل، أهو « النموذج الإسلامي »، أم « النموذج الحداثي »، مثلا. إن فشل نماذج التنمية في الوطن العربي شيء سيئ، وأسوأ منه عدم الإقرار بهذا الفشل، ثم التمادي في التغني بإنجازات عظيمة لا وجود لها إلا في خيال نخب سياسية وإعلامية مفصولة عن واقع مجتمعاتها المزري. فقد يكون الباعث وراء الإصرار على إخفاء أعطاب التنمية هو الخوف من الإساءة إلى صورة الأنظمة السياسية ومن القدح في شرعيتها بوصفها المسؤول الوحيد عن تنمية المجتمع. فكلما كان النظام السياسي شموليا، يدعي القدرة على تطوير المجتمع لوحده، شق عليه الاعتراف بتخلف هذا المجتمع، وصار حاله أشبه بحال من يهرب إلى الأمام، حتى إذا نظر من حوله وجد نفسه وحيدا لا يلحق به الآخرون. والحال أن مسؤولية تنمية المجتمع لا تقع على عاتق السياسي فحسب، بل يشترك في حملها مكونات أخرى، على رأسها المكون الثقافي. من ينظر مليا في واقع المجتمعات العربية لا يفوته الانتباه إلى وجود حالة من التنافر بين السياسي والثقافي، تنافر غالبا ما ينتج عنه تعطيل واضح لدور الثقافة في تنمية المجتمع. لا شك أن لشمولية العقل السياسي دور لا يستهان به في هذا التعطيل. غير أن للثقافة كذلك دور كبير سواء في تحديد طبيعة العقل السياسي من جهة، أو في تحريك دواليب التنمية من جهة أخرى. ويخيل إلينا أن هذا الدور لا ينال حظه من النقد والتمحيص والتحليل، وذلك لأسباب كثيرة، منها غلبة النزوع نحو التحليل السياسي وسهولة إتيانه، مقارنة مع ما يمكن أن نصطلح عليه ب« التحليل الثقافي » ( Cultural analysis ). الواقع أن المجتمعات العربية في أمس الحاجة اليوم إلى أن تُعرض على أخصائيين في التحليل الثقافي، تماما كما يعرض من يعاني من اضطرابات نفسية على أخصائي في التحليل النفسي. يفترض في التحليل الثقافي أن يفضي إلى الوقوف عند أنواع السلوك المسؤولة عن جمود المجتمع وخمول أفراده، قبل تعيين السلوك الثقافي الإيجابي المسعف في تحريك هذا المجتمع باتجاه الإبداع والتطور. ومن حسنات هذا التحليل أنه كفيل بأن يجنب الثقافة العربية والإسلامية عموما السقوط في متاهات فكر شمولي—هو في أصله الوجه الآخر للشمولية والاستبداد السياسيين—فكر يحجر على عقل الإنسان ليوهمه بإمكانية بلوغ نظرية جامعة مانعة، تحدد بدقة أسباب تخلف المجتمعات العربية الإسلامية وتعين سبل نهوضها. ومن آفات هذا الفكر أنه يرهن الفعل الحضاري باكتمال النظر في اللغة والنصوص والتاريخ، وأصحابه يجهلون أن ما يمارسونه في واقع الأمر هو قراءة بعدية فيما حدث ويحدث، أو عبارة عن وصل النقاط بعضها ببعض ( To connect the dots ) كما يقول الأنجلوساكسونيون. كما أن من حسنات التحليل الثقافي أن أصحابه، مثلهم مثل أصحاب التحليل النفسي، يصدرون عن قناعة مفادها أن الحالة الثقافية الموضوعة تحت مجهر الدراسة قابلة للتغير والخروج من حالة مرضية إلى حالة صحية، من وضع سيء إلى وضع أفضل. فالقول بسوء السلوك الثقافي وعجزه عن مواكبة مطلب التطوير في العالم العربي الإسلامي لا يفيد البتة القول بأن التخلف جوهر ثقافي ملازم لهذا العالم. كل الثقافات، كما يوضح ذلك « هانس روزلين » ( Hans Rosling ) في كتابه Factfulness عن المعرفة المرتبطة بالمعطيات الحقيقية—عوض المعرفة المجردة عن الواقع—تتحرك ولا يجوز إلصاق تهمة الجمود بثقافة دون أخرى. فصدر الثقافة السويدية مثلا، لم يكن قبل ثلاثين سنة يتسع لما يتسع له اليوم من حديث عن الحريات؛ ف « روزلين » يتذكر كيف كان من قبيل المحرمات ذكر كثير من الأمور في حضرة جَدِّه، أمور أصبحت طبيعية بحيث لم يعد ذكرها يثير أي ردة فعل لدى الأجيال الجديدة. نتخلص بعد هذا التقديم، الذي نراه ضروريا من الناحية المنهجية، إلى تحليل بعض التفاصيل والجزئيات المسعفة في فهم الظواهر الثقافية ودورها في عرقلة التنمية داخل الوطن العربي والإسلامي تحديدا. وأستأذن القارئ في أن أبدأ بتحليل عبارة طالما استوقفتني كما لا شك أنها تستوقف الكثيرين في الوطن العربي وهي حمالة لدلالات كثيرة أرجو أن نتوفق في إبراز بعضها. هذه العبارة تتكرر مكتوبة على حيطان القرى والمدن، وهي: « ممنوع البول ورمي الأزبال. النظافة من الإيمان والوسخ من الشيطان ». فمن دلالاتها الواضحة أننا أمام ظاهرة غريبة من ظواهر العجز عن الحفاظ على نظافة الأماكن العمومية، فضلا عما توحي به من افتقار للحس والذوق الجماليين. إلا أن ما يستوقف عقل المتأمل في هذه العبارة أكثر هو جوهرها الدال على أمرين اثنين معا: على حالة من حالات العجز، أولا هنا العجز عن الاعتناء بالفضاء العمومي ؛ ثم على حالة من حالات استدعاء المطلق، ثانيا هنا المطلق الديني. إن المرء ليعجب كيف آلت الأمور إلى حد جعل المجتمع عنده يستدعي خطابا دينيا مطلقا، كي يحافظ على نظافة مكان عمومي وجماليته، خصوصا إذا كان هذا المكان من الأمكنة التي عُرفت أيام الاستعمار بجمالها الأخاذ وبأشجارها الباسقة وأزهارها المتفتحة. إنه لمن المثير للشفقة أن نضطر إلى استدعاء « الإيمان » و « الشيطان » وما شابه، كي يُبلِّغنا ما تحقق بشكل طبيعي ويتحقق في واقع الآخرين، سواء ممن سبقونا إلى المكان أو ممن يعيشون في أمكنة أخرى. حالة هذه العبارة تُجلي لنا نمطا سائدا في واقع المجتمعات العربية. فهذه المجتمعات تتأرجح بين العجز عن إتيان الأشياء الصغيرة، من ناحية؛ وبين استدعاء أنواع من المطلق، سواء أكان مطلقا دينيا أو إيديولوجيا أو ما شابه، من ناحية أخرى. يمكننا القول، بعبارة أخرى، بأننا إزاء حالة ثقافية يقترن فيها الجمود والركود والشلل بالتضخم الإيديولوجي. وهي حالة تُعزى في ظننا إلى عجز المؤسسات التعليمية التربوية والدينية الأخلاقية والإعلامية الفنية والسياسية التشريعية والمدنية الجمعوية عن الاضطلاع بدورها التثقيفي، أي الانتقال بالمجتمع من وضع ثقافي إلى وضع ثقافي أفضل. لو أخذنا نظافة الفضاء العمومي مثلا، سنجد بأن بعض القرويين، حديثي العهد بالمدينة، قد لا يرون في التبول أو التغوط وراء الحائط ما يخدش إيمانهم، كما قد لا يرون في إلقاء روث الشياه بالقرب من منازلهم عملا من أعمال الشيطان. فحالتهم الثقافية قد تمنعهم من فهم معنى النظافة على الوجه الذي يفهمه ساكن المدينة. ولذلك فإن تحديد معنى النظافة وتنزيله في الواقع، مثلا، هو مناط تربية على سلوك يومي، تتولى أمرها المؤسسات المذكورة. جوهر المشكلة هو أن عناية هذه المؤسسات مصروفة إلى إثبات شرعية المطلق الذي تصدر عنه، أهو تراثي ديني أصيل، أم حداثي علماني دخيل، أكثر من انصرافها إلى التثقيف العملي للمجتمع. وهذا الأمر مرده إلى الحاجة إلى تحصيل السلطة الإيديولوجية السياسية في سياق مجتمعات أصبحت تتنازعها ثقافتان: ثقافة تقليدية وأخرى معاصرة. أخذت السلطة السياسية في مجتمع ما بعد الاستعمار مسؤولية التوفيق بين الثقافتين على عاتقها. وقد كانت لهذا الأمر محاسن لا يمكن إنكارها. غير أنه كانت لهذا الأمر كذلك مساوئ لا يمكن إغفالها، منها أن هذا التوفيق ظل أمرا إيديولوجيا تقوم عليه شرعية السلطة السياسية فحسب، ولم يصبح بدوره ثقافة المجتمع. ولعل هذا ما أفضى إلى فضاءات عمومية تتجاور فيها مظاهر تخلف تُشعر المرء وكأنه في القرون الوسطى، ومظاهر تقدم تشعره وكأنه في أكثر بلدان العالم معاصرة. يكفي أن تلتقط صورة لسيارة مرسيديس من أفخم السيارات وأحدثها، بجانب عربة خشبية مهترئة يجرها حمار، في حي وسط مدينة عربية حديثة، كي تفهم بأن المجتمع قد أصبح فاقدا للحس الثقافي الذي يسعفه في تجسير الهوة بين الحديث والقديم، أو بين المتقدم والمتخلف. قد يخيل إليك أن سائق المرسيدس وسائق الحمار يتقاسمان الفضاء العمومي، والواقع أنهما يتنازعانه، أو يمرون منه مرور الكرام، كل واحد منهما ينتظر أن يقضي حاجته كي يهرع إلى فضائه الخاص. لقد راهنت مجتمعات ما بعد الاستعمار على السلطة السياسية أن تؤلف بين الثقافتين المتنافرتين، غير أنها أصبحت مع مرور الزمن تكتشف أن الأمور تؤول إلى إفقار ثقافي ممنهج، من تبعاته الجمود الحضاري المقترن بالتضخم الإيديولوجي. ولقد أصبح مؤكدا لدى المتأمل في واقع العالم العربي المعاصر أن مظاهر التقدم والرقي والرخاء والتطور والتحديث والتنمية ما هي إلا صور تخفي حقيقة التخلف والانحطاط والفقر والتدهور والتقليد. ولقد بلغ التنافر بين الصورة والحقيقة درجة أصبح عندها ينذر بعواقب وخيمة، حتى أنه أصبح من الصعب تصور حل سياسي لمعضلات التنمية في الوطن العربي. أصبح من المؤكد أن عهد القابلية لحكم المجتمعات العربية والإسلامية اعتمادا على ورقة التوفيق الإيديولوجية بين الثقافتين الأصيلة والدخيلة قد انتهى. ولعل ما عجل بنهاية هذا العهد هو وسائل التواصل الجديدة التي أصبحت تمد الشعوب بوسائل الانفتاح على الثقافات الأخرى والنظر في كيفية الاقتباس منها والتفاعل معها. إن هذه الوسائل وضعت حدا للتضخم الإيديولوجي الذي ساهم في إخصاء ووأد الثقافة العربية وشل حركتها إلى درجة أن أبسط الإنجازات الحضارية، من قبيل تشييد بناية صغيرة، صار يقتضي أطنانا من البلاغة الخاوية. لم يعد الحكم على الأشياء مثل التقدم والتطور والتنمية والحقوق وما إلى غيرها، يتم بمقاييس إيديولوجية يمينية أو يسارية، إسلامية أو حداثية، بل صارت هذه الأمور تقاس بمقاييس الواقع المنظور. وهذا ما قد يبعث الحياة في الثقافة العربية من جديد ويشحذ الهمم نحو النهوض. لم يعد للسلطة السياسية في سياق « ما بعد ما بعد الاستعمار » في الوطن العربي من خيار سوى دعم الشعوب في سعيها لإنعاش حياتها الثقافية؛ وإن لم تفعل وكثير منها لن يستطيع أن يفعل، لفوات الآوان فستصبح الثقافة العربية الإسلامية لقمة مستساغة في يد سوق ليبرالية همها الربح المادي فحسب. وليس للسلطة السياسية من خيار في هذا المسعى سوى أن تتوسل بالتربية والتعليم، وأن تجعلهما في مقدمة أولوياتها. وهذا الأمر يقتضي من جملة ما يقتضيه مفهوما جديدا ينآى بالمدرسة والمنظومة التربوية والتعليمية عن المقولات التي ارتكزت عليها في مرحلة ما بعد الاستعمار، حتى تتمكن الأجيال الجديدة من أسباب الحركة والفعل الثقافيين في بيئة كونية منفتحة. هنا تكمن الفرصة، لكن هنا كذلك يكمن التحدي. فالأمر بقدر ما يبدو مطلوبا قابلا للتحقق، يبدو كذلك مطلوبا لا يلحق. لن يجدي السلطة السياسية في المجتمعات العربية نفعا التفكير في استيراد نموذج للتنمية أو تنمية المجتمع من فوق، بعيدا عن واقع المجتمع الثقافي. ذلك أن تنمية المجتمع هي « صناعة » و « صيانة » في نفس الآن. قد نشتري المصنع الألماني جاهزا، من ألفه إلى يائه؛ وقد نعمل على استنبات نظام التدريس السويسري، أو استنبات النظام الديموقراطي الكندي؛ فهذه الأمور قد أصبحت متاحة، تدخل في عداد ما يمكن أن يباع ويشترى في السوق العالمية؛ لكن ما لا يمكن الظفر به بسهولة هو جاهزية المجتمع الثقافية اللازمة لصيانة هذا المصنع أو ذاك النظام المدرسي أو السياسي. فمن الخطأ تصور التنمية كمحطة نهائية، يبلغها المجتمع ليرتاح؛ ذلك أن صيانة التنمية قد تتطلب من الجهد والمشقة ما لم يتطلبه صناعتها. ولعله من الضروري القطع مع التصورات الخاطئة التي استقرت في اللاوعي الجمعي الثقافي العربي والتي تكون التنمية بموجبها هي مرحلة قطف الثمار. بل التنمية هي بداية العمل. وهذا ما يجب على المؤسسات المسؤولة عن تثقيف المجتمع تمريره كفكرة إلى الأجيال الجديدة وترسيخه كسلوك لديهم. وهنا أستسمح القارئ في الانتقال إلى الحديث عن أمور تجلي كيف ينظر غيرنا إلى ثقافتنا؛ فجزء من تجديد الوعي بذواتنا الثقافية قد يكون مأتاه من الانفتاح على آراء الآخرين. أذكر أن شخصا ألمانيا حل ضيفا عندي، بادرني بسؤال حول ظاهرة استرعت انتباهه وهو يطل من شرفة منزلنا على الشارع. لقد لاحظ كيف يقضي صاحب دكان يومه جالسا فوق صندوق وهو يحملق في كل اتجاه، ينتظر مجيء زبون من وقت لآخر، فأراد أن يعرف « لماذا لا يأخذ كتابا، أو يقوم بعمل يدوي، كالخياطة أو النسيج أو غزل الصوف، أو شيئا يملأ به الفراغ، ويشغل به أوقات الانتظار الطويلة؟ ». بعد تفكير في الموضوع أدركت أن ما استعصى على ضيفي الألماني فهمه هو في واقع الأمر سلوك ثقافي عام، يعكس علاقة قائمة مع العمل والمتعة، أو الوظيفة والراحة. لقد استقر في لا وعينا العربي الثقافي أن الحصول على العمل أو الوظيفة هو تتويج يستتبع الاسترخاء والراحة، على عكس غيرنا من الشعوب ممن لهم سلوك ثقافي آخر، يرون بموجبه أن العمل أو الوظيفة هما في حقيقة الأمر فرصة متاحة تسمح بتفتق مهارات الإنسان وتنميتها. ولعل من الأدلة الكبيرة على هذا الادعاء تفصيل صغير، نكاد لا نلتفت إليه، ألا وهو التفصيل المتمثل في تلك الأجراس الصغيرة التي، كما نراها في أفلام الغربيين أو نعاينها في واقعهم، توضع فوق أبواب الدكاكين لتنبه أربابها على دخول الزبائن. إن لهذه الأجراس الصغيرة وظيفة ثقافية وحضارية عظيمة؛ فهي تدل على سلوك ثقافي متأصل، يملي على صاحب الدكان التركيز والعمل والانشغال، حتى إذا جاء الزبون، دله على مجيئه رنين الجرس، فانقطع عن تركيزه وشغله ليستقبله. من أفدح الأخطاء ربط الحديث عن التنمية في الوطن العربي الإسلامي بإحداث فرص الشغل والعمل. صحيح أن خلق فرص الشغل أصبح ضرورة ملحة لشراء السلم الاجتماعي في مجتمع التفاوتات الطبقية المهولة، ولتنفيس الأجواء وتفريج الأوضاع التي تنذر بالانفجار؛ لكن توفير فرص الشغل لا يعني بأي وجه من الوجوه تأهيل المجتمع لمرحلة التنمية، بل قد يزيده تخلفا وجمودا، خصوصا مع الافتقار إلى التوازن بين طبيعة التكوين ومقتضيات العمل، أو في بيئة ثقافية يسود فيها سلوك غير ملائم لجعل العمل يصب في تنمية الفرد والمجتمع. لا يختلف هذا في شيء عن القول بأن بناء المستشفى ليس بالضرورة مؤشرا على التنمية أو خطوة في اتجاه تحسين حالة المجتمع الصحية. يحكي « روزلين »، انطلاقا من معاينة للواقع الإفريقي، عن حالات يكون فيها عدم بناء المستشفى أفضل من بنائه. يكفي إجراء عملية حسابية بسيطة ليفهم المرء أن مستشفى يستقبل ألف مريض يوميا، ولا يقوى على معالجة أكثر من مائة حالة، هو فكرة سيئة، يكون أفضل منها بكثير صرف الأموال في تربية المحيط على السلوكات الثقافية التي تجنب المجتمع مسببات المرض؛ فلعل موت عدد قليل من المرضى خارج المستشفى، مع وجود تربية على الوقاية، خير من انعدام هذه التربية مع وجود مستشفى يتحول إلى مستودع للجثث. نستخلص مما سبق ذكره أن المحيط الذي يُنتج المرض ليس في حاجة إلى مستشفى، بل هو، من باب أولى، في حاجة إلى تربية على سلوك يجنب الوقوع في المرض. ومثل هذا أن المجتمع الذي يُنتج التخلف تكون حاجته إلى الحديث عن التنمية أقل من حاجته إلى سلوك ثقافي يوقف صناعة التخلف. وبإيقاف صناعة التخلف ترتفع جاهزية المجتمع الثقافية وتكبر قابليته لحمل التنمية. من يتأمل واقع المجتمعات العربية تحديدا يجد أن الذي ينقصها ليس نماذج للتنمية، بل القطع مع جملة من الموروثات الثقافية التي لا تؤهلها لصيانة هذه النماذج. الحق أن الأمر ليس بالهين، فقد راكمت هذه المجتمعات من التخلف ما يجعل المتأمل ييأس من الطمع في تنميتها. فالأمر قد أصبح غاية في التعقيد، في ظروف عالمية صعبة تقلص معها هامش المناورة ومساحة التجريب. ومع صعوبة الوضع وتعقده يبدو لنا العالم العربي، مع درجات الاختلاف بين دوله، في حالة ضياع عاجزا عن إيقاف تصدع البنى السياسية والثقافية المنتجة للمعنى الذي يعين للأجساد وجهة الفعل التنموي. ومع هذا كله، يظل أمام الأنظمة التي لم يلحقها الانهيار هامش صغير للمساهمة في تأهيل مجتمعاتها للخروج من التخلف. لا مطمع في تأهيل المجتمع لصيانة أي نموذج للتنمية دون التسليم بالأمر التالي: أن التنمية أعقد من أن تناط بسلطة سياسية، مهما كانت عبقريتها؛ وأن سلوك المجتمع الثقافي هو القمين بصناعة التنمية وصيانتها. وعليه فكل سلطة سياسية تتوفر لديها الإرادة لتنمية المجتمع لا بد وأن تحرص أشد الحرص على تقوية مؤسسات التثقيف وتعزز دورها في الارتقاء بسلوك الأفراد الثقافي إلى درجة أعلى. ولا مناص في هذا الباب من الاعتناء بالتربية أكثر من الاعتناء بشيء آخر. ومعنى التربية هنا قد لا يتحقق دون فتح ورش مجتمعي كبير، يستهدف تأهيل الأطفال قبل سن التمدرس لسلوك ثقافي معين، تحدد معالمه الكبرى بعيدا عن تضخم المطلق الإيديولوجي، كما يستهدف تأهيل جحافل الأميين للمساهمة في التربية، ويعزز وعي المربين بدورهم في التثقيف. في الختام، لا بد من الإقرار بأن للسلطة السياسية في المجتمعات العربية اليوم عذرا في أن لا تلتفت للتنظير حول التنمية، وذلك لأنها تفكر تحت ضغط الزمن السياسي والإكراهات اليومية في حلول عملية لمعضلات مؤرقة، مثل البطالة المستفحلة التي جعلت مفهوم التنمية ينحصر في « فرص الشغل » فقط. ومع هذا الإقرار لا بد من الإصرار على حقيقة ما قيل قبل ما يقرب من عشرين سنة من كلام اعتبر حينها « فلسفة خاوية »، مفاده أن « التنمية مطلوب لا يلحق ». أظل عند هذا الرأي، ولو أني أقيد العبارة بأداة استثناء فأقول: « التنمية مطلوب لا يلحق…إلا إذا تم الاعتناء بتربية المجتمع ». وألح في هذا السياق على ضرورة التمييز بين صناعة النموذج التنموي وقدرة الثقافة على صيانته. كما ألح على أن المرحلة ليست مرحلة التفكير في التنمية، بل مرحلة التفكير في تأهيل سلوك المجتمع الثقافي للارتقاء به إلى مرتبة القابلية للتنمية. * كاتب وباحث